جيلٌ بأكمله يُعامل الحاضر كخطأٍ تاريخي، يتشبث بماضيه القريب، وقد كان حينها – أو هكذا ظن – مركز التأثير الموجي المتزايد. انضم هؤلاء حينها جماعاتٍ ووحدانًا إلى الفصائل النضالية الرائجة بعد الثورة؛ «حركة السادس من أبريل – جماعات الإسلام السياسي المختلفة – الأحزاب المدنية بمختلف أسمائها»، مستجيبيبن لنداء التاريخ، لعدل ميزانه الذي مال.

يجيب أحدهم هكذا إذا ما سئل عن السبب، ويزيد بأنه تجاوز الخاص إلى العام، استجابةً لحالة من الوعي الجماعي تشكلت عبر سنوات، ظنًا منه أنه إذا ما اعتدل ميزان الوطن فإن أحواله بالتبعية ستكون للاعتدال أقرب.

ربما كان الدافع وراء استجابتهم هذه الرغبة الذاتية في الإصلاح والتأثير، النابعة من دواخل كلِ من شاركوا فيها. وربما كان الإحباط محركهم أيضًا. ونستدعي بذكر الإحباط كسبب للثورة، نظرية «الإحباط – العدوان» التي قدمها جون دولرد 1939، بافتراض أن الإحباط يُفضي دائمًا إلى شكلٍ من أشكال العداون.

انقضت سنوات الثورة الأولى جحيمًا على أبنائها، الذين كابدوا فيما بعد مرارة الهزيمة، وانقلبت حيواتهم رأسًا على عقب، ما بعد انقلاب الثالث من يوليو 2013. في هذه السطور الموجزة نتلمس بعضًا من هذه التأثيرات. ننظر في مرآة نفوسنا بعينٍ حزينة، لعلنا نرسم لأنفسنا صورةً واضحة.


تطويع الخاص للعام

دفع اندلاع ثورة الخامس والعشرين من يناير آلاف الشباب إلى الانخراط فيها وفي حراكها السياسي والمجتمعي، كلٌ حسب انتمائه السياسي والثقافي. ارتد هذا بالطبع على اختيارات أكثرهم في حياتهم الشخصية، خاصة فيما يتعلق بالدراسة والعمل. أحد هؤلاء كان «محمود العناني»، الذي قال في حديث خاص لـ«إضاءات»، إنه كان يستعد قبل الثورة ليكون رجل دين بعد أن يُتم دراسته في الشعبة الإسلامية بالثانوية الأزهرية، لكن الثورة دفعته إلى الاهتمام بمجال الإعلام، فبدأ عمله الصحفي مع «شبكة رصد» عام 2011، ثم تنقل بعدها بين عدد من المؤسسات الإعلامية، ليصبح كاتبًا صحفيًا ومنتجًا للأفلام الوثائقية.

حتى من كان قد اختار مجال دراسته وعمله قبل 25 يناير 2011، أثرت الثورة في اختياراته داخل حقل دراسته وعمله. تقول الباحثة في الفلسفة والسياسة «خديجة جعفر»: «كانت اهتماماتي قبل الثورة منحصرة في مجال الفكر وتجديد الفكر الإسلامي والاجتهاد، وكانت تحركاتي في أوساط مدرستي المنظور الحضاري وإسلامية المعرفة. الثورة صدمتني وجعلتني أرى اهتماماتي غير حقيقية بالقدر الذي كنت أعتقده، ونظرية أكثر من اللازم، وهو ما دفعني إلى سلوك اتجاهٍ جديدٍ في دراستي. حاولت لمدة عام كامل تغيير موضوع أطروحتي للماجستير، والذي كان نظريًا، إلى موضوع عملي له علاقة بالواقع، ولما فشلت في تغيير موضوع الرسالة، قمت بعمل رسالة أخرى في جامعة أخرى عن موضوع متعلق بالفلسفة السياسية والحرية».

امتدت كذلك اهتمامات «خديجة» بعد الثورة لتشمل حركات العنف في سوريا ومصر، وكتبت العديد من المقالات عنها، وتخطط أيضًا لتأليف كتاب في نفس الموضوع. «بدأت أشعر مؤخرًا، خاصة بعد 30 يونيو 2013، أني لم أعد أملك رفاهية العودة لاهتماماتي القديمة بنفس الشكل»، تضيف «جعفر».

يبقى المشترك بين شباب يناير، أنا خياراتهم انحرفت عما كانت عليه قبل الثورة. فبين من بنى أحلامه الجديدة على خيوط يناير، الواهنة، ومن صارح نفسه بجدوى خياراته السابقة، ومدى ارتباطها بالواقع الذي نزل إليه من برجه العاجي، أو استُدعي إليه قسرًا مع غيره من أبناء جيله.


الأسئلة الكبرى

غدر الزمان يا قلبي .. ما لهوش أمان

وحاييجي يوم تحتاج لحبة إيمان

قلبي ارتجف وسألني أأمن بإيه؟

أأمن بإيه محتار بقالي زمان

وعجبي





صلاح جاهين

طرحت الثورة كثيرًا من التساؤلات حول الحرية الشخصية وحدودها، وحدود الدين في المجتمع، وشكل الدولة، لاسيما بعد ظهور الإسلاميين كقوة سياسية ومجتمعية لا يُستهان بها. خرج العديد من «أبناء يناير» بقناعات جديدة حول هذه المواضيع أو على الأقل طوروا قناعاتهم السابقة.

تحكي الروائية «آية عبد الرحمن» لـ «إضاءات» عن التغيرات التي أصابتها قائلة: «تزامنت فترة مراهقتي مع هوجة عمرو خالد والحجاب. تدينت أكثر وحفظت أجزاء من القرآن وأحاديث نبوية وقدسية كثيرة، وبدأت أقرأ الكتب الدينية والتفاسير وتعمقت في الدين. كنت متطرفة في آرائي الدينية لكن بغير عنف. استمر هذا حالي، حتى الانفتاح الفكري الكبير الذي رافق الثورة. تعرفت على أشخاص أكثر لهم توجهات فكرية مختلفة عني: ملحدين يقينيين، وربوبيين، ولا أدريين، وناس كفرت -بالمعنى الديني للكفر- مع تصرفات الإسلاميين والمحسوبين عليهم في السنين الأولى للثورة، وبدأت في مراجعة كل أفكاري السابقة ومسلماتي وطرحت أسئلة عن الله»

طورت ثورة يناير والحياة التي عاشها «محمود العناني» خلال السنوات السبع الماضية، رؤيته للدين وللدولة والمجتمع، فبعد أن كان يرى عقب الثورة وجوب إقامة دولة دينية إسلامية مسؤولة عن الأخلاق والمبادئ، أصبح يعتقد أن نظام الدولة العلمانية التي لا دين لها هو الأصلح، وأن الدولة لا يجب أن يكون لها دور في دين الناس أو تسيطر عليه. وأن مؤسسات الدين يجب أن تكون منفصلة ومحايدة تمامًا، ولا تشترك في أي فعل سياسي بالإيجاب أو السلب.

ويعتقد الكاتب «شريف مراد» أن الحدث المفصلي في تغير علاقته بالإله هو الثلاثين من يونيو 2013: «كنت أعتبر وجود الإله والإيمان به ضمانة إلى حد ما لنوع من العدالة أو الإنصاف أو على الأقل الحماية، لكن بعد الانقلاب والاستباحة الكاملة للتيار الاسلامي وبعض الدوائر القريبة مني، نُسف هذا التصور من جذوره».

وتقول الأستاذة «خديجة» أن رؤيتها لله والدين وعلاقته بالزمن والفعل الإنساني كانت متبلورة قبل 25 يناير، وهو ما حمى إيمانها بعدها، خاصةً في سنوات الهزيمة عقب الثلاثين من يونيو 2013، لكن هذا لا يمنع أن هذه الرؤية قد تأثرت وتطورت بعد الثورة وإن لم تتغير.

يواجه جيلنا شعورًا متزايدًا بالدُوار، والدوار كما عرّفه «ميلان كونديرا» خلاف الخوف من السقوط، هو الرغبة الهائلة في السقوط، وهو متولّدٌ من شعورنا المتزايد بالعجز، ونتاجٌ متوقع وطبيعيٌ لارتقائنا المستمر. مثلت لحظة يناير ذروة الصعود، فكان ما بعدها عجزًا ودوارًا، وتشككًا في كل ما هو ثابت أو حسبناه ثابتًا قبلها.


عن النفس

«الأمل كان عاليًا جدًا ونزل على الأرض عقب الهزيمة أمام الانقلاب، مع الإحساس بعدم الجدوى وقلة الحيلة أمام القوة المادية للسُلطة، وانعدام أي تأثير حتى في محاولة تقليل خسائرنا. تطور الإحساس بعدم جدوى أي جهد في الحياة بشكل عام». بهذه الكلمات وصف «شريف» حالته النفسية منذ الخامس والعشرين من يناير 2011 وحتى الآن.

لا يختلف أحد ممن تحدثنا إليهم على أن الثورة أعطتهم أملًا في مستقبل أفضل حتى خلال الصراعات السياسية التي احتدمت بعدها، وأن ما حدث ويحدث منذ الثلاثين من يونيو 2013، انتزع منهم هذا الأمل وتركهم يواجهون مجاهيل مختلفة، وأزمات نفسية حادة.

يقول «محمود العناني»، وهو معتقل سابق ووالده قتيلُ أحداث عنف سياسي سبقت الثلاثين من يونيو بأسبوع، ويعيش في تركيا حاليًا: «انهزام يناير كان بالنسبة لي أُم الهزائم. كل شيء بعد انهزام يناير هين بالنسبة لي. انهزام يناير عنى لي مقتل أبي والعيش مطرودًا خارج بلدي، لا أستطيع العودة، ولا أستطيع ممارسة حقوقي كمواطن. الآن أنا أعيش وحيدًا بعيدًا عن أهلي وأصدقائي ومحبوبتي منذ 4 سنوات ولا يوجد أمل قريب في العودة. أحد تجليات هزيمة يناير أني صرت مواطنًا مصريًا منقوص الحقوق».

كانت «خديجة جعفر» تدرس خارج مصر وقت اندلاع الثورة، ولم تستطع العودة سوى بعدها بخمسة أشهر، وهو ما أحزنها كثيرًا لأنها افتقدت اللحظات الحميمية التي واكبت الثورة ولم تشعر بأجواء الميدان أو تكوّن علاقات مع أهله كغيرها. ثم أتت 30 يونيو والأحداث التي تلتها لتضاعف حزنها، فهي لم تحضر لحظة انتصار الثورة في حين عايشت فترة هزيمتها كاملة وتأثرت بها كثيرًا على المستوى الشخصي، خاصة بعد اعتقال زوجها الصحفي «إسماعيل الإسكندراني» المحبوس احتياطيًا منذ أكثر من عامين.

«كنت أشعر دائمًا أني وحيدة ومهددة أمنيًا بعد 30 يونيو. كنت أدرس في مكان أغلبه داعمون للسلطة وما تفعله، وأعمل في مكان أغلب من فيه داعمون للسلطة، وفي نفس الوقت أنا وزوجي مختلفان في وجهات النظر حول ما يحدث. كانت أوقاتًا قاسية عليّ نفسيًا جدًا. ثم أتت لحظة اعتقال إسماعيل (فانهرست) نفسيًا تمامًا» تقول «خديجة».


مثلت الارتدادة التي أعقبت الثورة لحظة محاسبة للنفس، وجلد للذات، التي طورت حياتها ومفاهيمها وفق حالة لم تعد موجودة. ولهذا ذهب الكثيرون مرةً أخرى إلى الخاص، متعالين عن العام البائسِ الدمويِّ في نظرهم. لكن تدهور الأوضاع المعيشية لم يترك لهم متنفسًا كبيرًا، كما أن الإطار الإقليمي والدولي أعادهم مرةً أخرى إلى اليأس والقنوط، فحلم الهجرة لدى الكثيرين بات صعبًا، إما لانعدام القدرة المادية (مع انخفاض قيمة الجنيه المصري) أو لتدهور الوضع الإقليمي في بلادٍ مدّت أذرعها لهم قبل الآن كدول الخليج والاتحاد الأوروبي وأمريكا.

ارتفعت

معدلات الانتحار

في مصر كنتيجة لهذا اليأس المتراكم على مر السنوات القليلة الماضية، تركزت في فئة الشباب بين 15 و29 عامًا. وبعدما كانت في عام 2012 تماثل 1.2 لكل 100.000 متوفى، زادت عام 2014 لـ3.71. تزايدت معدلات الإلحاد وهي التي

قدرتها دار الإفتاء

عام 2014 بـ 866 حالة. تزايدت وتيرة وعنف الهجمات الإرهابية بطول القطر المصري وعرضه، تعددت أهدافها وتنوعت وسائلها.

الكثير من الإحصاءات -المتاحة والممكنة- يمكنها أن تصف لنا مرحلة ما بعد الثورة، غير أن العلوم الاجتماعية تُعنى بسلسلة من التأثيرات المتفاعلة يصعب حسابها، تمامًا كتأثير أوراق الدومينو، وما يمكن أن نصفه الآن هو تجربة مبتسرة لم يكتمل نموها بعد.