في التاسعة من عمره، وأثناء رعاية ويلي لأخته الصغرى في أحد المهرجانات، اختطفت اخته وقُتلت. شعر ويلي بالذنب، وظل يلوم نفسه على ما حدث، وبعد فترة قصيرة كان يرمي الحجارة على السيارات من أعلى الكباري، ويلقي البيض النيئ على المنازل، ويشعل حرائق محدودة، ثم هرب من المنزل، وتغيب عن المدرسة، وتعدى على الأطفال وأقدم على الانتحار.

تم تشخيص حالة ويلي على أنها فصام ارتيابي وتخلف عقلي، ووُضع في عنبر مغلق. وفي عام 1993، قام ويلي ومعه زميله بالهرب من وحدة العلاج النفسي، وفي طريقهما قاما بتهديد ثلاث سيدات بالسلاح الأبيض، حتى تم القبض عليه.

عندها كان ويلي في الخامسة عشر من عمره، حيث تمت محاكمته كشخص بالغ، وحُكم عليه في 3 جنايات، وأودع السجن، وهناك تعرض ويلي للاغتصاب من عدة سجناء أكبر سنًا، وتطلب الضرر الذي ألحقوه بالمستقيم لديه خضوعه لجراحة ترميمية، ومنذ ذلك الوقت ظلت الكوابيس المرتبطة بالاغتصاب جزءًا من هلاوسه، مع شياطينه التي تأمره بقتل نفسه، ولكن ظل على أمل أن يلقى رعاية صحية بعد إطلاق سراحه عام 2025.


عرض جديد ومخيف للمستقبل

إذا كان دور السجن هو الإصلاح، فإن إتمام هذا الدور ينطوي على مسئوليات أخلاقية؛ كمنح هؤلاء السجناء احتياجاتهم الأساسية وحمايتهم وعدم إذلالهم والدفع بهم نحو الجنون. فما يحدث في الواقع هو أن السجن يدرب السجناء على الوضاعة؛ فكلما ازداد السجين وضاعة، ازدادت فرصته في البقاء على قيد الحياة.


جاء كتاب

«الجنون في غياهب السجون: أزمة الصحة العقلية خلف القضبان ودورنا في مواجهتها» لتيري كوبرز بأمثلة على ذلك، فكتب كوبرز كتابه بمساعدة من السجناء أنفسهم ومحاميهم ومجموعة من النشطاء المهتمين بما يحدث وراء القضبان. وكوبرز هو طبيب نفسي، عمل خبيرًا في الطب النفسي في أكثر من 12 قضية جماعية تتعلق بظروف الاحتجاز في السجون، ومستشارًا لقسم الحقوق المدنية بوزارة العدل الأمريكية ولمنظمة هيومن رايتس ووتش في إطار التحقيقات التي أجرتها هاتان الجهتان في أنظمة السجون الأمريكية في دعوى قضائية رفعها بعض السجناء، ما أتاح له دخول السجون بحرية ومقابلة السجناء، وفي رحلته حاول كوبرز تدريب نفسه على عدم التأثر بالحزن الجارف خلف القضبان، والتعود على الضوضاء ورائحة البول والغائط، ليقدم لنا هذا الكتاب.

قسّم كوبرز الكتاب إلى ثلاثة أجزاء. يهتم في الجزء الأول بوصف السجناء المصابين بأمراض عقلية، والأسباب التي أودعتهم السجون، ومناقشة الضغوط التي تدفعهم دفعًا نحو الجنون المطلق. في الجزء الثاني يعرض كوبرز تجربة النساء في السجون، والحقيقة البشعة للاغتصاب، والمأساة المتكررة للانتحار في السجون. وفي الجزء الثالث يناقش كوبرز الهدف الاجتماعي من السجن، ويقترح سبلاً للحد من معاناة السجناء، خاصة المرضى العقليين، وعرض متطلبات البرامج الناجحة لإعادة التأهيل والعلاج النفسي والعقلي من أجل تطبيقها في السجون.


لا تظهر خوفك .. لا تظهر مرضك

قابل كوبرز رجلاً أمريكيًا من أصول أفريقية يدعى جون، وكان قد مضى على دخوله السجن 8 سنوات. تم تشخيص حالة جون على أنها اضطراب ثنائي القطب مصحوب بسمات ذهانية وهلاوس. يشعر جون بأن الحرس يضطهدونه دومًا، فيصفونه بالمخبول، ويرشونه برذاذ الفلفل للسيطرة عليه ونقله قسرًا من مكان لآخر.

يعاني جون أيضًا من الخمول الشديد ولا يزال ما حدث يوم 11 سبتمبر/أيلول عام 1997 غير معروف، حيث عُثر في هذا اليوم على جون فاقدًا الوعي في زنزانته، وتم نقله إلى المستشفى وتبين إصابته بجلطة دموية في المخ نتيجة اصطدامه بشيء بقوة، لدرجة يصعب معها التدخل الجراحي.

إن معدل انتشار الاضطرابات العقلية في السجون يبلغ خمسة أضعاف معدل انتشارها خارجها. وحسب الدراسات التي ذكرها كوبرز، والتي تتناول معدل الانتشار، فإن نسبة تتراوح بين 10% إلى 20% من إجمالي عدد السجناء على مستوى أمريكا تعاني من اضطراب عقلي على درجة خطيرة، وتتطلب علاجًا مكثفًا، وهي النسبة التي من الممكن أن تزداد إذا قيس معدل الانتشار على مدار مدة الحبس بأكملها.

يعود السبب وراء ذلك إلى انخفاض مستوى نظام الصحة العقلية العام، والفقر الذي يزيد من عدد المرضى في الشوارع وتعرضهم للاعتقال والسجن مع عدد كبير من السجناء الآخرين، حتى تظهر عليهم أعراض انفعالية حادة بعد تعرضهم للضغوط في بيئة السجن القاسية.

وتزيد نسبة السجناء المصابين بأمراض عقلية، وخاصة الذهان، بين ضحايا الاغتصاب، والسجناء الموجودين في العزل العقابي أو وحدات الحبس المشدد، ويودع كثير منهم في الحبس الانفرادي أو وحدات العزل عندما تتدهور حالاتهم بسبب إلغاء برامج التأهيل، ليصل تدهور حالات السجناء إلى حد الصراخ بألفاظ فاحشة، وإلحاق الجروح بأنفسهم، وتراشق بالغائط.

إن اكتظاظ السجون والوحشية من جانب الحراس، والاغتصاب من جانب الأقوى، والتهديد دائمًا بالتحويل إلى وحدات الحراسة المشددة يزيد من صعوبة قضاء السجناء -المعرضين للانهيار العصبي والانتحار- مدتهم دون نزوع إلى تدمير أنفسهم، حتى لو لم يكن لهم تاريخ سابق من الانهيار النفسي.

يفسر كوبرز عدد الحالات التي قابلها داخل السجن ولم يكونوا مرضى من قبل، بأن الفصام وغيره من الاضطرابات العقلية الخطرة تظهر عادة في بداية سن الرشد، وهو السن الذي يدخل فيه المذنبون السجن للمرة الأولى، ليكون من الصعب تحديد سبب إصابته بالاضطراب؛ لكن ثمة أقلية لم تكن لديهم هذه المشكلات. لكن التعرض لصدمة كحادثة اغتصاب مرعبة يعرض بعض الأفراد لانهيار ذهاني مرتبط باضطرابات توتر ما بعد الصدمة، وهؤلاء قابلهم كوبرز بالفعل، ووضعهم أسوأ لأنهم لا يعرفون سبب اختلاف سلوكياتهم عن بقية المسجونين ولا يمكنهم إخفاء مخاوفهم وضعفهم أمامهم.


المرأة السجينة تعاني في صمت

قابل كوبرز ماري أيضًا، وقد كانت ماري مريضة اكتئاب حاد نتيجة هجر زوجها لها وأخذه أطفالها، حتى اشتبكت مع شرطي أيقظها في أحد المتنزهات التي كانت تبيت فيها، وبعد الحكم عليها بالسجن باتت خائفة ومرتابة من الجميع وتراودها الهلاوس، ورغم ذلك ترفض مساعدة الطبيب النفسي في السجن لأنه:

كل ما سيفعله هو حبسي في زنزانة وإعطائي مهدئات لتخدرني وتُخرسني.

تختلف أسباب دخول النساء إلى السجن عن الرجال، فأغلبية الجرائم التي تؤدي بهن إلى السجن لا علاقة لها بالعنف، فبنسبة قد تصل إلى 80% تتعلق بالمخدرات. ويقل احتمال ارتكاب النساء لجرائم الاعتداء والقتل مقارنة بالرجال، غير أنه إذا اعتدت المرأة فهي غالبًا ما تعتدي على شخص تعرفه؛ فبنسبة 51% من إدانات النساء بجرائم القتل تتضمن قتلهن زوجًا أو حبيبًا بعد تعرضهن للضرب أو الاغتصاب من جانب هذا الشخص، ومعظمهن لم يرتكبن أية جرائم سابقة، ونحو 80% من النساء خلف القضبان كن ضحايا لجرائم عنف أسري واعتداء بدني وجنسي في مرحلة من حياتهن. ويقل احتمال تكرار النساء المدانات بجرائم عنف لهذه الجرائم بعد إطلاق سراحهن مقارنة بالرجال المدانين بجرائم مماثلة.

تعاني النساء في السجون من الاكتئاب في صمت، ويزداد بينهن مقارنة بالرجال، فنسبة كبيرة من المدانات في جرائم هن أمهات معيلات، كن يتكفلن برعاية أسرهن وحدهن، ومع دخولهن السجن وانفصالهن عن أطفالهن تبدأ رحلة يكابدن فيها آلامًا هائلة.

تعيش النساء في السجن ظروفًا مختلفة، من حيث إهمال ظروفهن الدورية الخاصة، والقصور الشديد في رعاية السجينة الحامل، حيث إن 80% من السجينات لديهن أطفال، و70% منهن هن أمهات معيلات، و85% حظين بحضانة أطفالهن قبل دخولهن السجن، لينقطع الاتصال بالأطفال مع دخول السجن، حيث لا يمكنها حمايتهم من أي مكروه، لذلك يتعلق اكتئاب المرأة كثيرًا بكونها أمًا.

من ناحية أخرى على المرأة التي تضع طفلها داخل السجن التنازل عنه لعائلات قد لا تعرفهم إذا لم يقبل أحد الأقارب بالطفل، كما تقل احتمالات تلقي الأم السجينة لزيارات من أطفالها مقارنة بالرجل، وذلك لأن الأم عندما لا تكون سجينة، تجلب الأطفال لرؤية أبيهم المسجون، لكن عندما تدخل الأم نفسها السجن تفقد حضانتها للأطفال، وقد لا يكون هناك من يُحضر الأطفال لرؤيتها.

ترتدي النساء بالسجن ملابس الرجال، وحمالات صدر مستعملة، ويجبرن على قص شعورهن عند دخول السجن والتخلي عن الهدايا التي تُرسل إليهن من منازلهن. وتقضي النساء فترة العقوبة في سجون بناءً على تصميم سجون الرجال، وعلى الرغم من انعدام محاولات النساء للهرب تقريبًا، فإن النساء يودعن في حبس مشدد صُمم في الأساس من أجل الرجال شديدي العنف. وتسمح البنية الهندسية والسياسات الخاصة بالسجن للموظفين الرجال والحرس في سجون النساء بمراقبتهن ودخول العنابر والاعتداء الجنسي في وقت ينعدم فيه الملاذ، ما قد يُحيي صدمات اعتداء سابقة داخلهن، وتتمثل ردود أفعالهن في الانهيار الكامل واكتئاب حاد وذهان وكوابيس.


بدون تخطيط: كيف استبدلت أمريكا المستشفيات بالسجون؟

ما يزيد عن نصف عدد السجناء الحاليين في السجون الأمريكية لم يرتكبوا في حياتهم أي جريمة عنف، أما نسبة المدانين بأعمال عنف تقل عن 27%، هؤلاء هم المجرمون الذين يستحقون الإبقاء عليهم في السجون لفترات طويلة، وهم ما إن يصبحوا في قمة الهرم التسلسلي للإجرام في السجون، ليجعلوا حياة المسجونين المضطربين عقليًا بائسة.

ففي أواخر خمسينات القرن الماضي، وبعد توفر أدوية الذهان، خرجت آراء منادية بتقليل عدد المرضى بمستشفيات الأمراض العقلية العامة وإغلاقها، وهو الأمر الذي لاقى قبولاً واسعًا، وبالفعل أخرج الأطباء السريريون مرضاهم من المستشفيات وأرسلوهم إلى منازلهم، وقرر قانون الصحة العقلية المجتمعية الفيدرالي في عام 1963 تخصيص أموال المستشفيات لإقامة مراكز صحة عقلية شاملة في المجتمع.

ولكن ما حدث أن حكام الولايات أيدوا القانون وإغلاق المستشفيات وتوقفوا عن تخصيص الأموال للخدمات العامة. مع هذه السلسلة من القرارات أصبح المرضى العقليون في الشارع لعدم قدرتهم على توفير منزل أو عمل، لعدم رغبة أرباب الأعمال في توظيفهم، ليتجهوا للمخدرات والجريمة، حتى أصبحت نسبة لا يستهان بها من المشردين مصابين باضطرابات عقلية مزمنة وخطيرة.

مع الوقت أيضًا تم سن قوانين أمريكية بتجريم التسول في مراكز المدن والنوم في الشوارع والتسكع ليلًا في المتنزهات، ليصير عدد الخارجين على القانون أكبر ومن ضمنهم المرضى العقليون المعروفون بعدم قدرتهم على التحكم في انفعالاتهم واتباع الأوامر، ما يجعلهم ضحية لكل ضابط شرطة ينتظر منهم الخوف والاحترام وإطاعة أوامره، حتى لا يجدوا بعد ذلك من يدفع عنهم الغرامة لينتهي بهم الحال في السجن.

انطوى هذا التوجه على مشكلة لم تكن في الحسبان، فقد تكلف المواطنون ضرائب بمبالغ جسيمة جراء وضع عدد متزايد من المدانين في السجون وحاجتهم المتزايدة للعلاج العقلي، وبعد ذلك أصبحت السجون صناعة مزدهرة بأمريكا، وزاد معدل الإنفاق على المؤسسات العقابية على المستوى القومي بمقدار ثلاثة أضعاف، وبُني أكثر من 600 سجن جديد خلال 20 عامًا بعد قرار تقليل المستشفيات العقلية، ليكلف نظام العدالة الجنائية دافعي الضرائب 100 مليار دولار في عام 1994 فقط من أجل بناء الزنازين، بخلاف أن إبقاء كل سجين خلف القضبان يكلفهم ما يزيد عن 25 ألف دولار سنويًا، و30 ألف دولار سنويًا إذا كان السجين مريضًا عقليًا.