خلال المباراة التي جمعت منتخبي البرازيل والمكسيك بدور الـ16 من المونديال، أراد المعلق حفيظ الدراجي أن يخبرنا عن فارق الإمكانيات الفردية الكبير بين المنتخبين. فلم يجد أفضل من مقارنة القيمة التسويقية لـنيمار وحده بتلك الخاصة بكل لاعبي المكسيك سواء كانوا أساسيين أو في بنك الاحتياط، حيث تبلغ قيمة اللاعب البرازيلي نحو 180 مليون يورو، أما رفاق «لوزانو» فيقدر

موقع ترانسفيرماركت

قيمتهم بنحو 139 مليون يورو فقط!

وبالرغم من هذا التفوق الفردي، إلا أن لاعبي المدرب خوان كارلوس أوسوريو قدموا مباراة جيدة للغاية. وكانوا ندًا قويًا للكتيبة البرازيلية خصوصًا في الشوط الأول. بل يمكن إرجاع أسباب الهزيمة لقلة خبرة لاعبي المكسيك التي ظهرت بوضوح في إهدارهم للفرص، بالإضافة إلى التبديلات الخاطئة التي أجراها مدربهم خلال المباراة.

في النهاية فازت البرازيل. واستمرت لعنة خروج المكسيك من دور الـ16 للمرة السابعة. لكنها في العموم مباراة مبشرة لمشجعي كلا المنتخبين، فالبرازيل اقتربت خطوة من حلم التتويج خاصة بعد إقصاء غالبية الكبار، والمكسيك أثبتت أنها تمتلك جيلًا رائعًا يمكن أن يحقق الأفضل إذا راكم الخبرات بالسنوات القادمة.


سؤال وإجابة

كان السؤال الذي يبحث عن إجابة قبل بدء المباراة هو: من سيبادر بالاستحواذ على الكرة؟


المدرب خوان أوسوريو أجاب

عنه قبل 24 ساعة من المباراة بشجاعة كبيرة، إذ قال إن فريقه لن يتراجع طوال الـ90 دقيقة، بل سينازع البرازيل على الكرة، وسيكون هناك دومًا أربعة لاعبين مكسيكيين في وضعية هجومية!

علل أوسوريو هذا الاختيار بقدرات لاعبي البرازيل الهائلة في بناء وإنهاء الهجمة، وبالتالي فإن ترك المجال لهم للتحضير والمبادرة سيضع فريقه تحت ضغوط تتسبب لا محالة في أهداف بمرمى الحارس «أوتشوا»، لكن إذا بادلهم الضغط من البداية فقد يتمكن بذلك من تعطيل مفاتيح لعب السليساو.

أوسوريو بدأ هذه المباراة برسم تكتيكي يكشف عن نواياه، فانتشر لاعبوه على وضعية 4/3/3، وقد أشرك قلب الدفاع أيالا بعد إيقاف المدافع الأساسي هيكتور مورينو، كما دفع باللاعب المخضرم رافيال ماركيز ليضيف عمقًا دفاعيًا بوسط الملعب، بالإضافة إلى تغيير مركز أهم لاعبيه لوزانو من الطرف الأيسر إلى الأيمن، وكان الهدف من ذلك هو استغلال وجود نيمار إلى جانب كوتينهو على تلك الجبهة، وبالتالي مساحات سيتركها الثنائي في وسط ملعب البرازيل يمكن للطرف المكسيكي الخطير التوغل فيها بسرعته ومهارته.

أما المدرب البرازيلي تيتي فقد بدأ المباراة برسم تكتيكي يتنوع بين 4/3/3 بالحالة الهجومية، و4/4/2 بتلك الدفاعية، حيث يعود الثنائي ويليان وكوتينهو ليشكلوا رفقة باولينيو وكاسميرو رباعي بوسط الملعب عند استحواذ المكسيك على الكرة، فيما يتقدمان سويًا بالإضافة إلى باولينينو عند وصول الهجمة البرازيلية إلى الثلث الأخير.

البرازيل، نيمار، المكسيك، كأس العالم

تشكيل المنتخبين. المصدر: موقع whoscored.


الشوط الأول: أوسوريو لم يكذب

لم تمر الربع ساعة الأولى من عمر الشوط الأول، وكان حفيظ الدراجي يضع لها العنوان الأنسب. إذ قال المعلق الجزائري إن المشاهد قد يشعر أن البرازيل هي من ترتدي اللون الأخضر، بينما يرتدي المكسيكيون اللون الأصفر، وليس العكس!

فقد بدأت المباراة بانتشار جماعي منظم ومحكم لأبناء أوسوريو، وانطلق الضغط المكسيكي من منطقة جزاء أليسون، إذ ينضم للمهاجم تشيشاريتو ثنائي الطرف الهجومي: لوزانو وكارلوس فيلا، ولاعب وسط مكسيكي إضافي، بهدف إغلاق زوايا التمرير إلى عناصر البرازيل، وعرقلة بناء الهجمة. وهو ما دفع أليسون أحيانًا إلى إرسال الكرات الطويلة للتخلص من ذلك الضغط.

خلال النصف ساعة الأولى تحديدًا، كان المكسيكيون أشبه ما يكون بالجراد النشيط الذي لا يكف عن الضغط والالتحام على الأطراف وفي عمق الملعب، وقد كان لذلك أثره الكبير على حرمان مفاتيح لعب البرازيل من الكرة.

تؤكد لك ذلك أرقام كوتينهو، فصانع ألعاب برشلونة اضطر للعودة إلى مناطق منتخبه من أجل الخروج بالكرة، وقد قام بـ11 تمريرة خلال الـ24 دقيقة الأولى، جميعها كانت إلى الخلف أو بعرض الملعب، يبدو الأمر أوضح في حالة جبريال خيسوس الذي عزله رفاق لوزانو خلال نفس تلك الفترة ولم تصل له الكرة في وسط ملعب المكسيك سوى ثلاثة مرات فقط!

المدهش أيضًا هو أن الضغط المكسيكي نجح في الحد من خطورة نيمار نفسه، بل دفع البرازيليون أنفسهم للاعتماد أكثر خلال تلك الفترة على ويليان الذي يحظى برقابة أقل شراسة.

كأس العالم، البرازيل، المكسيك، نيمار.

أوسوريو لم يكن يكذب أو يمزح حين أطلق تصريحاته، لقد كان يعني ما يقول، وكان يتمنى لو ساعدته الظروف بتسجيل هدف مبكر قبل أن يبدأ كل حينٍ في التحوّل ضده.


الدقيقة 30: أوسوريو في مشكلة

هناك عاملان رئيسيان ينظر لهما بحرص أي المدرب يعتمد على الضغط الهستيري أمام الخصم؛ العامل الأول، هو ضرورة توزيع الضغط على مراحل معينة من المباراة، لأن ببساطة من الصعب جدًا أن يستمر لاعبوه بنفس الرتم البدني طوال الـ90 دقيقة، ولابد أن يأتي وقت معين ويبدأ أحدهم في الانهيار، والعامل الثاني، هو كيف سيتصرف الفريق عندما يقرر أن يكف لبعض الدقائق عن الضغط، هل سيتراجعون مثلًا لوسط الملعب؟ أم لحدود منطقة الجزاء؟ ربما يتم الاستفادة من قدرة أحد اللاعبين على الاحتفاظ بالكرة حتى يلتقط زملاؤه أنفاسهم؟ لابد إذن من وجود نسق بديل في حالة التخلي عن ركيزة بنى عليها الفريق أداءه.

أوسوريو وقع في مشكلة كبرى بعد النصف ساعة الأولى، فقد بدأ الإيقاع البدني للثنائي: ماركيز، وجواردادو في الانهيار، وبقي هيريرا وحيدًا يحاول مقاومة المدّ البرازيلي. وكان ذلك بسبب عدم توزيع الجهد خلال الـ30 دقيقة الأولى. في المقابل، لاعبو البرازيل لم يكونوا قد استنزفوا بعد طاقتهم ولا دخلوا فعليًا إلى أجواء اللقاء، بل منحهم هذا التراجع البدني للمكسيك أفضلية كاسحة طوال الربع ساعة المتبقية من عمر الشوط!

حيث نال بذلك كوتينهو حرية أكبر في استلام وتسليم الكرة، وصعد ويليان متحررًا من قيود الضغط، بينما كان ينتظر جبريال خيسوس الدعم من زملائه. في الوقت ذاته، فشل لوزانو في تقديم المساندة الدفاعية الواجبة على جبهته، وترك الظهير ألفاريز في مواجهة قاسية أمام نيمار، ومن خلفه كوتينهو، حتى فيليبي لويز تنبه إلى الانهيار المكسيكي فصعد هو الآخر ليشكل مزيدًا من الضغط على ألفاريز. لذا لجأ أوسوريو إلى تبديل مراكز لوزانو وفيلا، ليحاول الأخير سد تلك الثغرة، لكن الوقت كان فات واستولت البرازيل على المباراة!

منذ الدقيقة 24 وحتى نهاية الشوط الأول، شنّ البرازيليون عاصفة هجومية على مرمى أوتشوا، فأطلقوا 9 تسديدات من بينهم 5 من داخل منطقة الجزاء، مقابل تسديدة يتيمة للمكسيك وكانت من خارج المنطقة، بالإضافة إلى نجاحهم في الاستحواذ على الكرة التي لم يفقدها رفاق ويليان سوى ثلاث مرات فقط، بينما فقدها رفاق أيالا عشر مرات نتيجة لتدهور حالتهم البدنية والذهنية.

خريطة تكشف عدد تسديدات البرازيل والمكسيك من الدقيقة 24 وحتي نهاية الشوط الأول. المصدر: Whoscored

المكسيك نجحت في الإفلات بشباكها نظيفة خلال الشوط الأول بفضل الحارس أوتشوا، لكن بقي السؤال يراود الجميع: إلى أي مدى يمكن أن تقاوم المكسيك بعد أن فقدت سلاحها الأهم؟!


رهان ودمار

البرازيل، المكسيك، كأس العالم.

البرازيل، المكسيك، كأس العالم.

كان أوسوريو يعلم أن عليه التدخل بين شوطي المباراة لإيقاف هذا التوسونامي الهجومي، فأشرك لايون على حساب ماركيز بهدف رقابة أو إرهاب نيمار، بينما دفع بالظهير ألفاريز إلى وسط الملعب ليشغل مركز لاعب الارتكاز.

لكن رهانات المدرب المكسيكي أثبتت فشلها بمجرد أن بدأ الشوط الثاني، فقد عجز ألفاريز صاحب العشرين عامًا عن مجاراة وسط ملعب الخصم الذي يفوقه خبرة وإمكانيات، ولم ينجح المكسيكي الصغير سوى في تنفيذ ثلاث تمريرات فقط، لذا لجأ أوسوريو إلى تبديله ونزول جوناثون دوس سانتوس في رهان خاطئ آخر!

المثير للدهشة هو حالة اللاعب لايون، فقد نزل إلى أرضية الملعب مشحونًا بمهمة كبيرة وهي إيقاف مصدر الخطورة الأول، لكنه فشل تمامًا في أغلب الصراعات الثنائية، إذ حقق تدخلًا صحيحًا واحدًا من أصل أربع تدخلات، بل وساهم بشكل مباشر بأخطائه في التمركز والالتحام في الهدفين.

الهدف الأول، جاء بعد أن توغل نيمار لعمق الملعب دون أن يعيقه لايون، أو يحافظ على تمركزه كظهير أيمن، ليكتشف فجأة الجميع أن الجبهة اليمنى فارغة تمامًا بعدما توغل فيها ويليان دون أي مقاومة، الأدهى أن لايون ترك نيمار بعد ذلك ينطلق داخل منطقة الجزاء منتظرًا أن يرد له ويليان الكرة مجددًا، واكتفى اللاعب المكسيكي بمشاهدة ما يجري.

أما الهدف الثاني، فجاء نتيجة لمساحات شاسعة تركها خلفه المنتخب المكسيكي أثناء محاولاته إحراز هدف التعادل، حيث ارتدت الكرة من جبهة لايون الذي لم يقدم أي دعم هجومي حقيقي بتقدمه للأمام، لتصل إلى نيمار الذي انطلق كالسهم وحيدًا قبل أن يمرر لفيرمينو.

لا تزيد على حالة لايون غرابة سوى حالة لاعب الوسط جوادرادو، فناهيك عن كونه أكثر لاعبي المكسيك فقدانًا للكرة، إلا أن تعامله بفردية شديدة خلال هجمتين يعد أمرًا غير مفهوم في ظل حاجة منتخبه لهدف واحد يعيد الآمال. جوادرادو كان يسدد من مسافة بعيدة متجاهلًا زملاءه وهم يطلبون الكرة، وليتها تسديدات شكلت أي خطورة على أليسون بل ارتطمت في أقدام مدافعي البرازيل!

المدرب تيتي في المقابل تعامل بذكاء شديد مع هذا التخبط الفني للمكسيك، كان يعرف أن دوس سانتوس لن يتمكن من صناعة أي فارق حقيقي في وسط الملعب بعد أن ترك الاستحواذ لأوسوريو، كما استغل حالة لايون السيئة فقام بتبديل المراكز بين جبريال خيسوس ونيمار لحماية لاعبه الأخير من التدخلات الصعبة وإحداث حالة أكبر من الفوضى في الدفاع المكسيكي.

البرازيل أوقفت الزحف المكسيكي الذي أذهل العالم أمام ألمانيا، وأثبت رفاق نيمار أن بإمكانهم التسجيل أمام التكتلات وخلال المرتدات، هي خطوة مهمة لمنتخب تيتي الذي يعد الآن أقوى المرشحين للقب إلى جوار الديوك الفرنسية.