في سكون الليل الهادئ، وبينما كانت تغط في نوم عميق، استيقظت على صوت أجش، وأيادٍ مُدببة بالعصى، وأعقاب البنادق تنهال عليها بالضرب المبرح، وتقتادها وهي معصوبة العينين، إلى الجيب العسكري، يصحبها بداخله كلب متوحش، وجد فيها لحمًا سائغًا، يريد أن ينقض عليه، ثم نُقلت بعد ذلك إلى زنازين التحقيق في سجن الجلمة، حيث التفتيش العاري، والشتائم بأقذر الألفاظ، وتقييدها على كرسي، مُكبّلة الأيدي والأرجل لأيام متواصلة، لتبدأ من هنا قصة من المآسي والمعاناة والصمود، تشهدها الأسيرات الفلسطينيات داخل أروقة سجون الاحتلال المظلمة.


تاريخ الفلسطينيات في سجون الاحتلال

لعبت المرأة الفلسطينية دورًا بارزًا في مقاومة إسرائيل منذ بداية احتلال الأراضي الفلسطينية، فلم تدخر جهدًا من أجل تحرير أرضها المسلوبة. فمنذ البداية ومقاومتها تقضّ مضاجع الاحتلال، لتتحول إلى خطر حقيقي سعى الاحتلال للخلاص منه بأي طريقة كانت. وقد بدأ الاحتلال باعتقال الفلسطينيات في ستينيات القرن العشرين، حيث شهدت الفترة من 1968 إلى 1976 أكبر حملة اعتقال للنساء الفلسطينيات، وشكّلت أعوام 1968 و1969 سنوات قاسية جدًا في تاريخ الحركة النسائية، وخاصة في بداية التجربة الاعتقالية وبدء النضال والكفاح للدفاع عن ذواتهن داخل السجون.أقامت سلطات الاحتلال منذ عام 1967 ثلاثة مراكز لاعتقال المناضلات الفلسطينيات؛ الأول في نابلس، والثاني في القدس (المسكوبية) والثالث في غزة، وقد شهدت المناضلات في هذه المراكز معاملة قاسية جدًا، وزاد من قساوة ذلك قلة عدد المعتقلات في البدايات (1967 – 1980)؛ الأمر الذي جعل الأسيرات الأوائل أكثر معاناة من غيرهن.



على مدار سنوات الصراع الطويلة مع إسرائيل، دخلت السجون الإسرائيلية أكثر من 15,000 امرأة وشابة فلسطينية.

وقد كانت الأسيرة الفلسطينية «فاطمة البرناوي» أول أسيرة تخوض تجربة الاعتقال، وهي أول أسيرة تُسجل رسميًا في سجلات الحركة النسوية الأسيرة في تاريخ النضال الفلسطيني المعاصرة، وقد اعتُقلت في أواخر عام 1967، بعد وضعها قنبلة في سينما صهيون في مدينة القدس، وحكم عليها آنذاك بالسجن المؤبد «مدى الحياة»، لكنها لم تمضِ في الأسر سوى عشر سنوات، حيث أطلق سراحها في الحادي عشر من نوفمبر عام 1977.ومن الجدير بالذكر أنه على مدار سنوات الصراع الطويلة مع إسرائيل، دخلت السجون الإسرائيلية أكثر من 15,000 امرأة وشابة فلسطينية، ولم تميز دولة الاحتلال الإسرائيلية بين كبيرة في السن أو قاصرة. وقد شهدت فترة الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي انطلقت عام 1987، أكبر عملية اعتقالات بحق النساء الفلسطينيات؛ إذ وصل عدد حالات الاعتقال في صفوف النساء إلى 3000 فلسطينية، وخلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية التي اندلعت عام 2000، وصل عدد حالات الاعتقال بحق النساء الفلسطينيات إلى ما يقارب 900 فلسطينية.ومنذ عام 2009 وحتى مطلع عام 2012 تراجعت حدة الاعتقالات في صفوف الفلسطينيات لتعود بشكل متصاعد، وتبلغ ذروتها مع انطلاق انتفاضة السكاكين التي انطلقت في نهاية عام 2015، وبداية 2016، ليصل عدد الأسيرات اللواتي تعرضن للاعتقال خلال العام 2015 نحو 225 فتاة وامرأة، وهذا يشكل زيادة قدرها 100%، عن العام الذي سبقه 2014 والذي سُجل خلاله اعتقال 112 فلسطينية؛ ما دفع بمصلحة السجون الإسرائيلية إلى افتتاح سجن الدامون لاستيعاب الأسيرات، إلى جانب سجن الشارون. وحسب «نادي الأسير الفلسطيني» و«هيئة شئون الأسرى والمحررين» فإن عدد الأسيرات رهن الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي حتى تاريخ 10 فبراير 2016، قد بلغ 56 أسيرة. وقد تعرضت الأسيرات للكثير من حملات التنكيل والتعذيب أثناء الاعتقال.


أساليب وضيعة لإرضاخهن

استخدم الاحتلال الإسرائيلي مختلف أنواع التهديدات والاعتداءات على المعتقلات الفلسطينيات من أجل إرضاخهن، فتعرضت المرأة الفلسطينية لأساليب قمع وحشية أثناء الاعتقال وفي مرحلة التحقيق على يد رجال الشاباك الصهيوني. ومن بين الأساليب الوضيعة التي انتهجها الاحتلال، والتي تم الإفصاح عنها من قِبل بعض الأسيرات هي:


  1. تفتيش عارٍ

    :

إن سلطات الاحتلال تقوم بتفتيش السجينات وهن عراة أثناء الذهاب إلى المحكمة والعودة منها أو الانتقال من سجن إلى آخر، مشيرة إلى أن أي سجينة تقضي أيامًا عديدة في قلق مستمر قبل نقلها إلى المحكمة تخوفًا مما ينتظرهن من تفتيش عارٍ حيث الأزمات والصدمات النفسية المتتالية.


  1. تحرش جنسي

    :

كما يقوم مُحققو «الشاباك» بالتحرش جنسيًا بالأسيرات أثناء التحقيق معهن؛ من أجل كسر معنوياتهن وإجبارهن على الاعتراف بالتهم التي توجه إليهن من قِبلهم، حيث قالت الأسيرة الفلسطينية هالة جبر أن محققي «الشاباك» تحرشوا بها جنسيًا عدة مرات من أجل إجبارها على الإدلاء باعترافات تدينها، كما تقوم أجهزة الاحتلال بالقذف بعشرات الساقطات اليهوديات اللواتي يندفعن إلى حجرات السجن بتخطيط من المحققين ويتصرفن بكل ابتذال من أجل دفع الأسيرات إلى الاستسلام.


  1. الشبح وعدم النوم

    :

إنهم يلجأون الآن إلى الشبح وأساليب التعذيب القائمة على إرهاق البدن، دون أن يتركوا آثارًا ظاهرة على الجسد. ولكن هذا اللون من التعذيب له خطورته القاتلة، فهو لا يترك آثارًا فورية على جسد الإنسان، ولكن بمرور الزمن يتسبب في ترك أمراض مزمنة.


  1. الضرب والاعتداء

    :

كما يتم ضرب الأسيرات بشكل همجي ووحشي أثناء استجوابهن، فالأسيرة خديجة أبو عرقوب تعرضت للضرب إلى درجة أن قطَّعوا لها شعر رأسها أثناء التحقيق معها. كما لم تأخذهم بالأسيرات الحوامل أي اعتبارات إنسانية، فقد تم الاعتداء على الأسيرة عبلة طه بالركلات وهي حامل في شهرها الثاني، وعندما بدأت تنزف لم يستدعوا لها طبيبًا بل أخذ المحققون يساومونها من أجل أن تعترف مقابل إحضار طبيب.


  1. مسلخ المسكوبية


    والصعق بالكهرباء

    :

ونأتي إلى سجن «المسكوبية» الذي يُطلق عليه اسم «المسلخ»؛ نظرًا لما يتم فيه من ضرب وتعذيب المعتقلين، فهو أشبه بالمسلخ بالنسبة لهم. ولم يُفرّق الاحتلال بين الأسرى والأسيرات، فقد استخدمه الاحتلال لتعذيب الأسيرات بوحشية، فهذا السجن شاهد على ما تعرضت له الأسيرات الفلسطينيات من ضرب وتنكيل وتعذيب. كما تقوم إدارة السجون الصهيونية باستخدام أجهزة الصعق الكهربائية في تعذيب الأسيرات، حيث نُقل عن قاهرة السعدي ممثلة الأسيرات في سجن «تلمود»، أن السجانين قاموا باستخدام جهاز للمس الكهربائي في تعذيبهن، مما يعرضهن للدخول في غيبوبة.


استغاثة يرددها الصدى

فضلاً عن ما تم استعراضه فيما سبق من اعتداءات، واتباع أساليب غير آدمية مع الأسيرات، فإنهن يتعرضن أيضًا للكثير من شتى أنواع المعاناة النفسية والبدنية داخل السجون الإسرائيلية، فالأوضاع الصحية غاية في الصعوبة داخل السجون، حيث تؤكد التقارير أن سياسة الإهمال الطبي هي سياسة مبرمجة ممنهجة تهدف لقتل الأسرى والأسيرات ببطء، حيث أن بعض الأسيرات يعانين من أمراض مزمنة ولا تُوَّفر لهن العناية الطبية اللازمة مما يفاقم الأمراض لديهن في ظل النقص الشديد في الطعام، وكلما طالت فترة السجن تتحول الأمراض إلى أمراض مزمنة وخطيرة.



تمارس سلطات الاحتلال سياسة الإهمال الطبي الممنهج بهدف قتل الأسيرات ببطء.

كما تشتكي الأسيرات من الإجراءات التي تُفرض عليهن خلال زيارة ذويهن، حيث يُمنَعن من مصافحة الأهل، وتُجرى الزيارة من خلف جدار زجاجي بلاستيكي محاط بالأسلاك الشائكة، وتتم وفق رغبة الإدارة التي غالبًا ما تقوم بإلغائها بشكل مفاجئ، أو منع الأسيرات من الزيارات كعقاب، كما أن هناك أسيرات منعت الإدارة زيارتهن لفترات طويلة ومنهن من يتم تأجيل الزيارة لهن حتى إشعار آخر؛ مما يشكل أكبر عقوبة تواجهها الأسيرات فيزيد ذلك من معاناتهن.ومن الأساليب الفجة التي يتبعها نظام الاحتلال داخل سجونه وتزيد من معاناة بعض الأسيرات هو أن يضعن بعض الأسيرات حملهن داخل هذه السجون. فحالات الولادة داخل السجون لم تتم بشكل طبيعي ولم تحظَ بالحد الأدنى من الرعاية الطبية، فإنها تتم تحت حراسة عسكرية وأمنية مشددة وتكون الأسيرة مكبلة الأيدي والأرجل بالأصفاد المعدنية، ولم يتم إزالة هذه القيود إلا أثناء العملية فقط ومن ثم يعاد تكبيلها بالسلاسل الحديدية، كما لم يسمح لأحد من أقارب الأسيرة بالحضور للمستشفى أثناء الولادة.والقانون الإسرائيلي يسمح للأم بإبقاء طفلها معها، حتى سن العامين فقط، ومن ثم يتم الفصل بينهما؛ مما يحرم الطفل من رعاية والدته له بعد هذا السن إلى أن يتم الإفراج عنها، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل إن هؤلاء المواليد خلف القضبان لا يحظون بأية رعاية تُذكر، ويُحرمون من أبسط حقوق الطفولة.فضلاً عن ذلك، فنجد أن الإجراءات المتبعة في المحاكم الإسرائيلية بحق الأسيرات تعسفية وتتناقض مع معايير المحاكمات الدولية، حيث تفرض تلك المحاكم الإسرائيلية أحكامًا قاسية على الأسيرات تصل أحيانًا للسجن مدى الحياة، فالأسيرة أحلام التميمي صدر بحقها حكم بالسجن المؤبد 16 مرة، وقاهرة السعدي حُكم عليها بالسجن المؤبد 3 مرات و30 سنة، وغيرهن الكثير ممن يتعسف الاحتلال في إصدار الحكم ضدهن.


مسيرة معاركهن من أجل الحرية

وعلى الرغم من كل ما تتعرض له الأسيرات داخل سجون الاحتلال، إلا أنها لم تقف مخذولة أو مكتوفة الأيدي أمام إصرار المحتل على إذلالهن، فالتاريخ يشهد لهن بذلك، فقد خاضت المعتقلات منذ بداية الاعتقال سلسلة من الاحتجاجات، لانتزاع حقوقهن الإنسانية من إدارة السجن.وكانت باكورة ذلك النضال في أوائل السبعينات والثمانينات، فكان الإضراب الشهير الذي خاضته الأسيرات بتاريخ 28 إبريل 1970، وتمثل شكل الإضراب بفصل طعامهن عن طعام السجّانات تعبيرًا عن رفضهن المشاركة في صنع طعام سجاناتهن.وقد امتد هذا الإضراب لمدة تسعة أشهر متواصلة مارست إدارة المعتقل خلال هذه الفترة أساليب الضغط والإرهاب، حيث صودرت الكتب والمذياع، وتقلصت زيارات الأقارب إلى زيارة واحدة كل شهرين في محاولة يائسة من إدارة السجون لشل الإضراب وكسره، كما تخلل هذه الفترة رش الغاز السام والمسيل للدموع بكميات كثيفة؛ مما سبب إصابة العديد من الأسيرات بإصابات بالغة وحروق وتشويهات. ولكن لم تفلح كل هذه الإجراءات التعسفية، فبعد تسعة أشهر كان نتاج نضال الأسيرات هو قبول الإدارة بمطالبهن، وتبع ذلك تثبيت «اللجنة الاعتقالية» كممثل شرعي للمعتقلات لدى الإدارة.كما تدرجت الأسيرات في خطواتهن النضالية لتغيير القوانين الجائرة والمفروضة عليهن، فكان إضراب 12 نوفمبر 1984 المفتوح عن الطعام. وكان الإضراب الشهير الذي استمر سبعة عشر يومًا في 27 سبتمبر 1992، والذي عُرف بـ «ملحمة القيد»، والذي شاركت به كل السجون من أجل إغلاق قسم العزل في نيتسان الرملة، وتحسين شروط الحياة داخل السجون.كما شاركت الأسيرات في الإضراب السياسي الذي بدأ في 18 يونيو 1995، تحت شعار «الحرية كل الحرية للأسرى دون شرط أو تمييز» على إثر عدم تطرق اتفاقيات إعلان المبادئ التي وقعت بين منظمة التحرير الفلسطينية وحكومة الاحتلال في 13 سبتمبر 1993، لموضوع الأسرى وردًا على سياسة الابتزاز والمساومة الإسرائيلية وفرض الشروط المذلة على قضية المعتقلين.كما دخلن في إضراب عام 1998، والذي استمر 10 أيام، إضافة إلى مشاركتهن في سلسلة خطوات احتجاجية جزئية، حيث كانت أبرز المطالب الحياتية للأسيرات تتمثل بالمطالبة بفصلهن عن الأسيرات الجنائيات وتحسين شروط الحياة الإنسانية داخل السجن. واستطاعت الأسيرات بفعل نضالاتهن وصمودهن تحقيق العديد من مطالبهن لينالوا أبسط حقوقهن داخل سجون الاحتلال.وما بين دموع تنزف قهرًا ودمًا، وقلوب تحترق شوقًا من أجل أن تتنفس هواء الحرية داخل وطنها المسلوب، ما زالت روح المقاومة والصمود تتربع داخل نفوس الأسيرات الفلسطينيات اللائي اخترن أن يدفعن ما تبقى من حياتهن ثمنًا في ظلمات السجون؛ كي يعم نور الحرية وطنهن الأسير.


المراجع




  1. وليد عوض، “الاسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال الاسرائيلي جرحا نازفا في الجسد الفلسطيني على وقع تنكيل السجانين وبكاء الاهل في الشهر الفضيل”، موقع القدس العربي، 19 يونيو2013.

  2. “الأسيرات الفلسطينيات رهن الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي”، موقع مركز المعلومات الوطني الفلسطيني – وفا، بدون تاريخ.

  3. حبيب الرحمن أبو محفوظ، “الكيان الصهيوني يتحرش بالأسيرات الفلسطينيات جنسياً ويستخدم معهن أسلوب الصعق الكهربائي”، موقع الشبكة النسائية العالمية، بدون تاريخ.

  4. ميرفت صادق، “أسيرة محررة تنقل معاناة الأسيرات الفلسطينيات”، موقع الجزيرة نت، 15 مايو 2015.

  5. عبد الله زقوت، “تفتيش عاري للأسيرات الفلسطينيات”، موقع إيلاف، 21 أبريل 2004.

  6. “تجربة الأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال”، موقع نساء من أجل فلسطين، 26 فبراير 2014.

  7. عبد الناصر عوني فروانة، “دراسة شاملة عن الأسيرات الفلسطينيات الإحتلال اختطف قرابة 700 فلسطينية خلال إنتفاضة الأقصى الأسيرات الفلسطينيات … روايات مؤلمة وتجارب نادرة تفتيش عاري وتهديد بالإغتصاب وتحرش جنسي”، موقع فلسطين خلف القضبان، 23 سبتمبر 2007.