أكبر من صدفة، أقل من ضرورة: كيف صعدت النازية؟

كثيرًا ما يُعد الصعود النازي للسلطة في ألمانيا ما بين الحربين، وليد الصدفة، أو العكس، وليد الضرورة. حيث يحصره بعض المحللين كنتيجة لمقدمة واحدة هي فشل الديمقراطية الألمانية مُمثلة في جمهورية فايمار، أو العكس، بأن يُعد تعبيرًا مُطلقًا عن المعجزة «الهتلرية»، المتمثلة في عبقرية القائد الذي قُدر له الصعود بصورة حتمية، بحيث استحال وقفه.

لكن الحقيقة التاريخية تفترض مزيجًا بين الصدفة والضرورة، بين فشل (وأحيانًا سذاجة) القوى الديمقراطية في حماية الجمهورية ضد أعدائها، وبين الأزمات المتعاقبة من نتاج الحرب العالمية الأولى، بحيث فرضت ظروفًا أتاحت لجماعة من الساخطين العنصريين، أصحاب الأفكار الضحلة والبراعة السياسية المشهودة والانتهازية الإجرامية العتيدة، الصعود للسلطة.

حرب الشُرفات

في 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1918، خرج فيليب شيديمان، نائب رئيس الحزب الديمقراطي الاشتراكي، إلى شرفة البرلمان الألماني (الرايخستاج) مُعلنًا نهاية القيصرية الألمانية وقيام الجمهورية، مستبقًا بذلك إعلان الزعيم الشيوعي المُنشق عن الحزب كارل ليبخنت للجمهورية الاشتراكية الألمانية من شرفة قصر برلين.

فيليب شيدمان يعلن قيام الجمهورية الألمانية من نافذة البرلمان، 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1918

أخذت المجالس العمالية تنتشر في طول البلاد منذ أكتوبر/تشرين الأول بتحريض من «عصبة سبارتاكوس» الثورية التي قادها ليبخنت والاشتراكية المنشقة أيضًا روزا لوكسمبورغ جنبًا إلى جنب.

انتخبت المجالس العمالية مجلسًا مُوحَدًا «لممثلي الشعب»، طالبته بإقامة مجلس مركزي منتخب لقيادة الجيش، ووضع الأخير تحت الإدارة العليا للمجلس الموحد. بينما تمسكت قيادات الاشتراكيين الديمقراطيين، وفي مقدمتها

فريدريك إيبرت

، أول رئيس للجمهورية، بالوضع القائم للجيش، وبجمهورية برلمانية (برجوازية).

انتهى الصراع بين الجانبين فيما بعد إلى قمع «انتفاضة سبارتاكوس» في يناير/كانون الثاني 1919 واغتيال ليبخنت ولوكسمبورغ، كما قُمعت كافة مظاهر الانتفاضة في سكسونيا وهامبورج والروهر، وصولًا إلى برلين في مارس/آذار من نفس العام، باتفاق عُقد بين الحكومة الجديدة والجيش. كان الأخير قد اكتفى حينها بمنع إقامة جمهورية عمالية، وتجنب انفصال بافاريا الثائرة (حيث قامت جمهورية عمالية لبضعة أيام تم قمعها كذلك)، وتجنب الحرب الأهلية وانقسام الجيش نفسه، مُتحيّنًا الفرصة في المستقبل للانقضاض على جمهورية فايمار برمتها وإعادة الحكم الملكي.

سخط الصليب الحديدي

في تلك الأثناء، كان العريف النمساوي أدولف هتلر عائدًا بعد نهاية الحرب العالمية الأولى إلى ميونيخ، وفوق صدره ميداليتا الصليب الحديدي من الدرجتين الأولى والثانية، حصدهما جراء مشاركته كجندي مراسلة متطوع على الجبهة الغربية. كان هتلر أحد كبار الساخطين على

معاهدة

الاستسلام التي فرضها الحلفاء على ألمانيا في فرساي عقب إعلان الجمهورية، بعد إصرار من القيادة العسكرية الألمانية العليا في نوفمبر/تشرين الثاني 1918 على استحالة تحقيق أي نصر، وإقناعها للرئيس إيبرت بقبول شروط الهدنة.

فرضت فرساي قيودًا على الجيش الألماني كانت تعني إلغاءه تقريبًا، كما أعادت دولة بولندا إلى الوجود (بعد أن كانت مقسمة بين ألمانيا وروسيا والنمسا) على حساب جزء من الأراضي الألمانية أهمها مقاطعة سيليزيا التي غطت الجزء الأكبر من إنتاج ألمانيا للفولاذ والفحم؛ الأمر الذي أغضب الألمان الذين يحملون مشاعر سلبية مسبقة تجاه بولندا، بمختلف توجهاتهم.

يذكر الصحفي والمؤرخ الألماني

وليام شيرر

في كتابه «

صعود وسقوط الرايخ الثالث

»، كيف تحملت الجمهورية الوليدة عبثًا مسئولية «عار فرساي»، حيث اهتمت الدعاية اليمينية بتحميل الاشتراكيين الديمقراطيين مسئولية المعاهدة، مع إهمال حقيقة استنفاد حكومتهم لآمالها تجاه الجيش بإمكانية تحقيق نصر، وبالتالي تحقيق شروط أفضل للسلام. لكن اليمين القومي الذي ضم هتلر بين صفوفه استمر في دعايته ضد الاشتراكيين الديمقراطيين واصفًا إياهم بـ«مجرمي نوفمبر».

انضم هتلر إلى «حزب العمال الألماني البافاري» المناهض للسامية والرأسمالية والماركسية. حيث سيقابل ديتريخ إيكهارت، الشاعر والكاتب الذي استلهم هتلر كثيرًا من أفكاره إلى الحد الذي سيوصف معه إيكهارت فيما بعد بالأب الروحي للنازية.

السوبرمان الألماني

أثناء إقامته في فيينا، كان هتلر قد تأثر بالتيارات المعادية للسامية وبـ«الحركة القومية الألمانية» التي دعت لتوحيد الشعوب الناطقة بالألمانية. وفي ميونيخ، بدأ هوس هتلر بكونه السياسي الداهية والمفكر، خليفة

فريدريك العظيم



و

بسمارك

، مؤسس الرايخ الثاني الذي بنى ألمانيا «بالحديد والدم»، والمشير هندبنرغ الذي حقق انتصارات كبيرة للجيش الألماني في الحرب الأولى. وقد سيطرت على هتلر فكرة الدورة التاريخية لدى

شبنجلر

، حيث سيقدم لها تفسيرًا هو أن إمبراطورية ألمانية جديدة (رايخ) تولد كل ألف عام.

سرد هتلر تلك الأفكار في كتاب «كفاحي»، حيث اتسمت بقدر كبير من التفكك وانعدام التنظيم. جمعت أفكار هتلر بين الداروينية الاجتماعية لعُنصريّي القرن التاسع عشر

كالرومانسيين الألمان

الذين رأوا في الشعب الألماني «مجتمعًا أخلاقيًا وأبويًا وعرقيًا ولغويًا ومتحدًا اجتماعيًا»،

والفرنسي موريس باريه

الذي هاجم مفاهيم الحداثة والعقلانية باسم تمجيد الأجداد والتراب الوطني والأفكار الشمولية المتعلقة بالدولة التي

تصبح أمامها

«رغبات الأفراد وأنانيتهم تفاهات لا قيمة لها».

قد تكون تلك الأفكار إساءة فهم للفيلسوف الألماني الكبير هيجل، الذي أُعجب بنابليون تمامًا كما أعجب به هتلر، لكن لم يحظ هيجل باعتبار يذكر لدى هتلر ومنظري النازية من بعده مقارنة مع فيلسوف ألماني آخر هو نيتشه الذي أُعجب هتلر به باعتباره عدوًا للديمقراطية والبرلمانات، ومتنبئًا عظيمًا بظهور الرجل الأسمى (السوبرمان) الذي فسّره هتلر تلقائيًا بأنه الرجل الألماني الآري،

لكن تأثر هتلر بنيتشه

عُدّ سطحيًا بدرجة كبيرة، حيث ثارت شكوك عديدة حول صحة اطلاع هتلر على كتابات نيتشه، وأيضًا فيما يتعلق بصحة تفسيرات هتلر لنيتشه في حال أنه قد قرأه.

يرتبط التأثير القوي والمباشر على هتلر، خاصة فيما يتعلق بأفكاره حول العنصر بمفكريْن عنصرييْن غير ألمانيين، هما الفرنسي

جوزيف أرثردي جوبينو

والإنجليزي

هوستن ستيوارت تشامبرلين

. كتب الأول دراسة بعنوان «

رسالة في التفاوت بين الأجناس البشرية

» اعتبر فيها «العنصر» مفتاحًا للتاريخ والحضارة، مُقسمًا البشر إلى 3 عناصر «الأبيض، والأسود، والأصفر»، واضعًا العنصر الأبيض فوق قمة الهرم الإنساني، وفي قمة الهرم الأبيض ذاته يقف الرجل الآري الألماني، واصفًا دوره في التاريخ بالدور الأكثر سموًا وأهمية، حتى وصل به الأمر إلى وصف سقوط الامبراطورية الرومانية على أيدي القبائل البربرية الجرمانية بمثابة خدمة قدمها الألمان للإنسانية بتخليص الامبراطورية الرومانية من هجين الدماء غير النقية الذي لوّثها.

انتشرت جمعيات حملت اسم جوبينو داخل ألمانيا، كان من بين أعضائها الأديب الإنجليزي هوستن ستيوارت تشامبرلين الذي تزوّج ابنة الموسيقار الألماني الكبير ريتشارد فاجنر. تمتعت موسيقى الأخير بمكانة مركزية للغاية لدى هتلر. كان فاجنر معاديًا صلبًا للسامية، وعبّرت موسيقاه عن روح البطولة والوثنية المستلهمة من الأساطير الجرمانية القديمة. وقد أُعحب هتلر بها ورأها تعبيرًا عن قوة وسمو الرجل الألماني المقدام والصلب في مقابل خور وانهزامية المسيحية (نقطة أخرى قد يتفق فيها مع نيتشه، وقد أعجب نيتشه لفترة بالفعل بموسيقى فاجنر).

وقد عزّزت قرابة تشامبرلين لفاجنر من استقبال هتلر (وهو لم يزل بفيينا) لأفكار الأديب الإنجليزي التي نشرها في كتاب بعنوان «

أسس القرن التاسع عشر

» الذي اتفق فيه مع جوبينو على أن العنصر هو مفتاح التاريخ والحضارة، ملخصًا التراث الإنساني في 3 جواهر أساسية ورثها الرجل الآري الذي رآه تشامبرلين أكثر العناصر عبقرية وموهبة، وهي: الفلسفة الإغريقية، والقانون الروماني، وشخصية المسيح.

وبرغم افتراضه الأوّلي بأن العنصر اليهودي مكافئ للآري، فإنه قد مال جذريًا نحو معاداة السامية، محاولًا التأكيد على أن المسيح لم يكن يهوديًا، ذلك لكون أخلاقه متنافية تمامًا مع المادية والشكلانية المطلقة في اليهودية التي أدت بحسب تشامبرلين إلى تحول اليهودي لعنصر غير نقي وسلبي. امتدح تشامبرلين هتلر منذ بروزه على الساحة السياسية واصفًا إياه بـ«رسول للشعب الألماني»، وفي المقابل اعتبره هتلر، بعد أن استقى معظم أفكاره حول معاداة السامية، نبيًا ومستشارًا له.

أبناء الصليب المعقوف

سرّعت قدرات هتلر الخطابية من تدرجه في سلم الحزب النازي، وذلك حتى ترأسه في صيف العام 1921، وتمكنه من تغيير اسم الحزب إلى «حزب العمال الاشتراكي الوطني الألماني» المعروف اختصارًا بـ«النازي»، وتبني «الصليب المعقوف» كشعار للحزب.

رمزت كلمة «الاشتراكي» إلى برنامج الحزب الأول الذي أكد أهمية اجتذاب الطبقات الوسطى الدنيا والفلاحين، واستمالة الطبقة العاملة بعيدًا عن الاشتراكيين والشيوعيين. ضم الحزب بالفعل مجموعة غير قليلة من مناهضي الرأسمالية، والساخطين على تدمير الثقافة الديمقراطية البرجوازية لـ«روح الرجل الألماني» وسيادته، ومن المؤمنين بسياسات تهدف إلى تأميم كبرى الصناعات والإقطاعيات كانوا في معظمهم مناهضين للرأسمالية بطريق «التجربة»، أي نتيجة معاناة واقعية ملموسة، وفي ذات الوقت متعصبين قوميين وعنصريين. ومن أبرز هؤلاء كان وزير الدعاية المستقبلي للرايخ الثالث جوزيف جوبلز.

بينما كانت مجموعة المحاربين القدامي الساخطة من الجنود العاطلين عن العمل في صف الحزب بشكل مبدأي، إلى جانب شريحة عريضة من الطبقات الوسطى الدنيا، والبرجوازية الصغيرة الخائفة من السقوط لمصاف الطبقات الدنيا، إلى جانب الإقطاعيين ورجال الصناعة من أصحاب الاحتكارات الكبرى الذين ابتعدوا تدريجيًا عن اليمين التقليدي المحافظ، ورأوا في استغلال الحزب النازي فرصة جيدة لصالح عودة الملكية، وقمع تحركات نقابات العمال المنظمة نهائيًا.

لكن قبل ذلك، كانت البلاد في خضم

أزمة اقتصادية

خلقتها أثقال التعويضات المالية الضخمة للحلفاء، حيث هبطت العملة من 75 ماركًا مقابل الدولار في 1921 ،إلى 7000 مارك مقابل الدولار الواحد بحلول عام 1923، ولم ترفع الحكومة الضرائب على كبار الصناعة للمساهمة في دفع التعويضات، وأبقت عليها كما هي

.

استغل هتلر انهيار المارك، واحتلال الفرنسيين والبلجكيين في نفس العام حوض الروهر الصناعي ردًا على تأخر ألمانيا في تسليم شحنات الخشب المفروضة عليها، لينظم اتحادًا من العصابات اليمينية المتطرفة دعاه «اتحاد العصابات المناضلة عن الوطن»، حيث أراد توحيد كافة القوى المناوئة للجمهورية في بافاريا، والزحف على برلين مستلهمًا ذلك من نجاح زحف موسوليني الفاشي على روما قبل عام واحد.

استغل هتلر تمردًا أعلنه حاكم بافاريا على الحكومة في برلين، ليعلن في مساء 8 نوفمبر/تشرين الثاني 1923 قيام حكومة جديدة، والزحف على برلين لتخليصها من «مجرمي نوفمبر»، وذلك أثناء إلقاء الحاكم خطابًا في حانة «بورغربروكلار»، مستعينًا بالميليشيا التي أسسها تحت اسم «قوات العاصفة» بمساعدة من صديقه والضابط السابق بالجيش الإمبراطوري إرنست روم، وكان هدفها الأول إثارة الذعر في صفوف الخصوم السياسيين، وإفساد التجمعات الجماهيرية لمنافسي الحزب النازي الذي لم يسمع به حتى تلك اللحظة أحد خارج بافاريا، لتفشل محاولة الانقلاب خلال ساعات.

حُوكم هتلر، واستغل بذكاء المحاكمة لإلقاء خطابات طويلة حقّقت له الشهرة خارج بافاريا حتى وصلت إلى برلين. وقد صدر بحقه حكم بالسجن 5 سنوات، وأفرج عنه بعد 9 أشهر قضاها في تدوين أيديولوجيته وخطته المستقبلية للسيطرة على أوروبا في كتاب «كفاحي». بينما أفرج عن روم بعد المحاكمة فورًا بالرغم من إدانته بحكم مخفف لمدة عام.

مُعرّض للفناء

منذ ولادتها وحتى فنائها، فشلت جمهورية فايمار، أو يصح أن يُقال

أهملت، تطهير النظام القضائي

من هرم موظفي العهد الإمبراطوري. كانت الأحكام المخففة بحق هتلر وأعوانه دليلًا واضحًا على أن تهديد النظام القديم ما زال قائمًا. كما فشلت الجمهورية الوليدة بذات الطريقة في عملية إخضاع الجيش للإدارة الديمقراطية البرلمانية، مع إبقاء قادة الجيش على ولائهم الحقيقي لصالح الإمبراطورية.

عقب خروجه من السجن، استنتج هتلر شيئين مهمين هما: أولًا، أن عليه الوصول للحكم بالطرق الدستورية حتى وإن اعتزم إلغاءها فيما بعد. ثانيًا، أن عليه ضمان تأييد الجيش وقوى الأمن للفوز بالسلطة، وذلك بنشر الدعاية النازية بين الضباط. لذا فقد بدأ بناء الحزب من جديد، واضعًا نصب عينيه تأمين هيكل حزبي يكون بمثابة دولة داخل الدولة، أو دولة جاهزة لتسلم السلطة في أي لحظة.

لكن تلك اللحظة كانت تتباعد للغاية معرضة الحزب للفناء مع تحسن الأوضاع الاقتصادية تدريجيًا خلال عام 1924 بعد انضمام ألمانيا لعصبة الأمم، وإقرار الحكومة «

خطة داوس

» بمساهمة وزير الخارجية الألماني الليبرالي جوستاف ستريسمان، وبرعاية أمريكية. انسحبت فرنسا وبلجيكا من الروهر. تضمنت الخطة تخفيضًا لأعباء الديون، واستثمارات أمريكية كبيرة في الصناعة الألمانية، وتخفيضًا في حصة الفحم الألماني المُصدّر إلى فرنسا، وتمكنت صناعة الفولاذ الألمانية من النهوض بقوة. تحسن الوضع الاقتصادي بشكل عام.

في انتخابات نفس العام، ربح الاشتراكيون الديمقراطيون مرتين، في مايو/آيار وديسمبر/كانون الأول، بينما هبط تحالف اليمين المتطرف (الحركة الاشتراكية الوطنية لحرية ألمانيا) الذي ضم الحزب النازي من مليوني صوت في الأولى إلى مليون فقط في الثانية، وأحس هتلر بالخطر وبأنه بحاجة إلى أزمة جديدة تضع الخائفين في صفه.

السعار واليأس

يتحدث ليون تروتسكي عن الخوف واصفًا الحالة التي نضجت في ظلها الأنظمة الفاشية في أوروبا ما بين الحربين بحالة «اليأس والسعار».

كانت النازية في نظر تروتسكي

نتاج «عجز الوسائل التقليدية البوليسية والعسكرية للديكتاتورية البرجوازية، وواجهاتها البرلمانية، عن إبقاء المجتمع في حالة توازن»؛ ذلك التوازن الذي يضمن العقد الاجتماعي للديمقراطية الليبرالية، قائمًا على حفظ قوانين الإنتاج الرأسمالية.

في رأي تروتسكي، كان الصعود الفاشي/النازي يعني

نهاية «أنصاف الحلول» البرجوازية

للأزمات الاقتصادية المتعاقبة لما بعد الحرب. في تلك الحالة، ستتخلى البرجوازية عن سلطتها السياسية لصالح شكل أكثر صرامة ودموية من السلطة التنفيذية (الفاشية)، بغرض القضاء على خطر الثورة نهائيًّا، وإعادة تربية الشعب بغرض أساسي هو تقويض الصراع الطبقي للأبد؛ الدور الذي تؤديه النزعة القومية/العنصرية للفاشية بتوحيدها لعموم الطبقات تحت راية واحدة هي «الأمة» أو «العرق»، بينما تصعد على كتف «البرجوازية الصغيرة المهتاجة» إلى جانب الفئات الاجتماعية الوسطى المُهدَدة (التي استغل هتلر خوفها إلى أقصى حد)

والبروليتاريا الرثة

(الطبقة الواقعة أسفل الطبقة العاملة، لا تتمتع بوعي كاف، وغير مفيدة في العملية الإنتاجية او اجتماعيًا) التي يثيرها استمرار الأزمة الاقتصادية.

تتكون البرجوازية الصغيرة من رجال أعمال متوسطين وصغار وموظفين حكوميين وحرفيين أصحاب ورش وأصحاب محال وتجار صغار ، كما تضم داخل المصانع التقنيين والمدراء الصغار والمتوسطين. وقد خاف هؤلاء من هبوطهم جراء الأزمة الاقتصادية إلى مستوى الطبقات الدنيا، وسط «

الشكاوى الحادة للملاك الصغار

غير البعيدين إطلاقًا عن الإفلاس، ولأولادهم الجامعيين دون وظائف، وبناتهم دون مهر، ودون من يطلبهن للزواج».

تلاعب هتلر بتلك المخاوف، وعززها في خطاباته الصارخة، إلى حد أن أحد أهم وعوده الانتخابية كانت حصول الفتيات على أزواج لهن.

لم يهتم هتلر بالطبيعة الاقتصادية للدولة الحديثة بقدر ما أكد كون الدولة «تنظيمًا عنصريًا»، حيث لا تزدهر الوسائل الاقتصادية دون ازدهار الفضائل المثالية لهذا التنظيم المعتمد على ازدهار العنصر، الألماني بالطبع. عدّ تروتسكي ذلك «تصفية للمنطق العقلي»، وفكرة مثالية خرافية في ذهن البرجوازي الصغير الفاشي/النازي الذي قدّم له تطور النظام الاقتصادي، ومعه تطور التنظير الاقتصادي، «ديونًا لا تنتهي» وطموحات للترقي الطبقي تُنازعها مخاوف الهبوط، وحيث «

انتصار التكنولوجيا على الطبيعة،

تعني انتصار الرأسمال الكبير على الرأسمال الصغير» الذي يمثله البرجوازي الصغير نفسه.

في تحليل تروتسكي، تقف «المثالية الوطنية» و«المثالية العنصرية»، بعيدًا عن المنافسة والتضخم والأزمة ومنصة المزاد العلني، تُنازع «عقلانية الفكر الاقتصادي» للقرون من الثامن عشر حتى العشرين.

بالفعل، كانت أعقد الأفكار الاقتصادية التي تفتق عنها ذهن هتلر في شبابه مستوحاة من زملائه في الحزب الذين تحدثوا عن «إلغاء الفائدة» التي كثيرًا ما تطابقت مع عدائهم للسامية وصورة «اليهودي» الجشع لديهم، بينما مثلت سياساته بعد الوصول للحكم خليطًا مركبًا من عمليات احتكارية للصناعات الكبيرة (خاصة صناعة التسلح)، مع إقطاعيات واسعة؛ إلى جانب بعض التشريعات «الشعبوية»، مثل إحياء «تشريع بسمارك الاشتراكي» الذي تضمّن تأمينًا إلزاميًا للعمال، تنظمه الدولة ويؤمّنه أصحاب العمل والعمال معًا، لكنه ظل متمسكًا خلال اجتماعاته برجال الصناعة والمال لطلب دعم الحزب بأن «السيد الحقيقي للعمل، هو صاحب العمل».

النازية: حداثية أم رجعية؟

تقف فرضية أخرى عن النازية في مقابل الفرضية التي تنظر إليها بوصفها تعبيرًا عن «البرجوازية الصغيرة المهتاجة» أو «الطبقات الوسطى المذعورة» كما اعتبرها تروتسكي وغالبية المحللين الماركسيين للفاشية/النازية؛ حيث يرى فيهما كل من

يعقوب تالمون

و

رينسو دي فليتشي

جذورًا «تنويرية».

إذا كانت النازية في نظر بعض المحللين تعبيرًا عن سلوك «ما بعد حداثي» نيتشوي، فإن تالمون يرى أنها امتداد لـ«

مسيانية

سياسية» حداثية مستمرة منذ عهد الثورة الفرنسية؛ مسيانية مرتبطة بالمفهوم المثير للجدل لدى جان جاك روسو، أي «الإرادة العامة». في نظر تالمون، كانت «الاستفتائية»، أو كما يسميها: «

الديمقراطية الشمولية

»، التي عنت الاستناد للرأي العام، تعني تحفيز الرأي العام أولًا ثم استغلاله أخيرًا. لقد وصل هتلر بالطرق الدستورية، وبالضغط على مسألة «الصالح العام»؛ وهنا لا يفرق تالمون بين مسيانية اليعاقبة، ومسيانية هتلر، لأنهما في رأيه يتفقان على تبرير العنف بحجة «بناء نظام جديد واجتثاث من يعارضون الإرادة العامة».

أما دي فليتشي (الذي تركز اهتمامه بالنازية فقط عند مقارنتها بالفاشية الإيطالية) فقد عارض وجهة النظر الماركسية، مفترضًا كون الظاهرتان تعبيرًا عن طموحات «فئات اجتماعية وسطى طارئة» مُحاصَرة بين البرجوازية الكبرى المهجوسة بشبح الثورة، والبروليتاريا المنظمة تنظيمًا جيدًا التي هددت النظام القائم في كل لحظة. لذا، فقد

حاولت تلك الفئات الوسطى

«تقديم نفسها كطبقة اجتماعية دون تنكر أو قناع يخفي مطالبها ورغباتها»، مع محاولة «تأكيد هويتها وإثبات وظيفتها وثقافتها التي هي بالضبط سلطتها السياسية ضد البرجوازية والبروليتاريا»، بحيث أعلنت ثورة. وقد استهدفت الفاشية/النازية تلك الفئات باعتبارها برجوازية صغيرة مستقبلية، ومُستقلة، وصاعدة كي تصبح طبقة اجتماعية يمكن الاستناد إليها.

تعكس افتراضات تالمون الجدل المثار حول«حداثية» النازية من عدمها. يرى المؤرخ

جورج موس

أن النازية عكست مُناهضًة للحداثة، حيث رأت أن الإنسان الألماني قد اختنق بقيم الحداثة الديمقراطية والمدنية التي فككت رابطة «الدم والأرض» لصالح مفاهيم أكثر عالمية عن الحرية والمساواة، في حين رأت ضرورة بعث قيم أكثر رومانسية عن الإنسان الآري؛ قيم تمثلت في

وصف هتلر لـ«الدولة الشعبية»

التي عنت لديه «المجتمع القبلي القائم على التربة والدم».

كانت آراء تشامبرلين وجوبينو وغيرهما من المنظرين العنصريين الملهمين لهتلر، تأخذ هذا المنحى. أكد موس أن النازية لم تحاول خلق إنسان جديد بالطريقة التربوية المستوحاة من روسو، بقدر ما كانت استدعاءً لإنسان موجود بالفعل منذ عهد بسمارك وغليوم الثاني، وحتى منذ عهد الامبراطورية الرومانية المقدسة في العصور الوسطى.

على النقيض من ذلك، يرى عالم الاجتماع زيجمونت باومان أن النازية هي

نتاج المجتمع الغربي الحداثي العقلاني

. عارض باومان النظر للجرائم النازية باعتبارها نزوة لديكتاتور مريض قاسٍ. كانت الجرائم سلسلة من الإجراءات العقلانية للغاية، مثّل التنظيم البيروقراطي النازي للدولة والحزب مثالًا على ذروة التفكير العقلاني للقرن الثامن عشر. كانت المحرقة اليهودية نتيجة للجهد العقلاني لتنظيم وميكنة كل شيء.

احتلال السلطة

كان لهتلر ما أراده مع انهيار بورصة نيويورك في 1929 وبداية «الكساد الكبير». انهارت الاستثمارات الأمريكية في ألمانيا، وهبط الإنتاج إلى النصف بين عامي 1929 و1932، وأجبرت الحكومة على الإغلاق المؤقت لكافة المصارف، مع وجود ما يقرب من 6 ملايين عاطل عن العمل. استقال هيرمان مولر، آخر مستشار اشتراكي ديمقراطي لجمهورية فايمار، بعد خلاف مع البرلمان حول صندوق تأمين البطالة، وحل محله هنريخ برونينغ زعيم «حزب الوسط الكاثوليكي».

في رأي وليام شيرر، ارتكب بروننيغ أكثر أخطاء جمهورية فايمار كارثية وسذاجة حين طلب من الرئيس هندنبرغ منحه استعمال صلاحيات الطوارئ في الدستور لتمرير برنامجه المالي بمرسوم رئاسي بعد فشله في إقناع أغلبية البرلمان بتبنيه. في النهاية، ستمثل حالة الطوارئ تلك عامل حسم في طريق هتلر للسلطة الذي تمّ بمرسوم رئاسي كذلك.

قبل ذلك، كان عدد القوات النازية قد وصل لمائة ألف رجل في 1930، وتمثلت خطة الحزب في نقطتين: الأولى، ترويج الشعارات الاشتراكية الدعائية للجماهير عبر جوبلز وشتراسر (الرجل الثاني بعد هتلر في الحزب)، والثانية، استمالة هتلر لأصحاب الصناعات الكبرى وتطمينهم بأنه يسعى لتخليص ألمانيا وجيشها من قبضة الشيوعيين، وبأنه ضد الاقتصاد الموجه، بل يقف إلى جانب المشاريع الحرة والتنافس لتحقيق أكبر إنتاج ممكن. كانت خطة الحزب النازي جذابة للجيش إذ قدمت له وعودًا بإعادة البناء وإنشاء أسطول جديد، وللصناعيين إذ قدمت لهم وعود القضاء على النقابات خلاصًا من خطرها ومن احتمالات الثورة، كما قدمت وعود بناء الجيش مستقبلًا مزدهرًا لصناعة التسلح.

لم يتمكن الحزب النازي من الحصول على الأغلبية المطلقة مطلقًا في أي انتخابات حتى تلك التي ربحها بأغلبية محدودة تحت إرهاب عصاباته للمنافسين في الشوارع.

في 1932، اعتقد كبار مسئولي الحزب النازي كجوبلز أن الحزب قد انتهى مع شح التمويل، وعدم حيازته الأغلبية المطلقة اللازمة لتعديل الدستور (الانقلاب عليه). جاء فزع رجال الصناعة من تودد المستشار فون شلايخر المفاجئ تجاه النقابات، وقراره بتوزيع 800 ألف فدان من أراضي الإقطاعيين المفلسين على الفلاحين، ليسارعوا بعدها إلى تقديم الدعم المالي لهتلر.

أقنع هتلر بدوره أوسكار وماينزنر، نجلي الرئيس هندنبرغ، بالضغط على والديهما لتعيينه مستشارًا، وقام هندنبرغ تحت تهديد إشاعات نازية حول تخطيط المستشار شلايخر وقائد الجيش فون هامر شتاين، للانقلاب عليه، بتعيين الفريق ويرنر بلومبرغ المقرّب للنازيين وزيرًا للدفاع. كما رأى هندبنرغ في تعيين هتلر مستشارًا سبيلًا لتحجيمه، حيث تلقّى بالمقابل وعدًا بحل «جيش العاصفة» الذي أزعج وجوده قادة الجيش النظامي، وقد نفّذ هتلر وعده بالفعل معتمدًا على وجود عصابات أخرى تمثلت في «الحرس النازي». وكان الرئيس العجوز يظن أنه في يوم 30 يناير/كانون الأول 1933 قد عالج السعار النازي إلى الأبد.

ضمّت أول حكومة لهتلر غالبية من أعضاء «الحزب الوطني» اليميني المحافظ الذي تحالف معه في البرلمان للحصول على أغلبية مطلقة مكّنته من تعيين هيرمان جورنج رئيسًا للمجلس. كان الوطنيون حتى تلك اللحظة يظنون أن أغلبية وزرائهم سوف تمكنهم من السيطرة على هتلر حتى يحقق أهدافهم المتمثلة في إخضاع الاشتراكيين والشيوعيين، وتقويض الجمهورية لصالح عودة النظام الملكي. كانت العصابات النازية بالفعل تجوب الشوارع لقمع أدنى مظاهر المعارضة. أغلق النازيون صحف الاشتراكيين والشيوعيين، وحتى «حزب الوسط الكاثوليكي»، وتمت مهاجمة اجتماعاتهم بوحشية. شكّل جورنج، وزير داخلية بروسيا إلى جانب كونه رئيسًا للبرلمان، قوة شرطة احتياطية من خمسين ألفًا، ضمت جنودًا سابقين من «العاصفة» و«الحرس النازي» ومتطوعي اليمين المتطرف.

كانت الخطوة الأولى لهتلر للاستئثار بالسلطة هي حمل الرئيس هندنبرغ على توقيع مرسوم «حماية الشعب والدولة» الذي ألغى بموجبه مواد الدستور التي تضمن الحريات الفردية والعامة. في 27 فبراير/شباط 1933، نجحت مؤامرة نازية لإحراق الرايختساج (البرلمان الألماني) وتلفيق التهمة لقادة شيوعيين.

قبل انتخابات مايو/آيار من نفس العام، حذرت الدعاية النازية من أن عدم التصويت للنازيين سيعزز فرص «ثورة بلشفية»، واعتقل ما يقرب من 4000 شخص قبل الانتخابات، ما بين اشتراكيين وشيوعيين وليبراليين، كما فُضت الاجتماعات الجماهيرية للمنافسين بوحشية. رغم ذلك، لم يحصد النازيون سوى 44% من الأصوات.

لما لم ينجح هتلر في إقرار قوانينه الشمولية بطريقة دستورية، فقد لجأ إلى اعتقال عدد من النواب المعارضين حتى لا يتمكنوا من التصويت داخل المجلس، وبذلك نجح في إقرار «قانون الصلاحيات» الذي عرف أيضًا بقانون «إزالة شقاء الشعب والرايخ»، وقد نص على صلاحية المستشار في إصدار القوانين باسم الحكومة، بحيث يحق له «الانحراف عن الدستور». وقد استعمله هتلر في حل جميع مجالس الولايات، ووضع حكوماتها تحت سلطة حكومة الرايخ المباشرة.

بعد احتفالات نازية بعيد العمال في 1 مايو/آيار، ودعاية «اشتراكية» صاخبة قادها جوبلز لتطمين الطبقة العاملة، قامت القوات النازية في اليوم التالي باحتلال مباني النقابات ومصادرة أموالها واعتقال زعمائها، ثم صدر قانون «الوكالات العمالية» الذي قضى بتعيين أعضاء وقادة النقابات بواسطة هتلر نفسه، وقضى كذلك بتجريم الإضراب. ثم أُقر قانون «الحزب الواحد» في يوليو/تموز، ليجرّم إنشاء أو عضوية أي حزب سياسي غير الحزب النازي.

جاء الدور على اليهود بحرمانهم من الخدمة العامة والعمل في الجامعات والدعوة إلى مقاطعة المتاجر اليهودية، كي يتفرغ هتلر عقب سيطرته المطلقة على الدولة للتحضير لحربه التوسعية للسيطرة على أوروبا، بنوايا تطورت فيما بعد إلى أكبر مخطط إبادة في التاريخ البشري.