هل للإفتاء في السياق الديني الإسلامي دور في مقاومة السلطة العلمانية/الليبرالية؟ ذاك تساؤل بحثنا عنه في طرح حسين علي عجرمة في دراساته الرصينة حول موضوع الإفتاء والفتوى، فمن هو حسين عجرمة؟ وما هي رؤيته في هذه القضية؟


عن عجرمة وكتابه!

حسين علي عجرمة أستاذ الأنثروبولوجي والعلوم الاجتماعية بجامعة شيكاغو، عُرِف بتخصصه في قضايا الشرق الأوسط وعلى رأسها الإسلام، والقانون، والعلمانية، والدولة الحديثة. وله عدد من الأبحاث والمقالات الهامة والمنشورة في دوريات علمية عديدة، بالإضافة إلى رسالته للدكتوراه والتي أفردها لدراسة المحاكم والفتوى في مصر، وقد نُشرت الرسالة عام 2005م بجامعة جون هوبكنز بالولايات المتحدة الأمريكية

[1]

. وقد كلل عجرمة جهده في دراسة تلك القضايا بإصدار كتابه «مُساءلة العلمانية» الصادر عام 2012 وهو كتاب يطرحُ تساؤلات هامة حول قضية العلمانية في مصر من خلال طرح أنثربولوجي لافت ودقيق

[2]

. وفي هذا المقال نستعرض رؤية حسين عجرمة عن الفتوى كما جاء في الكتاب المُشار إليه.

بدايةً، أسهب الكثيرون، مؤخراً، في توضيح رؤية المفكر الفرنسي ميشيل فوكو لممارسة السلطة، تبعًا للنمط الليبرالي، ووفقاً لفوكو، فإن السلطة تدخل في العلاقات الإنسانية كافةً، وهي حين تُمارَس فإنها تُمارَس على ذوات حُرة باستخدام آليات معينة ووفقاً لأهداف معينة. إن فوكو يرى أن السلطة الليبرالية قد مُرِّسَت في التاريخ الغربي باستخدام آليات بعينها؛ لتنتج ذاتاً تحمل صفاتٍ مرتبطة بالليبرالية والرأسمالية. وهو في نصوصه المتأخرة، يرى أنه طالما الذات حُرة فهي تستطيعُ مقاومة آليات النمط السلطوي الذي يُمارَس عليها عن طريق البحث عن آليات وأهداف بديلة لهذا النمط الذي تسعى لمقاومته وكسره

[3]

. لكن، قليلة هي الأدبيات التي تناولت هذه الآليات البديلة، أو التي اعتنت بالبحث عن مساحات تُمارَس فيها آليات أخرى غير آليات الليبرالية

[4]

. أما حسين عجرمة، فقد استطاع أن يقدم صورة جديدة عن الفتوى باعتبارها آلية بديلة عن الآليات الليبرالية؛ آلية تستلهم المبادئ الإسلامية. ولهذا السبب تحديداً وقع الاختيار على عجرمة.


العلمانية عند عجرمة

يُقارب عجرمة العلمانية أنثربولوجياً ويُعرِّفُها بأنها «مشروع لم يكتمل لتحقيق مبادئ الليبرالية؛ فهي مجموعة من العمليات وبُنى القوى التي تطرح سؤال أين تُرسم الحدود بين الديني والسياسي باستمرار؛ إذ سيترتب على ذلك توزيع الحقوق وفقاً للمنطق الليبرالي. كذلك، فهي تُجبرنا على مواجهة هذا السؤال وفقاً لما تقدمه من افتراضات». لقد أورد عجرمة هذا التعريف ليقيَّـم به المؤسسات والقضايا المتعلقة بالدين والقانون في مصر. فالعلمانية تتعلّق بافتراضات تُشَـكِّـل الخلفية المعرفية للأسئلة/ الأجوبة التي يصيغها الباحث حول القضية المُراد بحثها. وبما أن قضيتنا هي الفتوى ومدى كونها تمثل بديلاً لآليات الذات الليبرالية، فيتعين أولاً الوقوف على الافتراضات التي تضعها العلمانية حول الفتوى.

يرى عجرمة الافتراضات التي تضعها العلمانية حول أي سؤال/ جواب متعلق بالفتوى الإسلامية على أنها افتراضات مبنية على الرؤية الحداثية للزمن. فالإبداع يناقض التقاليد، وتصور هذه الافتراضات – كما يرى عجرمة – الزمن على أنه مراحل متقطعة من الماضي والمستقبل؛ حيث المستقبل يُمثل دوماً كل ما هو جديد بالكلية مما يجعل إمكانية قياس أي موقف في الحاضر/ المستقبل على الماضي درباً من العبث. بعبارة أخرى، ترى تلك الفرضية أن الماضي انتهى وإلى الأبد، ومن ثم لا يمكن الاستفادة منه فيما يتعلق بالحاضر/ المستقبل بأي صورة من الصور.

لقد أدى هذا الافتراض إلى أن الإبداع Creativity هو السمة المفضلة، بينما التقليد والاحتذاء بالماضي سِمتان للتخلف، وبما أن الفتوى تُمثل تقليدًا يعتمد على ثوابت القرآن والسنة وأصول المذاهب، فيُنظر إليها على أنها تفتقر للإبداع اللازم. لكن عجرمة يُحاجج ضد هذا الافتراض بإعطاء مثال على عدم وضوح الخط بين الإبداع والتقليد؛ فيتساءل: ألا يحتاج الممثل الهزلي إلى قدر عالٍ من الإبداع حتى يتمكن من تقليد شخصية سياسية مشهورة؟ أو بعبارة أخرى: ألا يحتاج المرء إلى إبداع مميز ليتمكن من تقديم تقليد مميز؟ ثم يورد عجرمة ما يؤكد أن كلمة «الإبداع» Creativity لم تُطلق إلا في القرن التاسع عشر، وكان إطلاقها مرتبطاً بافتراضات الحداثة عن مفهوم الزمن؛ ولقد شكَّلت هذه القيمة سمة أساسية للذات الليبرالية الحديثة.

ثم يورد عجرمة شاهداً من التراث الإسلامي ليعكس أن الافتراض الزمني الإسلامي مخالف للافتراض الزمني الحداثي؛ ألا وهو مسألة «حكم الأعيان قبل ورود الشرع». فقد اعتنت المدونة الفقهية الإسلامية كثيراً بحكم أعيان وأشخاص قبل نزول الوحي. ويعكس هذا الاهتمام أن الماضي في الخبرة الإسلامية قد يكون في بعض الأحيان مساحة محاطة بالغموض، بينما الحاضر/ المستقبل مساحتان ثابتتان يُنطلق منهما لإزالة الالتباس عن الماضي؛ فيمكن هنا قياس الماضي على الحاضر، والحاضر على الماضي بخلاف الافتراض الحداثي والتاريخاني. مما يعني وجود سمات أخرى مهمة للذات غير سمة الإبداع، في الخبرة الإسلامية؛ مثل سمة الخبرة وقوة الحافِظة.

ثم يشرع عجرمة في محاولة استكشاف الافتراضات الزمانية للفتوى كما تُمارس في لجنة الفتوى بالأزهر. وعبر عدد كبير من الحالات وجد عجرمة أن الفتوى عبارة عن علاقة مُركبة بين المفتي والمستفتي؛ يقوم فيها المُفتي بافتراض النوايا الحسنة من جانب المستفتي، ويثق فيما يورده المستفتي من معلومات حول مسألته دون ارتياب في حقيقة هذه المعلومات، بخلاف القانون الحديث الذي يحاول دوماً البحث في حقيقة المعلومات المقدمة إليه، ويكون المفتي في هذا مستشعراً بحالة من عدم التيقن مما سوف يقوله بناءً على هذه المعلومات تدفعه إلى ممارسة الإنصات الحذِر لكل ما يقوله المستفتي، بصورة غير متباهية، وتُظهر خبرة عالية بشئون الناس. بينما المستفتي يكون في حالة حيرة شديدة مما ينبغي عليه فعله.


لا – علمانية الفتوى!

يمكن من هذه النتائج الوصول إلى استنتاج مهم، يتمثل في وجود نقطة تلاق مستقبلية يتحرك إليها المفتي والمستفتي معاً؛ هذه النقطة هي مثال للنفس المسلمة الكاملة والتي تحققت في شخص النبي محمد، صلى الله عليه وسلم. فالمستفتي يشعرُ أنه في حالة دائمة من الحيرة إيذاء ما ينبغي عليه أن يفعله كي يصل إلى هذا «المثال»، والمفتي يشعر بعدم التيقن إزاء ما ينبغي عليه قوله لإيصال المستفتي إلي هذه الحالة/ المثال أيضاً؛ مما يعني اشتراكهما في المسئولية. ولكي تتحقّق هذه المسئولية، فإن المفتي يلجأ في كثيرٍ من الأحيان إلى أساليب «تربوية»، كأن يجعل المستفتي يُقسم على القرآن الكريم بأنه سيحافظ على الصلوات مثلاً، من أجل ضمان الوصول لتلك الحالة المثالية مستغلاً عامل خبرته في أمور الدين والدنيا!

يضع مثل هذا التصور العلمانية، ومن ورائها الليبرالية، في مأزق شديد؛ فالعلمانية، كما أوضح عجرمة من خلال تعريفها الآنف، تقوم على تقسيم الحدود بين الديني والسياسي، بيد أن مجلس الفتوى بهذه الصورة لا يهتم بهذه الحدود المتخيّلة من الأساس؛ فهو غير معني بمسألة الحد الفاصل بين الديني والسياسي ومساحة كل منهما، إنما هو معني بتدبير أمور الناس لإيصالهم إلى مثلٍ أعلى ممثل في شخص نبي الإسلام؛ وبهذا، فالفتوى عند عجرمة تُصبح مساحة «لا-علمانية»؛ لأنها لا تشارك في اللعبة العلمانية/ الليبرالية منذ البداية.

وبالعودة إلى فوكو الذي يرى إمكانية مقاومة نمط السلطة الليبرالي، والتي تدور حول توفير بديل عن آليات وأهداف ممارسة السلطة والقوة الليبرالية؛ فإن الفتوى، وفق ما يقدمه عجرمة، تستطيع أن تُقدم آلية بديلة عن آليات الليبرالية؛ آلية ترتبط بأهداف إسلامية «لتهذيب» النفس؛ كي تصل إلى غاية تربط الدنيا بالآخرة، والمستقبل بالماضي.



[1]

للتعريف بحسين علي عجرمة ومؤلفاته انظر:

http://anthropology.uchicago.edu/people/faculty_member/hussein_ali_agrama/


[2]

“Questioning Secularism: Islam, Sovereignty and the Rule of Law”, Hussein Ali Agrama, ed. Jean Comaroff, Andreas Gleaser, William Sewell, and Lisa Wedeen, (Chicago; University of Chicago Press, 2012)

[3]

“The Government of Life: Foucault, Bio-politics, and Neo-Liberalism”, ed. Vanessa Lemm and Miguel Valter, (Fordham University Press, 2014), p. 1, “Michel Foucault: Key Cocepts”, ed. Dianna Taylor, (London; Routledge, 2014), pp: 4-9, “الانهمام بالذات: جمالية الوجود وجرأة قول الحقيقة”، ترجمة محمد الزويتة، (الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2015) ص: 40، 69

[4]

انظر مثلاً: “مفهوم المجتمع المدني عند ميشيل فوكو: بين تقنيات الحكم وإمكان المقوامة”، حسين بوكبر، (المركز العربي للابحاث ودراسة السياسات، مجلة تبين، العدد 18):

http://www.dohainstitute.org/release/8f479676-ee3f-4e7a-afab-a8f562361a8c?platform=hootsuite

، فعلى الرغم من استعراض الكاتب لمفهوم فوكو ومقصده إلى أنه أنهى البحث بعبارة مفادها أن المجتمع المدني العربي يمكنه تقديم تصورات مختلفة عن الذات الليبرالية دون تقديم تصور عن هذه الذات البديلة والمفترضة.