لعبت بعوضة الملاريا دورًا حاسمًا في تغيير دفة العالم الذي نعيشه اليوم؛

نصرت الأمريكيون

على البريطانيين خلال حروب الاستقلال الأمريكية التي أنتجت دولة الولايات المتحدة كما نعرفها اليوم،

أوقفت طموحات الإسكندر الأكبر

الذي عجزت كافة جيوش الأرض عن مواجهته وقتلته في عِز مجده، وساهم بشكلٍ غير مباشر في نشر المسيحية بعدما اجتهد كهنتها في تقريب الناس إلى دينهم عبر رعاية مرضاهم المصابين بالملاريا.

ولكن ماذا عن التاريخ الإسلامي، هل أثَّر بعوض الملاريا في أحداثه أيضًا وتسبَّب في وقائع كبرى؟

الإجابة: نعم، بكل تأكيد.

وفاة النبي محمد ﷺ

عرَّفت كتب التاريخ الإسلامي أعراض الملاريا دون أن تسميها وبدلاً من ذلك منحتها اسم «حمى يثرب» أو «حمى المدينة».

وبشكل عام فإن الأجواء الصحية بجوار المدينة أو مكة لم تكن في أفضل أحوالها، وبخاصة في مواسم الأمطار الغزيرة، التي كانت تُخلِّف مستنقعات تنشر العدوى الفيروسية في الأجواء.

وفي عام هجرة النبي محمد ﷺ إلى المدينة عام 622م ضربها الوباء بكل قوة، يقول ابن هشام في سيرته: «

لما قدم المدينة

هو وأصحابه أصابتهم حمى المدينة حتى جهدوا مرضًا». وفي البخاري، عن عائشة أنها قالت: «

قدمنا المدينة

وهي أوبأ أرض الله».

وفي حديثها أشارت السيدة عائشة إلى مسابح المياه الراكدة التي تُحيط بأرض
المدينة، وهي تُعدُّ بيئة مثالية لتكاثر بعوض الملاريا.

وبحسب ت

قرير لمنظمة الصحة العالمية

، فإن موسم الحج عام 632م شهد تفشيًا عاليًا للملاريا بين الحجاج، وهذا العام يُصادف حجة الوداع التي قام بها الرسول قبل وفاته بشهرين.

ونلمح في صحيح مسلم إشارات لهذا القول بما نقله عن ابن عباس بأنه «قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة، وقد وهنتهم حمى يثرب»، ثم يضيف ابن عباس بأن النبي أمر أصحابه بأن يتحدَّوا المرض ويظهروا قوتهم أثناء الطواف حتى لا يعتقد المشركون أن المرض استنزفهم.

بعد شهرين فقط من عودته من الحج عانَى النبي من مرضٍ استمرَّ 11 يومًا
تقريبًا حتى أودى بحياته.

وباستقراء المرويات الدينية فإن الأعراض التي عانَى من الرسول تتمثَّل في:

– ارتفاع درجة الحرارة.

– التعرق الشديد.

– فقدان الوعي المتقطِّع.

– الضعف الشديدة وعدم القدرة على المشي.

هذه الأعراض دفعت منظمة الصحة العالمية لترجيح أن الملاريا هي المرض الذي
أودى بحياة النبي.

حمت الكعبة من
أبرهة

بعض الفقهاء -مثل محمد عبده ورشيد رضا- خلال تفسيرهم لسورة الفيل قالوا بأن «الطير الأبابيل» التي حمت الكعبة من بطش جيش أبرهة إنما كان البعوض الذي خرج من المستنقعات ولدغ الجنود الإثيوبيين فأصابهم بأمراض الملاريا والجدري وماتوا بسببه.

هذا الرأي دعَّمته

منظمة الصحة العالمية

بمقالٍ نشرته في المجلة التابعة لها، صدرت عام 1996م بعنوان «توضيح حالة الملاريا في شبه الجزيرة العربية في زمن النبي محمد». أكد المقال أن فرضية أن يكون الطير القاتل هو بعوض ليست مستبعدة.

فعقب انهيار سد مأرب تأثرت المنطقة بأسرها وامتلأت فيها المستنقعات، منها وادي المغمس القريب من مكة، والذي عسكر فيه أبرهة بجنوده، ومن المرجَّح أن يكونوا قد تعرَّضوا للدغات بعوض خرج من مستنقعات الوادي وأودى بحياتهم.

أنقذت القدس من
الصليبيين

حينما قاد كونراد الثالث ملك ألمانيا الحملة الصليبية الثانية على بلاد المسلمين عام 1147م منَّى فيهم الأوروبيين بنصرٍ ساحق يفرض سيطرتهم على الشام.

على العكس تمامًا، فشلت الحملة في تحقيق أي من أهدافها برغم الجيوش الضخمة التي تجمَّعت تحت رايات ملوكها، والتخطيط المُسبق لكل تفاصيل الحملة قبل اندلاعها، والفضل في ذلك يرجع للملاريا!

فبحسب كتاب «

البعوض: تاريخ بشري لأخطر مفترس لدينا

» لتيموثي سي وينجارد (Timothy C. Winegard)، المتخصص في التاريخ الحربي، لعبت الملاريا دورًا كبيرًا في إفشال تلك الحملة، فلقد كانت متوطنة في المناطق الساحلية الرطبة المنخفضة عن سطح البحر من بلاد الشام، وبطبيعة الحال فإن سكان تلك المناطق اعتادوا على الإصابة بتلك الأمراض فكانت أعراضه عليهم هينة نسبيًّا واقتصرت على بعض النوبات الخفيفة، أما بالنسبة للجنود الأوروبيين الذين لم يسبق لهم الإصابة به فكان تأثيره قاتلًا.

طمع كونراد الثالث في الاستيلاء على دمشق، وبرغم تفوقه على المسلمين من حيث العدة والعتاد فإنهم ضربوه في مقتل بسلاح بيولوجي لم يتوقعه، بعدما لوثوا جميع مصادر المياه العذبة حول المدينة وحولوها لمياه راكدة، وهو ما خلق بيئة مناسبة لنمو البعوض، الذي لم يرحم بلدغاته الجنود الأوروبيين.

لذا مثَّل حصار دمشق الذي جرى في يوليو 1148م كارثة على الجيش الصليبي، الذي عانَى جنوده من الأمرين بسبب نقص المياه وتفشِّي مرض الملاريا بينهم، وهو ما أجبر كونراد على فضِّ الحصار في النهاية والعودة إلى بلاده يجرُّ أذيال الخيبة.

ووفقًا للكتاب، فإن الملاريا دافعت عن المسلمين من خطر صليبي آخر، حينما
حاصر الصليبيون مدينة عكا الساحلية طيلة عامين كاملين من 1189م حتى 1191م، خلال
تلك المدة مات قرابة 35% من الجنود المسيحيين متأثرين بإصابتهم من الملاريا.

هذه الخسارة الفادحة في الجنود مثَّلت ضربة قاصمة لأطماع الصليبيين في الاستيلاء على القدس، التي تخلَّوا عنها بموجب اتفاقية «الرملة» التي عقدوها مع صلاح الدين الأيوبي، لتعيش بلاد الشام مستقلَّة عن السيطرة الأوروبية حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى.

رسَّخ اليهود أقدامهم في فلسطين

في كتاب «

علاج الأرض والأمة

» (Healing the Land and the Nation) المنشور عام 2007م، تستعرض ساندرا صوفيان (Sandra M. Sufian)، أستاذة العلوم الإنسانية في جامعة إلينوي بشيكاجو، حكايات معقَّدة مزجت فيها تأثير الملاريا على ترسيخ الأيديولوجية الصهيونية في فلسطين.

وفي أواخر العهد العثماني وخلال سيطرة الإنجليز على فلسطين توطن مرض الملاريا في فلسطين، وهو ما شكَّل خطورة على جميع المقيمين في الأرض سواءً أكانوا فلسطينيين أو يهودًا. هذا الخطر شكَّل هاجسًا في عقلية مؤسسي الدولة العبرية بسبب مخاوفهم من اهتزاز صورة إسرائيل كبلدٍ آمن وصحي يصلح للعيش وللهجرة من قِبَل يهود العالم.

أيضًا، حدَّ انتشار البعوض من جهود اليهود في بناء دولتهم الوليدة بسبب تعطيلها لحركات التشييد والهدم، ووصل في بعض الأوقات إلى استعانة المستوطنين بعمَّال عرب للقيام بأعمالهم بدلًا منهم خوفًا من الموت.

في كتابها، ركَّزت ساندرا على المشروع الإسرائيلي الضخم لتجفيف بحيرة الحولة التي تبلغ مساحتها 14 ألف كم بخلاف المستنقعات التي انتشرت حولها بمساحة 60 ألف كم، بعدما تحوَّلت إلى بيئة خصبة لنمو بعوض الملاريا.

مثَّل هذا المشروع بُعدًا قوميًّا وقت طرحه، فأي زيادة في أي قطعة من الأراضي داخل فلسطين تمثِّل إضافة رقعة جديدة لمستوطنة جديدة تسمح للمزيد من اليهود بالعيش داخل الأراضي المقدَّسة، لذا تبارت الصحف العبرية في تلك الآونة بتقديم المشروع بصيغ حماسية باعتباره «معجزة عظيمة» و«مشروعًا عملاقًا للأمة اليهودية»، بل تروي الأدبيات الشعبية الإسرائيلية أن أحد الخبراء اليهود وصف النباتات التي ستخرج من أرض تلك البحيرة بعد تجفيفها بأنها «أعشاب صهيونية».

وأكثر من ذلك، جرى استغلال هذا المشروع دعائيًّا لجذب المزيد من اليهود الأوروبيين إلى إسرائيل باعتبارها «الأرض التي هزمت الملاريا»، كهدفٍ أشمل لتقديم الدولة الصهيونية باعتبارها «وطنًا صحيًّا يسهر على الرعاية لجميع مواطنيه».

وأدَّى نجاح هذا المشروع إلى ترسيخ مفاهيم أن اليهود قادرون على إعادة صياغة أرض فلسطين طالما امتلكوا القُدرة والعلم، وكذا تجميع اليهود المشتتين من جنسيات مختلفة وراء هدف قومي واحد يصهرهم في هويتهم الجديدة.

كما تقول ساندرا إن قادة إسرائيل سعوا أيضًا لدحض كل الدعايات السلبية التي تعلَّقت بذيولهم طوال الحرب العالمية الثانية من أنهم شعب مريض، غير نظيف، لا يلتزم بقواعد الصحة ويدمِّر أي بقعة أرض يعيش عليها من فرط الطمع والجشع وقلة النظافة.

وبحسب الدكتور إسرائيل كليغلر كبير علماء الملاريا خلال فترة الانتداب، فإن نجاح إسرائيل في القضاء على الملاريا كان خطوة أساسية في بناء المجتمع اليهودي في فلسطين، كتجربة فريدة في قُدرة الرجل الأبيض على قهر الملاريا، في إشارة لفشل الأوروبيين السابق في استيطان بلادٍ أخرى في أفريقيا بسبب انتشار الملاريا في أجوائها.