الحرب المعقدة في اليمن وما أعقبها من انهيار لحكومة يمنية موحدة وفرت للقاعدة في شبه الجزيرة العربية فرصًا لتطوير واختبار استراتيجيات وتكتيكات جديدة، في حين أن القاعدة في شبه الجزيرة العربية، قد أضعفتها الجهود التي يقودها المواطنون في جنوب اليمن، والضربات الإماراتية الأخيرة وآخرها عملية «السيف الحاسم»، إلا أنها لا تزال عدوًا هائلًا من شأنه أن يسلك نهجًا أكثر دقة للحرب المتمردة.

تتزامن تلك العمليات مع تصاعد الاتهامات المحلية والدولية للسعودية والإمارات بدعم توسع وانتشار القاعدة باليمن. وبالرغم من أنه لا يمكن حسم حقيقة دعم الإمارات والسعودية لتنظيم القاعدة في اليمن ، فإن ذاكرة الحرب تشير إلى أدوار متباينة ومصالح متقاطعة ظاهرة وباطنة ترسم شكلًا متناقضًا لتلك العلاقة.


دور سعودي موثق

كان من نتاج سياسات «لعبة التوازنات» التي تبنتها الأنظمة العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال كأداة لتقويض القوى المعارضة وعلى رأسها القوى العلمانية ما أدى لتطوير ودعم قدرات صناعة التمرد والتطرف في المنطقة.

أيقظت تلك الأنظمة وحشًا لم تستطع يومًا إيقافه. بات يقتات على ظلمها. عمل اليمن في نهاية الثمانينات على دعم المقاتلين العرب العائدين من أفغانستان ضد حركة التمرد والانفصال في الجنوب، حتى أضحت مناطق الجنوب مركزًا للجماعات السلفية المسلحة.

تمدد «القاعدة» وتنامي قدراته المالية والبشرية قاد إلى أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، التي مثلت نقطة تحول في توجه الأنظمة الغربية والشرق أوسطية ضد معاقل التنظيم في المنطقة. ضغط الولايات المتحدة على التنظيم ليس فقط عن طريق الضربات العسكرية على جبهات متعددة، ولكن أيضًا عن طريق تتبع مصادر تمويله كشف عن

الدور السعودي

في تمويل بعض أفراد ونشاطات التنظيم.

أدت سياسات الولايات المتحدة عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى توجيه الأنظمة العربية عدد من الضربات ضد معاقل التنظيمات الجهادية وعلى رأسها القاعدة، خاصة في المملكة، مما دفع بعناصر تنظيم القاعدة بالسعودية للهجرة إلى اليمن، والتمركز فيها لتتعاظم قوة التنظيم في جنوب اليمن بعد اندماج فرعي القاعدة في السعودية واليمن في 2009، تحت مسمى «القاعدة في شبه الجزيرة العربية».


الرقص مع الأفاعي

حالة من الغليان والتمرد في الجنوب اليمني نتيجة لسياسات التهميش الاجتماعي والاقتصادي، نجح تنظيم القاعدة في توظيفها لدعم قدراته الدعائية وبسط نفوذه في محافظات الجنوب. كما لاقت هذه الحالة رواجًا كبيرًا في بقاع اليمن مع انطلاق ثورات الربيع العربي 2011.

خشيت أنظمة الخليج واليمن من تعاظم التمرد ونجاحه في الجنوب فعملت على تقويضه. وفي ظل سياسات الرقص على رءوس الأفاعي عمل النظام اليمني على تسهيل سيطرة القاعدة على محافظة أبين وإقامة ولايته الأولى في «زنجبار» منتصف 2011، بينما امتدت تلك السيطرة على مناطق أخرى في محافظة شبوة.

لا نحرص على قيام دولة إسلامية في الجنوب في أول فرصة تسقط فيها سيطرة الحكومة عليه وسبب ذلك ما سبق ذكره بأننا لم نتهيأ بعد لمرحلة تظليل الشعوب بمظلة الحكم الإسلامي، لأسباب منها أن لهم احتياجات وضروريات عدم توفرها من أهم عوامل ثورتهم على الحاكم ونحن لا نستطيع توفيرها في ظل حصار ومحاربة العالم كله لنا بهذه الوتيرة

هكذا حرص الأب الروحي للتنظيم «أسامة بن لادن» على تحذير أنصاره باليمن من التسرع في إعلان قيام الدولة الإسلامية جنوبي اليمن على الرغم من سيطرتهم على مناطق عدة في اليمن. ويرى «ابن لادن» أن شرط تحقيق بناء الدولة الإسلامية في اليمن لم يكتمل بعد، كما حذر أنصاره من مهبة تدخل خليجي – غربي لوقف تمدد القاعدة جنوبي اليمن مهما كلفهم الأمر.

لكن على الرغم من تحذير الأب الروحي، عمل التنظيم في الفترة ما بين 2013 و2014 على شن عدد أكبر من

العمليات

؛ أبرزها اقتحام مناطق عسكرية في عدن وحضرموت وشبوة، ومبنى وزارة الدفاع في العاصمة صنعاء، إضافة لإسقاطه المؤقت لمدن في وادي حضرموت ومحافظة البيضاء.

اقرأ أيضًا:

من رحم الوثائق: رحلة في عقل «أسامة بن لادن»


دعم إماراتي متعدد الأوجه


لم تكن توقعات ابن لادن «بخوض حرب خليجية في اليمن» ببعيد، لكنها لم تكن في البدء ضد القاعدة بل ضد التمدد الحوثي المدعوم إيرانيًا. ومع بزوغ أوائل 2015 دخلت اليمن في حرب ممتدة متعددة الأطراف والتحالفات. قبيل الحرب كانت اليمن بالفعل دولة مزدحمة مع مزيد من الانقسامات.

استولى المتمردون الحوثيون على العاصمة صنعاء في سبتمبر/أيلول 2014، الحكومة المعترف بها دوليًا في المنفي منذ مارس/آذار 2015. في الجنوب اكتسبت الحركات الانفصالية مزيدًا من القوة والتوسع في ظل الفراغ السياسي والحكومي مما أدى إلى تزايد نفوذ القاعدة.

تركيز الهجمات السعودية والإماراتية في بدء الحرب على وقف توسع الحوثيين في شمال اليمن واستعادة المدن التي سيطر عليها الحوثيون، لم يصاحبها هجمات على معاقل تنظيم القاعدة في مأرب والبيضاء «من مدن الشمال». في سياق أكثر براجماتية عملت السعودية والإمارات على دعم وتمويل وتسليح ميليشيات ضمت في صفوفها قادة من تنظيم القاعدة وعلى رأسها «المقاومة الشعبية» التي ضمت قوات لـ «أبوالعباس»، أكبر قوة سلفية داخل المقاومة في تعز.

بالرغم من أن

تقريرًا أمميًا

أشار إلى دعم الإمارات لقوات «أبو العباس» في تعز، فإن الولايات المتحدة والتحالف العربي أدرجه على قوائم الإرهاب لدعمه وتمويله القاعدة وداعش. على الجبهة الأخرى أكد أمير تنظيم القاعدة في جزيرة العرب «قاسم الريمي» أن القاعدة تقاتل جنبًا إلى جنب مع جميع المسلمين في اليمن وجنبًا إلى جنب مع مجموعات إسلامية مختلفة.

وفي الحقيقة، أدت حالة الفراغ السياسي والأمني في اليمن نتيجة الحرب إلى توسع القاعدة في محافظات الجنوب وعلى رأسها «محافظة شبوة» النفطية. سيطرة القاعدة على مدينة «المكلا» في أبريل/نيسان 2015 أبرز نقاط التحول في مسارات القاعدة باليمن، فقد حاول التنظيم تبني قيم

الحوكمة الرشيدة

والإدارة غير المباشرة لشئون المدينة، والناس وتوفير متطلبات الناس بعيدًا عن التطرف والعنف، كما عمل على تحقيق

عوائد ربحية

واقتصادية كبرى جراء إدارة شئون المدينة الاقتصادية والتجارية.

في الوقت الذي عملت فيه القاعدة على تطبيق قيم الحوكمة في إدارة المكلا، عملت الإمارات على تشديد قبضتها الأمنية على الجنوب، والسعي إلى عسكرة جنوب اليمن من خلال تأسيس مجموعات مسلحة «قوات النخبة الحضرمية، قوات الحزام الأمني، قوات النخبة الشبوانية» وهي مجموعات يمنية جنوبية تحصل على تدريبها وتمويلها من الإمارات.


مستقبل القاعدة باليمن

باتت مصالح الإمارات في اليمن أكثر من وقف تمدد قوات الحوثي المدعومة إيرانيًا باليمن، لكنها تسعى إلى رسم سياسات تمكين لنفوذها في جنوب اليمن. تتقاطع تلك المصالح مع مصالح القاعدة في الجنوب.

سعت الإمارات في أعقاب تحجيم الحوثيين إلى شن هجمات متتالية على القاعدة في محافظات الجنوب تنسيقًا مع الولايات المتحدة التي تشن باستمرار غارات جوية تستهدف قيادات التنظيم وتستنزف قدراته في تلك المناطق.

في المقابل أدركت قيادات القاعدة أنها الخاسر في حرب غير متوازنة عسكريًا وسياسيًا، لذا عملت على تغيير استراتيجياتها والتركيز على الاندماج ومحاولات الحكم غير المباشر، والتخلي عن سياسات العنف توددًا للرأي العام اليمني.

لذلك انسحبت القاعدة من المكلا اختياريًا في أبريل/نيسان 2016 وبأقل الخسائر تحت وطأة حملات القوات المدعومة إماراتيًا. تراجع التنظيم أيضًا في مناطق عدة في اليمن منها «وادي المسيني» لا يعني تطهير اليمن من القاعدة، فاستراتيجية التنظيم الجديدة تحمل في طياتها عوامل تكيفه ومرونته في التعامل مع المتغيرات السياسية.