اشتدَّ النزاعُ بين أهلِ العلم في شأنِ ابن عربي وابن
الفارض في مصر في القرنِ التاسع الهجريِّ، وكان حاملُ لواءِ هذا النزاع بدايةً برهان
الدين البقاعي الذي ألَّفَ كتابًا يُكَفِّرُ فيه ابنَ عربي بلغة حادَّة، وكان
عنوانُ كتابه مستفزًّا لمن يرى الولاية لابن عربي؛ إذ سمَّى كتابَه: «مصرع التصوف،
أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي».

يقول البقاعي في خطبة كتابه:

لما رأيتُ الناسَ مضطربين في ابن عربي المنسوب إلى التصوف، الموسوم عند أهلِ الحقِّ بالوَحدة، ولم أرَ من شفى القلبَ في ترجمتِه، وكان كفرُه في كتابه (فصوص الحكم) أظهر منه في غيره، أحببتُ أن أذكرَ منه ما كان ظاهرًا، حتى يُعْلَمَ حالُه؛ فيُهْجَر مقالُه، ويُعْتَقَدُ انحلالُه، وكفرُه وضلالُه، وأنه إلى الهاويةِ مآبُه ومآلُه. [1]

أثار هذا الموقف حفيظة كثيرين من بينهم السيوطي الذي
انتصب للدفاع عن ابن عربي، والرد على البرهان البقاعي وغيره ممن يحملون مقالتَه،
وألّف رسالةً ينافح فيها عن ابن عربي، وأسماها: «تنبيه الغبي في تخطئة ابن عربي»
تعريضًا بالبقاعي ومن نحا نحوَه.

انقسام أهل العلم في ابن عربي

سُئلَ السيوطي عن ابن عربي وحاله، وما كان من أمرٍ
بإحراق كتبه، والقول بأنه أكفر من اليهود والنصارى؛ فأجابَ بأنَّ ابن عربي قد
اختُلِف في أمره اختلاف كبير، وانقسمَ العلماءُ في أمره إلى ثلاث طوائف: طائفة
تعتقد ولايتَه ويرى أنها المُصِيبَة، وفرقة تعتقد ضلاله، وفرقة تسكت عنه ويصفها بأنها
تليق «بكل وَرِعٍ يخشى على نفسه». [2]

يعتقد السيوطيُّ بولاية ابن عربي، وحُرْمَة النظر في
كتبه كما نُقِلَ عن ابن عربي نفسه؛ لأنَّ اصطلاحاتِ الصوفية قد لا يفهمها الفقهاءُ
من أهل الظاهر، وقد «نصَّ على ذلك الغزاليُّ في بعض كتبه، وقال: إنه شبيه
بالمتشابه في القرآن والسنة؛ من حَمَلَهُ على ظاهره كَفَرَ» [3]. يرى السيوطيُّ
أنَّ الصوفيةَ يصطلحون على ألفاظ قد يُسْتَشْنَعُ ظاهرُها غيرةً على أن يَدَّعِيَ
الطريقَ مَن لا يُحْسنه، أو أنْ يدخلَ فيه من ليس أهلَه.

مَحْمَلُ التكفير

مَنْ يُكَفِّر ابن عربي إذن يُكَفِّرُه؛ لأنَّ ظاهرَ كلامه يُؤدِّي إلى الكفر، وابن عربي في كثير من كلامه -كما يرى السيوطي- لا يقصد المعنى الجاري المُتَعَارَفُ عليه، هذا غير أن كثيرًا من الكلام قد دُسَّ عليه، ولا يثبتُ عند التحقيق.

ينقل السيوطي عن الفقيه البساطي قوله:

إنما يُنْكِرُ الناسُ على ظاهرِ الألفاظِ التي يقولها، وإلا؛ فليس في كلامه ما يُنْكَرُ عليه إذا حُمِلَ لفظُه على مُرَادِه. [4]

الكشف طريقًا للتصوف

هذا، ولا يخفى أنَّ المُتَصَدِّي لقراءة ابن عربي أو
إقرائه -في نظر السيوطي- قد ضلَّ وَأَضَلَّ؛ لأنَّ علم التصوف لا يُؤْخَذُ من
الكتب، وسالكُ هذا الطريق عليه أن يأخذ نفسَه بما أخذَ القومُ به أنفسَهم من
مجاهدة ومكابدة للطريق؛ فكيف بمنْ لم يسلك طريقَهم أن يفهم عن ابنِ عربي أو غيره
من أهل الولاية؟!

يقول السيوطي:

وبلغني عن بعض شيوخ الكبار العارفين أنه كان يُقْرِئُ أصحابَه كلامَ ابن عربي، ويشرحه لهم؛ فلما حضرتْه الوفاةُ نهاهم عن مطالعة كتب ابن عربي، وقال: أنتم ما تفهمون مراده، ومعانيَ كلامه. [5]

ويقول الإمام الصفدي: «اعلم يا ولدي أن هذا العلم
المنسوب لابن عربي ليس بمُخْتَرَعٍ له، وإنما هو كان ماهرًا فيه، وادَّعَى أهلُ
طريقته أنه لا يُمْكِنُ معرفتُه إلا بالكشف» [6]، وينتهي الصفدي في نصيحته إلى
القول بضرورة السلوك؛ لأنه وحده المُوصِل إلى «الكشف عن الحقائق». [7]

تخريج ما خالف ظاهر الشرع من كلام ابن عربي وغيره

إنَّ السالكَ في نظر -زين الدين الخافي- تذهب صفاتُه إذا ما تخلَّق وتحقَّقَ، ويغيب عن ذاته في الله، ولا يرى سواه، وكأنَّ كل الأشياء عينُ وجودِ الله، والصوفي لا ينبغي عليه أن يقف عند هذا المقام؛ لأنه إن انتقل منه إلى غيره رأى الوجود فيضًا عن الله، وليس عين الله كما رأى سابقًا؛ «فالناطق بما ظَنَّه في أول المقام محروم ساقط، وإما نادم تائب». [8]

إنَّ المتصوفَ إذن قد يمرُّ بحالات روحية تجعله ينطق بما
قد يخالف الشرعَ في الظاهر، ومن هنا يمكن القول: إنَّ ما يُنقَلُ ويُنْسَبُ إلى
ابن عربي وغيره مما يخالف العلمَ الظاهر؛ فله محامل من وجهة نظر السيوطي:

  • الأول: ألّا نُسَلِّمُ نسبته إليهم؛ حتى يصح عنهم.
  • الثاني: إذا صحَّ، يبقى له تأويل؛ فإن لم نجد؛ فلعلَّ له تأويلًا عند أهل
    العلمِ بالباطن.
  • الثالث: أن نقول: إن ذلك قد صدر منهم في حالٍ من السُّكْر والغَيْبَة؛ فلا يُؤَاخَذُونَ
    به. [9]

أما ما نُقِلَ عن القونوي -تلميذ ابن عربي- من أنَّ
كلامَ المعصومين ينبغي أن يُؤَوَّلَ لصالحِ كلامِ ابن عربي؛ فغير صحيح؛ لأن
القونوي «قد فعل خلاف ذلك في كتابه (شرح التعريف)؛ فنَقَلَ عن ابن عربي وغيره
كلماتٍ ظاهرها المنافاة للشرع، ثم تأولها، ومزجها على أحسن المحامل؛ فهذا إما أن
يكون دليلًا على بطلان ما نُقِلَ عنهم من عدم التأويل، أو رجوع عنه» [10]، وعلى
هذا يجري عملُ السيوطي في كل ما يُمْكِنُ أن يُنْقَلَ عن أولياء الله من كلام قد
يُظَنُّ أنه مُخَالِف لما عليه الشرع.

عقيدة ابن عربي

أما عن عقيدة ابن عربي؛ فينقل السيوطي عن الصفدي أنه رأى الفتوحاتِ في عشرين مُجَلَّدًا «فيها دقائق، وغرائب، وعجائب ليستْ توجد في كلامِ غيرِه، وكأنَّ المنقول والمعقول مُمَثَّلَان بين عينَيْهِ» [11]، وأنَّ ابن عربي قد ذكر في أول كتابِه اعتقادَه بعقيدة أبي الحسن الأشعري، و«ليس فيها ما يخالف رأيَه» [12]؛ فلا يجوز بحال بعد كل هذا أن يُحْمَل كلامُه فيما ظاهرُه كفر على الكفر.

خاتمة

كان دفاعُ السيوطي عن ابن عربي مُنْحَصِرًا في محاولة استيعابه مرةً أخرى داخل دائرةِ علماء الظاهر من أهل السنّة على الطريقة الأشعرية، ولأن السيوطي يعتقد بولاية ابن عربي؛ فإنّه يؤمن أنَّ للولي حالات لا يفهمها إلا أهل الكشف؛ لذا فإن ما يُنْقَل عنه مما قد يكون مُسْتَقْبَحًا عند أهل الظاهر؛ فينبغي تأويله وحمله على أحسن المحامل من وجهة نظر الفقيه الأشعري.

لم يدافع السيوطي في حقيقة الأمر عن ابن عربي فيلسوفًا ومتصوفًا، وإنما حاول تنميطه داخل السلطة الدينية الشائعة آنذاك؛ لذلك لم نره يتعرض فعلاً لمقالات ابن عربي الصوفية والفلسفية بأي شكلٍ من الأشكال، وإنما حشد أقوال كثيرٍ من العلماء في تعديل ابن عربي، وحُسْنِ الظن به، وأنَّ ما يستقبحه علماءُ الظاهر يمكن تأويله وحمله محملاً حسنًا، بجانب ذكر شيءٍ من فضائله ومَحاسنه.


المراجع



  1. مصرع التصوف، أو تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي، برهان الدين البقاعي، تحقيق وتعليق: عبد الرحمن الوكيل، دار الكتب العلمية، ص 18.
  2. تنبيه الغبي في تخطئة ابن عربي، السيوطي، جلال الدين السيوطي، مخطوطة، ص 4.
  3. المصدر السابق، ص 5.
  4. المصدر السابق، ص 10.
  5. تنبيه الغبي في تخطئة ابن عربي، جلال الدين السيوطي، علق عليها وراجعها: عبد الرحمن حسن محمود، مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز، ص 57.
  6. تنبيه الغبي في تخطئة ابن عربي، السيوطي، جلال الدين السيوطي، مخطوطة، ص 11.
  7. المصدر السابق، ص 11.
  8. المصدر السابق، ص 12.
  9. انظر: تنبيه الغبي في تخطئة ابن عربي، جلال الدين السيوطي، علق عليها وراجعها: عبد الرحمن حسن محمود، مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز، ص 59.
  10. تنبيه الغبي في تخطئة ابن عربي، السيوطي، جلال الدين السيوطي، مخطوطة، ص 12-13.
  11. تنبيه الغبي في تخطئة ابن عربي، جلال الدين السيوطي، علق عليها وراجعها: عبد الرحمن حسن محمود، مكتبة الآداب ومطبعتها بالجماميز، ص 70.
  12. المصدر السابق، ص 71.


مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.