للمصريين عادات خاصة في رمضان اشتهروا بها، وميّزتهم عن غيرهم من شعوب المسلمين، في مأكلهم ومشربهم وزينتهم، أكثر هذه العادات متوارث عن أجدادهم في العصور الوسطى، ابتدأها الفاطميون وزاد عليها المماليك وظل من بعدَهم يتوارث هذه العادات ويزيد عليها حتى يومنا هذا.

تؤرخ هذه المقالة الطريفة لعادات المصريين في رمضان في العصر الفاطمي وعصر المماليك، وفيها تأصيل لكثير من عاداتنا التي نمارسها في رمضان، أما الكاتب فهو شيخ المؤرخين العرب الدكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، ولد سنة ١٩٢٢، والده هو الشيخ عبد الفتاح عاشور المدرس بمدرسة دار العلوم، التحق بكلية الآداب جامعة القاهرة، وتخرج عام ١٩٤٤م، وحصل على الماجستير والدكتوراه وعيّن أستاذًا لتاريخ العصور الوسطى بالجامعة، ألّف عاشور أكثر من ٢٢ كتابًا في تاريخ العصور الوسطى في أوروبا والمشرق العربي الإسلامي، مثل كتاب «الحركة الصليبية»، وكتاب «أوربا العصور الوسطى» وشارك في تحقيق عدد من كتب التاريخ مثل «السلوك لمعرفة دول الملوك» للمقريزى و«كنز الدرر» لابن أيبك، «نهاية الأرب» للنويرى، كما نشر العديد من الأبحاث والمقالات العلمية، وأشرف على الأبحاث، وعمل أستاذًا زائرًا بالعديد من الجامعات المصرية والعربية. انتخب عام ١٩٩١م رئيسًا لاتحاد المؤرخين العرب، وظل يحتفظ به بإجماع الأعضاء حتى تقاعده لظروفه الصحية عام ٢٠٠٥م. توفي رحمه الله عام ٢٠٠٩م.

إن مكانة شهر رمضان المبارك في الإسلام جعلت المسلمين في كل زمان يحرصون على إحيائه إحياءً يتناسب وتلك المكانة العظيمة، ويتخذ إحياء شهر رمضان مظاهر عدة: منها ما هو ديني ومنها ما هو ثقافي ومنها ما هو اجتماعي، ولكن جميع هذه المظاهر وإن تعددت فإنها تعبّر عن إحساس واحد عميق نحو هذا الشهر، وهذا الإحساس في حقيقة أمره مزيج من الحب والتقدير والإجلال لذكريات عزيزة على قلبٍ مسلمٍ ارتبطت بهذا الشهر، وتركت أثرًا عميقًا في حياة البشر وتاريخهم. ومصر التي عرفت دائمًا بأنها مركز مضيء من مراكز الإسلام، حرص أهلها دائمًا على إحياء شهر رمضان إحياء كله بهجة وسرور، وساعدهم على ذلك طبيعة البلاد ووفرة خيراتها، وصفاء سمائها، وسهولة الحياة فيها، فضلاً عما اشتهر به أهل مصر من تقوى وورع وإخلاص للدين.


عادات الفاطميين في رمضان

والمعروف أن قدرًا كبيرًا من العادات والتقاليد التي تمسك بها المصريون في إحياء المناسبات الدينية العديدة إنما ترجع أصولها إلى أيام الفاطميين بالذات، وهم الذين أسرفوا في إقامة الأسمطة في الأعياد والمواسم، وابتكروا ألوانًا من الطعام والحلوى ربطوا بينها وبين كثير من الأعياد الدينية، وكان من الطبيعي أن يحظى شهر رمضان بالذات بكثير من عناية الخلفاء الفاطميين ورعايتهم، فأسرفوا في ألوان الطعام والشراب فيه، وأكثروا من الزينات والأضواء في لياليه، وابتدعوا فيه عددًا من التقاليد المستحدثة التي ما زال بعضها باقيًا حتى اليوم.

على أنه ثمّة مبدأ غريب طبّقه الفاطميون في مصر في شهر رمضان لأنهم اعتبروه من أصول المذهب الشيعي، وهذا المبدأ هو تقييد شهر رمضان بتسعة وعشرين يومًا دون الارتباط برؤية الهلال، وإذا كان المعروف عند أهل السنة من شهر رمضان ينتهي بظهور هلال شوال، وذلك عملاً بالحديث الشريف: «صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته»، فإن جوهر الصقلي لم يرضٙ بتطبيق هذا الرأي غداة فتحه مصر، وإنما قرر إبطال الصوم بعد التاسع والعشرين من رمضان، وصلى العيد قبل رؤية هلال شوال، وعندما اعترض أهل الفسطاط على ما فعله الصقلي وصاموا اليوم الثلاثين ثم صلوا العيد بعد ذلك عندما تأكدوا من رؤية هلال شوال غضب جوهر وأنكر على قاضي الفسطاط ما فعله وتهدّده.


أثر المماليك في عاداتنا المتوارثة في رمضان



اهتم سلاطين المماليك بالصدقة في رمضان، فالسلطان برقوق اعتاد أن يذبح طوال سلطنته في كل يوم من أيام رمضان خمسًا وعشرين بقرة يتصدق بلحومها.

ومهما يكن من أمر، فإن الاحتفال بشهر رمضان بلغ ذروته من العظمة على عصر سلاطين المماليك في مصر، وساعد على ذلك ما تمتعت به مصر في ذلك العصر من ثروة طائلة، فضلاً عن ضعف الخطرين الصليبي والمغولي في أواخر ذلك العصر، وقد وصف الرحالة ابن بطوطة طريقة احتفال المصريين في القرن الثامن الهجري برؤية هلال رمضان، وكان ذلك بمدينة إبيار، فقال إنه في يوم الركبة – وهو يوم ارتقاب هلال رمضان ويوافق التاسع والعشرين من شعبان – اجتمع فقهاء المدينة ووجوهها بعد العصر بدار القاضي الشافعي، وكان يقف على باب الدار نقيب المتعممين، فإذا أتى أحد الفقهاء أو الأعيان للقاء ذلك النقيب ومضى بين يديه قائلاً: «بسم الله سيدنا فلان الدين»، فيقوم القاضي ومن معه ويجلسه النقيب في موضع يليق به، وعندما يتكاملون هنالك يركبون جميعًا وعلى رأسهم القاضي ويتبعهم من بالمدينة من الرجال والصبيان حتى إذا ما انتهوا إلى موضع مرتفع خارج المدينة وهو مرتقب الهلال ينزل القاضي ومن معه يرتقبون الهلال، وبعد صلاة المغرب يعودون جميعًا وبين أيديهم الشموع والمشاعل والفوانيس، أما إذا حدث ارتباك بسبب كثرة السحب أو رؤية الهلال في بعض الجهات وعدم رؤيته في البعض الآخر فإن الحاضرين يكتفون بشهادة اثنين من الرجال، وبعد ثبوت الرؤية يوقِد التجار الشموع بحوانيتهم وتكثر الأنوار في الطرقات والدروب والمساجد وبذلك يتحول الليل نهارًا طيلة شهر رمضان.

وقد شهد أحد الرحالة الأجانب في عصر المماليك – هو برنارد دي بريدنباخ – ليالي رمضان في القاهرة فوصف وسائل السرور عند الناس، ومنها الغناء ودق الطبول طول الليل حتى تعذر عليه النوم، أما فابر الذي زار مصر سنة 1483م فدهش ليلة دخوله القاهرة لكثرة الأنوار والمشاعل في الطرقات، والفوانيس المختلفة الأشكال التي يحملها الكبار والصغار، ولما استفسر عن سبب كل هذه الجلبة قيل له إن الشهر رمضان، وأن المسلمين يحتفلون به على ذلك الوجه، كذلك لاحظ الرحالة سيمون سيجولي أن الحوانيت – لا سيما محال الطعام والمطابخ – تظل أبوابها مفتوحة طوال ليالي شهر رمضان. ويذكر ابن الحاج في كتابه «المدخل» أن المدن المصرية في عصر المماليك اختلفت في طريقة التسحير، ففي القاهرة ومصر جرت العادة أن يطوف أصحاب الأرباع وغيرهم بالطبلة على البيوت وهم يضربون عليها، أما أهل الإسكندرية فاعتادوا أن يكون التسحير بدق الأبواب على أصحاب البيوت والمناداة على كل فرد باسمه، ويذكر السخاوي أن بعض العلماء اقترح على السلطان برسباي سنة 830 هـ عدم إطفاء القناديل في رمضان إلا قبيل طلوع الفجر، إيذانًا بآخر فرصة للتسحير.

وكانت قراءة صحيح البخاري بالقلعة من أهم المظاهر الرسمية لإحياء شهر رمضان في ذلك العصر، وقد جرت العادة أيام السلطان شعبان أن يبتدئ بقراءة البخاري في أول يوم من شهر رمضان بين يدي السلطان ويحضروا طائفة من قضاء القضاة والفقهاء، ولم يزل الأمر على ذلك حتى تسلطن المؤيد شيخ فجعل قراءة البخاري بالقلعة تبدأ من أول شعبان وتستمر حتى السابع والعشرين من رمضان، وزاد السلطان شيخ على ذلك أن دعا لحضور ذلك المجلس جمعًا كبيرًا من مشايخ العلم والطلبة، حتى زاد عددهم سنة 819 هـ على ستين فقيهًا «صرف لكل منهم ألف درهم فلوسًا» على قول المقريزي. وقد درات في هذه المجالس بحوث ربما اشتدت فيها المناقشات والجدل حتى يسيء بعضهم إلى بعض فينقلب المجلس إلى صياح وشتائم؛ مما جعل المقريزي يصف هذه المجالس بأنها «منكر في صورة معروف، ومعصية في زي طاعة»، وذلك نظرًا لما كانت تثيره من حزازات بين رجال العلم والدين، وقد عالج السلطان جقمق هذا الإشكال سنة 842 هـ بأن منع الحاضرين من البحث وحرم عليهم المناقشة أثناء المجلس، «فانكفوا عن ذلك والحمد لله»، فإذا تم ختم البخاري – وذلك عادة في الثلث الأخير من شهر رمضان – احتفل السلطان احتفالاً كبيرًا في القلعة، فترسل الخلع إلى القضاة والعلماء والفقهاء، وتوزع الأموال «والصور» على الناس.

كذلك اهتم سلاطين المماليك بالتوسع في الإحسان والصدقة طيلة رمضان، فالسلطان برقوق اعتاد أن يذبح طوال سلطنته في كل يوم من أيام رمضان خمسًا وعشرين بقرة يتصدق بلحومها مع ما يطبخ من الطعام وما يخبز من آلاف الأرغفة على أهل الجوامع والخوانق والربط والسجون، بحيث يخص كل فرد رطل لحم مطبوخ وثلاثة أرغفة، وحاكى السلطان برقوق في ذلك من أتى بعده من السلاطين فأكثروا من ذبح الأبقار وتفريق لحومها. أما المساكين والمعدمون فرتب لهم سلاطين المماليك في شهر رمضان مطابخ لإفطار الصائمين وتوزيع الصدقات عليهم، وقد بلغ عدد الطاعمين في هذه المطابخ أيام السلطان الظاهر بيبرس خمسة آلاف نفس في كل يوم من أيام شهر رمضان، كذلك اعتاد سلاطين المماليك أن يعتق الواحد منهم في شهر رمضان ثلاثين نسمة أي بعدد أيام الشهر، يضاف إلى ذلك كله أنواع التوسعة على العلماء وأصحاب المرتبات «الجامكيات» الذين يصرف لهم رواتب إضافية في شهر رمضان وبخاصة من السكر الذي كانت تتضاعف كمية المستهلك منه في هذا الشهر بسبب الإكثار من عمل الحلوى، وقد بلغ راتب السكر أيام الناصر محمد في رمضان سنة 745 هـ ثلاثة آلاف قنطار، قيمتها ثلاثون ألف دينار، منها ستون قنطارًا كل يوم من أيام رمضان برسم الدور السلطانية.

أما أمراء المماليك فقد حاكوا سلاطينهم في الإكثار من الصدقة والإحسان في شهر رمضان، من ذلك أن الأمير طشمتر البدري عرف عنه حرصه على الإكثار من ذبح البقر والغنم في ليالي رمضان، كذلك يروي أبو المحاسن في كتابه مورد اللطافة أن السلطان برقوق كان يفعل ذلك أيام إمارته قبل أن يصبح سلطانًا.

وإذا كان هذا هو شأن السلاطين والأمراء في عصر المماليك فإن عامة الناس لم يكونوا أقل احتفاء بشهر رمضان، فإذا تخلف فرد عن زيارة قريبه أو صاحبه أو معلمه في شهر رمضان أدى ذلك إلى سوء تفاهم بين الطرفين كما يذكر ابن الحاج، وعمد كثير من الناس إلى إحياء رمضان في الجوامع والمساجد بقراءة صحيح البخاري أو صحيح مسلم أو بالذكر أو بالصلاة لا سيما صلاة التراويح. وجرت العادة في عصر المماليك أنه عند ختم القرآن بأحد المساجد في شهر رمضان يحتفل بذلك احتفالاً كبيرًا، فتقرأ القصائد ويجتمع المؤذنون فيكبّرون جماعة في موضع الختم، ثم يؤتى بفرس أو بغلة ليركبها القارئ الذي تولى قراءة الختمة، ويزفونه إلى بيته في موكب هائل، وأمامه القراء يقرأون والمؤذنون يكبرون والفقراء يذكرون، وربما أضاف بعضهم إلى ذلك ضرب الطبل والدف والأبواق.


عادات وداع رمضان واستقبال العيد



إن عامة الناس لم يكونوا أقل احتفاء بشهر رمضان، فإذا تخلف فرد عن زيارة قريبه أو صاحبه أو معلمه في شهر رمضان أدى ذلك إلى سوء تفاهم بين الطرفين كما يذكر بعض المؤرخين.

وفي أواخر شهر رمضان يستعد الناس لتوديع هذا الشهر الكريم، واستقبال عيد الفطر في الأيام الثلاثة الأولى، ويستعد الناس أتم الاستعداد لهذا العيد، فيسهرون ليلة العيد حتى ساعة متأخرة من الليل في صقل الملابس وإعداد الزخارف.



مواطن الأنس التي اعتاد المصريون أن يهرعوا إليها في العيد، فأهمها القرافة والنيل، فيخرجون إلى القرافة زرافات ومعهم نساؤهم وأولادهم، أو يقصدون شاطئ النيل حيث يستأجرون المراكب للنزهة.

أما الكعك وغيره من أصناف الحلوى فصنعها الناس في أواخر شهر رمضان ليتبادلوا بها التهنئة في العيد، ويبدو أن العادة الموجودة اليوم عند كثيرين من تفضيل أكل السمك المجفف في عيد الفطر مستمدة من الأوضاع التي سادت في العصور الوسطى، عندما كان المصريون في عصر المماليك يفضلون أكل «السمك المشقوق»، كما يسميه ابن الحاج، وفي الصباح المبكر لأول أيام العيد يجتمع أهل الحي أمام منزل الإمام الذي سيصلي بهم صلاة العيد في المسجد، فإذا خرج إليهم زفوه حتى المسجد وبأيديهم القناديل وهم يكبرون طوال الطريق، وبعد انتهاء الصلاة يعودون به إلى منزله على الصورة نفسها التي أحضروه بها.

أما مواطن الأنس التي اعتاد الناس أن يهرعوا إليها في العيد والتي يستعدون للخروج إليها من أواخر رمضان، فأهمها القرافة والنيل، فيخرجون إلى القرافة زرافات ومعهم نساؤهم وأولادهم، أو يقصدون شاطئ النيل حيث يستأجرون المراكب للنزهة، وفي كلتا الحالتين كانت تحدث مفاسد كثيرة تتعارض مع مبادئ الأخلاق والدين، مما حدا بحكومة المماليك إلى المناداة في شوارع القاهرة في آخر أيام رمضان – أي ليلة العيد – بمنع الناس كافة والنساء خاصة من الخروج إلى القرافة وركوب المراكب بالنيل طوال العيد، ويهدد من يفعل ذلك بتوسيطه هو والمكاري والحمار في الحالة الأولى، أو بإحراقه هو والنوتي والمركب في الحالة الثانية.

كذلك جرى العرف في عصر المماليك أن يصعد ناظر خاص إلى القلعة في آخر أيام رمضان ويكون ذلك في موكب كبير وبصحبة عدد عظيم من الحمالين يحملون خلع العيد، وفي هذه الليلة – ليلة العيد – يدخل الأمراء جميعًا على السلطان «للتهنئة وتقبيل يده» على حد تعبير المقريزي، فإذا ما أصبح الصباح واستهل أول أيام العيد نزل السلطان إلى الحوش السلطاني لتأدية صلاة العيد وذلك في موكب من أفخم المواكب السلطانية، وبعد أن يصل السلطان صلاة العيد ويسمع الخطبة يعود إلى الإيوان الكبير بالقلعة، حيث يعد سماطًا حافلاً بلغت تكاليفه في بعض السنوات خمسين ألف درهم، وأخيرًا يخلع السلطان على الأمراء وأرباب الوظائف كما يفرج عن بعض المساجين «بمناسبة العيد المبارك» على حد تعبير أبي المحاسن.

وهكذا اعتاد المسلمون في مصر أن يعتبروا شهر رمضان والأيام الثلاثة الأولى من شوال أعيادًا متصلة يحتفلون بها ويمجدونها ويحرصون على إضفاء هالة خاصة من الفرح والسرور عليها، ونخن إذا حرصنا اليوم على إحياء بعض التقاليد الخاصة بشهر رمضان وتمسكنا أحيانًا بتناول ألوان معينة من الطعام والشراب، فضلاً عن أعمال البر والإحسان والزلفى فإننا في كل لك إنما نحافظ على تراث كبير من العادات والتقاليد والإخلاق ورثناها عن آبائنا وأجدادنا منذ قرون بعيدة.


نُشر في مجلة منبر الإسلام، العدد التاسع، رمضان 1385هـ/24 ديسمبر 1965م.