كانت وزارة الحقيقة تختلف اختلافًا بيّنًا في مظهرها عن أي بناء آخر تقع عليه العين، فهي بناء هرمي ضخم من الأسمنت الأبيض اللامع، يرتفع عاليًا يناطح السحاب، طبقة فوق طبقة، ثلاثمائة متر في السماء، ومن مكانه كان باستطاعة ونستون أن يقرأ على الحائط الأبيض كتابة ذات أحرف كبيرة بارزة، هي شعار الحزب المؤلف من جمل ثلاث: الحرب هي السلام… الحرية هي العبودية… الجهل هو القوة.





رواية «1984» لجورج أورويل.

في العام قبل الماضي، 2016، اختار معجم أكسفورد كلمة post – truth «ما بعد الحقيقة»، ككلمة العام، وهي كلمة يختارها في تقليد سنوي يختار فيه المعجم الكلمة الأكثر تأثيرًا والأكثر رواجًا في تداولها وفي استخدامها العام.

اختيار معجم أكسفورد تزامن في اتفاق لا يخلو من دلالة مع اختيار مجمع اللغة الألمانية، عام 2016، لكلمة «Postfaktisch»، التي يمكن ترجمتها إلى «ما بعد الحقيقة»، ككلمة العام أيضًا.

في روايته الشهيرة «1984» قدم الكاتب الإنجليزي جورج أورويل نموذجًا لعالم يعيش حالة «ما بعد الحقيقة»، الحالة التي صاغها أورويل، تحولت مع الكاتب المسرحي الأمريكي-الصربي، ستيف تيسش، في مقال نُشر للأخير في مجلة «The Nation» الأمريكية في العام 1992، إلى مصطلح للمرة الأولى للدلالة على الظرف الذي تفقد فيه الحقيقة مرجعيتها، وتصبح بلا جدوى أو أي تأثير.

يُعرِّف معجم أكسفورد مصطلح «ما بعد الحقيقة» بأنه:

الظروف التي تكتسب فيها الحقائق الموضوعية تأثيرًا أقل في تشكيل الرأي العام، مقارنةً بتأثير ما تفضله العواطف والقناعات الفردية، التي يتم إيثارها على الحقائق العلمية.

المصطلح الذي تحول إلى كلمة العام، أضحى تقريبًا هو الكلمة الأكثر تعبيرًا عن الحقبة التاريخية الراهنة برمتها، التي ذابت فيها الحياة في الصورة، وذابت فيها الصورة في الحياة، وصار فيها المتخيل هو البديل عن الواقع الحقيقي الذي جرى تزييفه على نطاق واسع في أعين الكثير من الناس.

إذا أردنا أن نضع أيدينا على نقطة التحول التي يمكن أن نؤرخ منها لبداية عصر «ما بعد الحقيقة»، فعلينا أن نعود معًا في البداية إلى الحرب العالمية الأولى، التي كشفت عن الوجه الخفي للقوة الجديدة الموجهة للحداثة وما بعدها.. فما هي تلك القوة؟


هندسة الرأي العام

كرست الحرب العالمية الأولى سيطرة العقل الهندسي والإداري وروح التنظيم في المجتمعات الغربية، حيث اتصل النشاط العسكري على مسرح العمليات بالتنظيم والتعبئة المنهجية للموارد الصناعية، وارتبطت الروح المعنوية للجيوش على خطوط القتال الأمامية بالروح المعنوية العامة للشعب في الخطوط الخلفية، ولهذا أعدت الأطراف المختلفة في تلك الحرب دوائر للبروباجندا لرفع معنويات الصف الداخلي، سواء المدني أو العسكري، والحط من معنويات العدو.[1]

كان مواطنو الولايات المتحدة وقت اندلاع تلك الحرب مسالمين لأقصى حد، ولا يرغبون في التورط في أي حروب أوروبية، ونتيجة لالتزامات إدارة الرئيس الأمريكي وودور ويلسون تجاه الحرب، فقد كان على الأخير أن يفعل شيئًا حيال الرأي العام الأمريكي المعارض للحرب، فقامت إدارته في عام 1917 بإنشاء هيئة رسمية تألفت من ممثلي وزارات الخارجية والحرب والبحرية، إضافة لمحترفين في صناعة الإعلان والصحافة، سميت بـ«لجنة كريل»، وهو اسم الصحفي الذي ترأسها. لتدير أول عملية دعائية حكومية في العصر الحديث.[2]

نجحت لجنة كريل خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم هيستريا الحرب، والرغبة المتعطشة في النيل من الألمان وتدميرهم، والخوض في حرب شاملة لإنقاذ العالم.[3]

انبهر بهذه النجاحات العديد من المنظرين الديمقراطيين والشخصيات الإعلامية المرموقة في الولايات المتحدة، مثل والتر ليبمان أحد أهم الصحفيين ومحللي السياسية المحلية والخارجية الأمريكيين آنذاك، حيث اقتنع الأخير بأن ذلك النجاح على مستوى الدعاية السياسية يمكن تطويعه لخدمة ما وصفه بتصنيع الإجماع، بمعنى جعل الرأي العام يوافق على أمور لا يرغب فيها بالأساس عن طريق استخدام وسائل دعائية.[4]

بحسب عالم الاجتماع الأمريكي «هربرت شيللر» يتحول الصحفيون ومصممو الدعاية ورجال العلاقات العامة في هذا الإطار، عند استحداثهم لمعنى زائف أو طرحهم لأفكار وتوجهات لا تتطابق مع حقائق الوجود الاجتماعي أو مصالحه، وفرضها عبر الإقناع إلى سائسي عقول، لشعب أكثره من القطيع.[5]

التعبير الأخير هو التعبير ذاته الذي استخدمه والتر ليبمان بالفعل، كاسم للغالبية العظمى من السكان، الذين وصفهم حرفيًّا بـ «القطيع الحائر أو الضال» الذي يقول إنه علينا أن نحمي أنفسنا من وقع أقدامه.

يمثل هذا التضليل عبر البروباجندا بحسب «باولو فرير» -تربوي برازيلي وصاحب نظريات شهيرة في مجال التعليم- إحدى أدوات القهر التي تسعى من خلالها النخبة إلى تطويع الجماهير إلى أهدافها الخاصة، فعندما يؤدي التضليل الإعلامي للجماهير بنجاح، تنتفي الحاجة إلى اتخاذ تدابير بديلة أكثر كلفة وصعوبة.[6]

ولكن لا يلجأ الحكام بحسب فرير إلى التضليل كأداة للسيطرة، إلا عندما يبدأ الشعب في الظهور كإرادة اجتماعية في مسار العملية التاريخية، أما قبل ذلك فلا وجود للتضليل بالمعنى الحرفي للكلمة، بل نجد في المقابل قمعًا شاملًا، إذ لا ضرورة هناك لتضليل المضطهدين بحسبه عندما يكونون غارقين لآذانهم في بؤس الواقع.


التلاعب بالعقول وتصنيع الإجماع

يقول المحرر الرئيسي لمعجم أكسفورد

Caspr Grathwohle

إنّ مصطلح post–truth الذي اختاره المعجم ككلمة العام احتل تلك الأهمية بعد «تنامي الاعتماد على مواقع التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار وغياب الثقة بالأخبار المقدّمة من المصادر الرسمية»، حيث أخذت عمليات التضليل الإعلامي والدعاية منحى آخر جديدًا، بعد ظهور مواقع التواصل الاجتماعي، ما حفز النخب السياسية على دعم أساليب جديدة في البروباجندا، تعتمد في بعضها على نشر الأخبار الكاذبة والمزيفة.[7]

بعد إعلان فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وُجهت لفيسبوك اتهامات واسعة بأن الأخبار الكاذبة والمزيفة التي انتشرت من خلال الموقع الاجتماعي لعبت دورًا كبيرًا في التأثير على الرأي العام الأمريكي، بشكل كبير مما أدى إلى فوز ترامب.

في إدراك صريح من شركة

فيسبوك

لصحة تلك الاتهامات، أعلنت الشركة عن حملة جديدة للتصدي للأخبار الكاذبة والحسابات الوهمية، التي باتت تلعب دورًا كبيرًا في التأثير على الرأي العام، ولاسيما بعد أن أخذت تلك الاتهامات منحى أكثر جدية، بعد بدء التحقيق الذي يجريه مكتب التحقيقات الفيدرالية في قضية التدخل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأمريكية في عام 2016.

جدير بالذكر أن هناك اتهامات عديدة أخرى موجهة أيضًا للحكومة الروسية بشأن تدخلها في

الانتخابات الفرنسية

ودعمها لماري لوبان على مدى أشهر، إلا أن تقسيم الانتخابات في فرنسا إلى مرحلتين انتخابيتين قلل من حدة هذا التأثير. ذلك فضلًا عن انخفاض استخدام الفرنسيين وسائل التواصل الاجتماعي بنسبة أقل بـ 20% ممّا يفعل الأمريكيون، فضلاً كذلك عن دور شركة فيسبوك التي قامت بحذف حسابات مزيفة يصل عددها إلى حوالي 30 ألف حساب من موقعها في الأسبوعين السابقين مباشرة للانتخابات.[8]

تمكنت الحكومة الروسية أيضًا في أزمات كضم شبه جزيرة القرم وأوكرانيا الشرقية والتدخل في سوريا، من القيام بشن حملات تضليل إعلامي باحتراف شديد من خلال البث التليفزيوني والمنصات المختلفة عبر الإنترنت كمواقع التواصل الاجتماعي وغيرها، واتبعت في هذا الإطار بعض أساليب الاتحاد السوفيتي القديمة، مثل نشر الأخبار الكاذبة وتسريب المعلومات. علمًا بأن الفارق بين تلك الأساليب القديمة والأخرى الراهنة هو السرعة الكبيرة والكمية الضخمة واتساع النطاق بشكل هائل.[9]

بعيدًا عن الروس، استفاد العديد من المؤسسات الغربية أيضًا من مواقع التواصل الاجتماعي، ودخل على خط حروب التضليل والخداع ونشر الأخبار الزائفة، وكانت إحدى أهم تلك الشركات هي شركة

كامبردج أناليتيكا

، وهي شركة خاصة تعمل في مجال جمع البيانات وتحليلها، ومساعدة السياسيين في الحملات الانتخابية عبر دراسة توجهات الناخبين والتنبؤ بسلوكهم، وتحليل البيانات المتعلقة بهم، ودراسة طرق التأثير عليهم، واشتهرت بقدرتها الفائقة على جمع البيانات، وتقديم التحليلات والتوقعات السياسية بدقة بالغة.

في سياق تحقيقات صحفية قامت بها مؤسسات بارزة، هي نيويورك تايمز الأمريكية وذا أوبزرفر البريطانية، تم الكشف عن قيام شركة كامبردج أناليتيكا باستخدام معلومات شخصية تتمتع بالخصوصية حصلت عليها من 50 مليون حساب من حسابات مستخدمي موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك دون إذن أصحابها، هذا مع العلم بأن فيسبوك كان يعلم بالخرق منذ عام 2016 كما أفادت الجارديان البريطانية.[10]

وقد استخدمت الشركة هذه البيانات لاستهداف الناخبين من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي بهدف التأثير على عواطفهم وأفكارهم من خلال حملة إعلامية تضليلية تقوم على نشر الإشاعات والفضائح بغرض التأثير في مسار العملية الانتخابية.


إلى أين يقودنا كل هذا الكم من الخداع؟

أكثر ما يستدعي التأمل هنا في النهاية بعد عرض هذا المسار التاريخي الذي بدأ منذ الحرب العالمية الأولى وحتى يومنا هذا، هو غرق الاجتماع السياسي الغربي والعالمي من قمة رأسه إلى أخمص قدميه في عوالم افتراضية مبنية على المعلومات والصور الزائفة.

في تحقق شبه كامل لنبوءات جان بودريار عن موت الواقع الحقيقي تحت وطأة تمثيلاته ونسخته غير الأصلية أو تحت النماذج المتخيلة التي من أبرزها اليوم الفضاء الافتراضي لمواقع التواصل الاجتماعي، وصرنا نعيش على حد تعبير بودريار في « عالم تزداد فيه المعلومات أكثر فأكثر، بينما يصبح المعنى فيه أقل فأقل».[11]

أو لنقل بالأحرى في عالم تصبح فيه الحقيقة أقل فأقل، حتى صرنا جميعًا في نهاية المطاف كالسائرين نيامًا، نمضي مغلقة أعيننا بإحكام في حلم جماعي من أضغاث فوضى العقل اللا واعي للبشرية الذي يختزن تجاربها وتاريخها المؤلم الطويل، تمامًا كالموتى الأحياء في أفلام الرعب الهوليودية.


المراجع



  1. أرمان ماتلار- المراقبة الشاملة (أصل النظام الأمني)– شركة المطبوعات للتوزيع والنشر
  2. المصدر السابق
  3. ناعوم تشومسكي – السيطرة على وسائل الإعلام – مكتبة الشروق الدولية
  4. المصدر السابق
  5. هربرت أ. شيللر – المتلاعبون بالعقول – سلسلة عالم المعرفة عدد رقم 106
  6. المصدر السابق
  7. ‘Post-Truth’ Is Oxford Dictionaries’ Word of the Year for 2016
  8. Putin Lost France, but He’s Still Got a Chance in Germany
  9. ما بعد الحقيقة: سياسات التضليل المتعمد في عصر الإعلام الرقمي
  10. How Trump Consultants Exploited the Facebook Data of Millions
  11. جان بودريار – المصطنع والاصطناع- المنظمة العربية للترجمة