التأثير الإسلامي على أوروبا في القرون الوسطى طال مناحي كبيرة من الحياة الثقافية والفكرية، ومنه أن بعض علماء القارة العجوز أتقنوا اللغة العربية واستخدموها في كتابة مؤلفاتهم، بل طال التأثير الإسلامي آليات التفكير الفلسفي والديني المسيحي نفسه.

وفي قلب ذلك كانت المدرسة الصوفية من أشد المؤثرات الإسلامية على الفكر الأوروبي في القرون الوسطى وحتى العصر الحديث، ولا يخفى تأثر الفيلسوف الهولندي الشهير باروخ سبينوزا (توفي 1677م) بالفيلسوف الصوفي الأبرز محيي الدين بن عربي، بخاصة فيما يتعلق بنظريات وحدة الأديان والإنسان الكامل، وهو المنحى الذي استفاض في شرحه أستاذ الفلسفة ومقارنة الأديان بدران بن الحسن خلال دراسته «فلسفة وحدة الوجود بين ابن عربي وسبينوزا».

وفي نهايات العصور الوسطى، نجد التأثير الصوفي الكبير على أسماء أوروبية ربما مثلت بدايات لعصر النهضة الأوروبية، ومنهم دانتي أليغييري (توفي 1321م) الشاعر الإيطالي الأشهر، صاحب «الكوميديا الإلهية».

ومن أبرز اللاهوتيين المسيحيين والفلاسفة الأوروبيين الذين تأثروا بالتصوف الإسلامي كان رامون لول (توفي 1232م) الفيلسوف واللاهوتي الكتالوني صاحب النزعة الصوفية المعروفة، والذي وضع مؤلفات باللغة العربية، بحسب «الموسوعة العربية الميسرة»، وألفونسو العاشر (1284م) الأديب والمثقف، ملك قشتالة وليون، الذي بلغ الاهتمام بالثقافة العربية في عهده مبلغًا كبيرًا، والراهب الإسباني رايموندو مارتيني (توفي 1284م) الذي أتقن اللغة العربية وألف بها كثيرًا بحسب موسوعة المستشرقين للدكتور عبدالرحمن بدوي، وغيرهم.

هؤلاء وغيرهم تأثروا بأفكار ابن عربي وابن سبعين والغزالي وكثير من متصوفة زمانهم والأزمنة التي سبقتهم… فما علامات هذا التأثر، وكيف كان التأثير؟ هذا ما نوضحه من خلال الاستعانة بنموذجين مسيحيين في القرون الوسطى، وهما رامون لول، ودانتي أليغييري.


من الشرق والغرب: الصوفية يقتحمون العقل الأوروبي

انتقال التصوف الإسلامي إلى أوروبا تم من جهتين، أولهما من ناحية الغرب، من الأندلس تحديدًا (إسبانيا الحالية)، بخاصة مع انتعاش حركة الترجمة من اللغة العربية هناك، ثم عن طريق الشرق بسبب الحملات الصليبية على الشام.

وبسبب معايشة الصليبيين للمسلمين في الشام تأثروا بالمتصوفة، وتعاملوا بتبجيل مع رموزهم وكتبوا عنهم، وعلى رأسهم رابعة العدوية التي ملأت شهرتها أوروبا كلها، بعد أن دون سيرتها المؤرخ جان دي جوانفيل Jean de Joinville (توفي 1317م) في كتابه «حياة القديس لويس – histoire de saint louis»، وفيه يوضح أنها أكبر قديسة في تاريخ أولياء أهل السنة.

ومما يذكر هنا أيضًا أن الفيلسوف الصوفي الأندلسي ابن سبعين (توفي 1269م)، ذاع صيته في أوروبا كلها، وشاع أن بابا روما (الفاتيكان حاليًا) غريغوريوس التاسع، قال عنه: «ليس في المسلمين اليوم أعلم بالله منه».

وانتدب للرد على تساؤلات الإمبراطور الروماني فريدريك الثاني (توفي 1250م) الفلسفية العقائدية، بعد أن بحث عمن يجيبه عنها من المسلمين، فقد شاع أنه كان له هوى إسلامي كبير، فأرسل إلى مصر والشام والعراق فلم تشفه الإجابة، ثم سأل في أفريقيا فلم يجد، فسأل في المغرب والأندلس عمن يجيب عن أسئلته فانتدبه حاكم سبته أبي علي بن خلاص ليرد عليها، ورفض أن يتقاضى أموالًا نظير ذلك من رسول فريدريك.

بالفعل أجاب ابن سبعين عن أسئلة فريدريك، ووثقت أجوبته في كتاب «المسائل الصقلية»، وأعجب فريدريك بأجوبته وطلب وصاله وأرسل له مكافأة عظيمة ولكنه رفض، وقال إنه يبتغي من وراء أجوبته وجه الله، وردد الآية القرآنية «قل لا أسألكم عليه أجرًا إلا المودة في القربى»، بحسب ما جاء في مقدمة «المسائل الصقلية».

لاهوتي مسيحي طالب الكنائس بترتيل «أسماء الله الحسنى»

تعلم لول اللغة العربية وأجادها وألف بها بعض كتبه، ومنها: «التأليف والتوحيد»، «التأمل في الله»، «الكافر والعارفون الثلاثة»، ثم ترجمها إلى الكتالونية.

ورغم احترامه وإعجابه بالمسلمين، فإنه لم يتقبل العقيدة الإسلامية، بل على العكس كان يبشر بالمسيحية في الأندلس والمغرب العربي، بحسب ما يوضح خوليان ريبيرا في كتابه «الأصول العربية لفلسفة رامون لول».

ورغم ذلك كان يحاول لول إظهار التقارب بين الأديان، ودعا إلى الحوار بينها، ووضح ذلك في كتابه «الكافر» الذي يتخيل خلاله رجلًا كافرًا يحاوره 3 علماء (يهودي، مسيحي، مسلم) على طريقة محيي الدين بن عربي، الذي تبنى هذه الفكرة، وبلورها في قوله:

لقد صار قلبي قابلًا كل صورة فمرعى لغزلان ودير لرهبان

وبيت لأوثان وكعبة طائف وألواح توراة ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت ركائبه فالحب ديني وإيماني

ويقول رامون لول في ختام كـتاب «الكافر والعارفون الثلاثة» على لسان أحد الحكماء الثلاثة، دون أن يحدد عقيدته:

يجب علينا أن نفترق على التسامح، وعلى كل واحد منا أن يستفيد من نقاشنا هذا. هل يعجبكم أن نتقابل مرة كل يوم في هذه الغابة ونتناقش بمنهج العقل حتى نتوصل إلى إيمان واحد، فليس لنا سوى إله واحد. لا ينبغي أن يفرقنا اختلافنا في الإيمان، أو نحارب بعضنا بعضًا ونتقاتل، لأن هذه الحرب تمنع الناس من الاتفاق على عبادة واحدة.

درس لول الفلسفة الإسلامية واطلع على مؤلفات ابن سينا والفارابي، ودرس «تهافت الفلاسفة» للغزالي، وترجم رسالته الشهيرة «مقاصد الفلاسفة» للكتالونية، وتأثر بفكره، وبخاصة فيما يتعلق بنبذ الفلسفة العقلانية، التي تنكر أي دور للعقل في المعرفة بالله والإيمان به، بحسب ما يذكر محمد عباسة في دراسته «التصوف الإسلامي بين التأثير والتأثر».

ومن خلال جولة في مؤلفاته، رصد عباسة كثيرًا من المؤثرات الصوفية عليه، كما نوضح فيما يلي:

في كـتاب «الحبيب والمحبوب»، وهو الفصل الأخير من كتابه «بلانكرنا – Blanquerna»، يبدو تأثر لول بالتصوف الإسلامي، بداية من عنوان الكتاب نفسه، الذي جاء لفظه على الطريقة الصوفية الإسلامية.

كما يحتوي الكتاب على شطحات وحكايات تشبه كثيرًا ما أتى في كثير من كتب التصوف الإسلامي، واستخدم فيه ألفاظًا ومصطلحات سبقه لها محيي الدين بن عربي، حيث يبدو أن لول معجب بمذهب ابن عربي كما هو متأثر بمنهج الغزالي، بحسب ما يقول عباسة.

وفي نفس الكتاب يقول لول إنه وجد الناس في جانب من بلاد البربر (المغرب العربي) يحكون أن الأتقياء ينشدون أشعارًا عن اللٰه وعن الحب، ويسيحون ببر الدنيا، يعانون المسكنة، وأعمالًا أخرى كثيرة، وهؤلاء هم الصوفية المرابطون، الذين تعودوا أن يرسلوا في كلامهم بعض الأمثال والحكم القصيرة التي يتطلبها أسلوبهم، ويضيف لول إنه «ألف كتابه طبقًا لمنهجهم».

كذلك يرى لول أن العشق الإلهي لا ينبغي أن يلهمه خوفًا من عذاب جهنم ولا رجاء لنعم الجنة، بل يلهمه ذكر كمال الله، وهو نفس ما قالته رابعة العدوية من قبله، بحسب المتواتر عنها:

اللهم إني أعبدك ليس خوفًا من نارك ولا طمعًا في جنتك، ولكنك إله تستحق العبادة.

وفي كتابه «التأمل في اللٰه» يشير لول إلى استخدامه أسلوب الدعاء الذهني والمناجاة على الطريقة الإسلامية.

أما أسماء الله الحسنى التي تحدث عنها ابن عربي بتوسع في «الفتوحات المكية» فقد أفرد لها لول كتابًا بعنوان «أسماء الله المائة»، وفي مقدمته يطالب الكنائس أن تنشد «أسماء الله المائة التي يرددها المسلمون»، بحسب خوليان ريبيرا.

دانتي يستورد قداسة المرأة وطبقات الجحيم من ابن عربي

الشاعر الإيطالي الأشهر في القرون الوسطى دانتي أليغييري، تأثر عمومًا بالتصورات الإسلامية، وبالأفكار الصوفية خصوصًا، وفي القلب منها أفكار ابن عربي، خلال عمله الشعري الأشهر والأهم «الكوميديا الإلهية».

“الكوميديا الإلهية» عمومًا تبدو متأثرة بشدة برحلة معراج النبي محمد إلى السماء، حيث يتخيل خلال عمله الشعري المقسم إلى 3 أجزاء (الجحيم، المطهر، الفردوس) أنه يزور النار والجنة وما بينهما (مكان أهله ليسوا في نعيم ولا جحيم، كأهل الأعراف في التصور الإسلامي)، حتى يرى الله نفسه.

ويوضح لطفي عبد البديع في كتابه «الإسلام في إسبانيا» أن إحدى صور المعراج النبوي ترجمت من العربية إلى القشتالية والفرنسية واللاتينية بأمر من الملك ألفونسو العاشر عام 1260م، ثم تعلمها الفيلسوف الإيطالي برونيتو لاتيني (توفي 1294م)، الذي بدوره نقلها إلى دانتي أليغييري، وكان تلميذه.

بعيدًا عن فكرة المعراج، نلحظ أن دانتي تأثر بابن عربي في محورين رئيسيين داخل «الكوميديا الإلهية»، وهما تصوره عن «الجحيم»، وكذلك فلسفته تجاه بياتريتشي.

الحبيبة القديسة: هل استنسخها من ابن عربي؟

شخصية «بياتريتشي» المؤثرة جدًا في «الكوميديا الإلهية»، تشبه أفكار ابن عربي عن المرأة، هذه الأفكار التي تجلت في «نظام» الأصفهانية، التي عشقها الشيخ الأكبر حين أقام في مكة، وكتب فيها ديوانه «ترجمان الأشواق»، بحسب ما رصدنا.

فكما كانت «نظام» رمزًا روحيًا كتب فيه ابن عربي شعره الغزلي الذي تجلى بخاصة في ديوانه «ترجمان الأشواق»، الذي يحمل في باطنه حبًا إلهيًا، كذلك استخدم دانتي حبيبته «بياتريتشي في جعلها رمزًا علويًا يجمع الفضائل، فهي عنده ابنة الله، التي تجمع صفاته من الرحمة والمحبة.

بياتريتشي عند دانتي تبدو أحيانًا رمزًا للسيدة العذراء مريم، أو هي صورة الله نفسه في التصور المسيحي، وأحيانًا تصير هي الروح القدس أو السر المقدس أو اتحاد النفس البشرية بالله، بحسب ما يوضح حسن عثمان في تقديمه للكوميديا الإلهية.

فهي التي تصحب دانتي في رحلته داخل الفردوس خلال الجزء الثاني والثالث من الكوميديا الإلهية، بدءًا من الفردوس الأرضي وحتى الفردوس العلوي السماوي، فهي تصول وتجول في السماوات كما تريد.

هي التي تخاطب الملائكة خلال الرحلة، وتلومه
على خطاياه، وكأنها إلهه الذي يحاسبه، وفي نفس الوقت تشع عينيها بنور إلهي يكسبه
القدرة على رؤية الله.

ولكنها رغم كل ذلك هي الفتاة الجميلة التي كان
يحب النظر إلى جسدها. وهي التي تطلب الحوريات منها أن تبتسم لتبهر دانتي بجمالها، فينبهر
ويعبر عن عجزه وسائر الشعراء عن وصفها.

وفي المقابل

يعتبر ابن عربي

أن الاتصال بالمرأة (وبالنسبة له المرأة هي حبيبته
وزوجته نظام) هو اتصال بسر الألوهية، وحب جسدها هو عبادة تجدد العلاقة بالله.

ويقول ابن عربي عن نظام في «ترجمان الأشواق» -ويجب الانتباه إلى الدلالات العميقة للوصف، إذا ما أخذناه إلى الرمزية الصوفية: «هي السؤال والمأمول، والعذراء البتول».

ويضيف: كل اسم أذكره في هذا الجزء (يقصد ديوان ترجمان الأشواق) فعنها أكني، وكل دار أندبها فدارها أعني، ولم أزل فيما نظمته في هذا الجزء على الإيماء إلى الواردات الإلهية، والتنزلات الروحانية، والمناسبات العلوية، جريًا على طريقتنا المثلى، فإن الآخرة خير لنا من الأولى.

ولعلنا نلاحظ هنا، أن الرمزية الصوفية مع «نظام» استخدمت مرتين عكس بعضهما، فتارة كانت نظام هي الرمز إلى «الواردات الإلهية والتنزلات الروحانية والمناسبات العلوية» وأخرى كانت هذه الروحانيات هي التي ترمز إلى نظام، وكأنهما شيء واحد، أو شيئان اتحدا فصارا واحدًا، وليس خافيًا هنا عقيدة ابن عربي في الاتحاد.


نار
الآخرة بين دانتي وابن عربي

أما الملمح الثاني الذي رصدناه من تأثر دانتي بابن عربي، فيتعلق بتصور الجحيم، بين الصوفي المسلم والشاعر الإيطالي، فنلاحظ في الكوميديا الإلهية أن دانتي تصور الجحيم على أنه عبارة عن طبقات، كل طبقة أشد من الأخرى في العذاب، ومخصصة لعصاة أشد جرمًا من الطبقات السابقة، وهو نفس التصور الذي رسمه ابن عربي في «الفتوحات المكية»، ولكن الفارق في عدد الطبقات ومسمياتها.

فعند دانتي يتكون الجحيم من 9 طبقات، أقلهم عذابًا هي اللمبو، وأشدهم هي طبقات الجحيم الدنيا والتي تبدأ من السادسة حتى التاسعة.

بينما
عند ابن عربي يتكون من 7 طبقات، هي: سجين، الحطمة، اللظى، سقر،
السعير، الجحيم، جهنم.

ربما نستطيع التوسع أكثر من ذلك لعرض الفكرة، من خلال الاستعانة بمقاربات أخرى بين أفكار فلاسفة ولاهوتيين وأدباء أوروبيين من جهة، ومتصوفة مسلمين سبقوهم من جهة أخرى، ولكن يكفي القول بأن هذه الفترة (نهايات القرون الوسطى وبدايات عصر النهضة الأوروبي) شهدت جهادًا كبيرًا للأوروبيين نحو النهوض، وكان من الطبيعي أن يستفيدوا من الحضارات التي سبقتهم، وأقربها إليهم كانت حضارة المسلمين، وفي قلبها الحركة الصوفية.