بالأمس كانت الأسلحة النووية هي الميدان الذي يتسابق إليه الجميع من البلدان الأكثر تقدمًا، فتارةً تعمل على تطويرها كي تصبح الأكثر فتكًا، وتارةً أخرى تُحرِّم على الآخرين امتلاكها ولو بدافع إنتاج الطاقة. أما اليوم، وفي ظل أزمة فقدان السيطرة على فيروس كورونا المستجد أصبح الجميع يتهافت على امتلاك السلاح الجديد، القناع الواقي، أدوات الفحص وأجهزة التنفس الصناعي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.

إن موجة الذعر التي تنتاب مختلف البلدان هي مُبررة بالتأكيد نظرًا لتفشي الفيروس بصورة غير مسبوقة، لكن السؤال الملح هنا: لمَ لم نلحظ هذا القلق على الأرواح عندما تفشي فيروس إيبولا في بلدان الغرب الأفريقي موديًا بحياة 10 آلاف شخص؟ لماذا لم تكن هناك تحذيرات بالشكل الكافي لإنقاذ تلك الأرواح التي لم تجد يدًا تُمد لها بالمساعدة من البلدان التي تتمتع بأنظمة صحية على درجة عالية من الكفاءة؟ ولمَ تُرك هؤلاء على حافة الموت دون أن يعبأ لهم أحد؟

لم يتمكن إيبولا من النخبة، تلك هي الإجابة ببساطة، فضحاياه كانوا من الطبقات الأكثر فقرًا في القارة السمراء، نسب انتشاره لم تُمكِّنه من الوصول إلى الوسط السياسي كما فعل كورونا. اليوم بات الجميع سواسية، فالكل أصبح معرضًا للإصابة بالفيروس وصنّاع القرار في المقدمة.

فقد أصبحت الأخبار الأكثر تداولاً تأتينا من داخل دوائر الحكم في عدد من البلدان، بدايةً من القصر الملكي بماليزيا بعد وضع الملك وزوجته تحت الحجر الصحي عقب إصابة بعض الأفراد العاملين بالقصر، مرورًا بقصر باكنجهام والذي أعلن عن إصابة ولي العهد الأمير «تشارلز» وكذلك رئيس الوزراء البريطاني «بوريس جونسون» ووزير الصحة في حكومته، ووصولاً إلى خبر اقتحام الفيروس الوزارة الأكثر حصانة في العالم وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» والتي أعلنت عن بعض الإصابات التي لحقت بقوات المارينز.

إن تفشي فيروس كورونا كشف الوجه الحقيقي للبشرية بوجه عام والبلدان الأكثر تقدمًا بوجه خاص، فرغم ما بلغته من تقدم علمي في جميع القطاعات إلا أنه كما يبدو لم يصحبه تقدم أخلاقي بنفس الدرجة، وهو ما جعلنا أمام مشاهد بلغت الذروة في التعامل اللا إنساني أثناء أزمة تتطلب تنحي الخلافات السابقة لمواجهة هذا الفيروس المجهري، والذي فشلت جميع محاولتنا لاحتوائه تمامًا حتى الآن.

عفوًا… لا مكان بالمشفى سوى للشباب!

الجميع له الحق في تلقي الرعاية الصحية؛ طفلاً كان أم شابًا أم كهلاً، لكن هذا المبدأ أصبح يتعارض مع قانون الطوارئ الطبي الذي شرعته إيطاليا حديثًا لمواجهة أزمة كوفيد-19. فإن كان عمرك يتجاوز الـ 80، فلا مكان لك لتلقي الرعاية الطبية داخل المستشفيات،

قانون التفضيل الطبي

يراه البعض أزمة أخلاقية تُضاف إلى أزمة كورونا التي تُهدِّد البلد الأوروبي، فكيف يتم تصفية كبار السن وهم الآباء والأجداد الذين قدموا التضحيات لأبناء اليوم؟ وها هم لم يترددوا في التضحية بهم.

يرى البعض الآخر أن موقف الاتحاد الأوروبي من إيطاليا هو ما دفعها لاتخاذ مثل هذا القرار، وهو ما وضعها في حالة من الصدمة بعد أن تخلى عنها الشركاء الأوروبيين، وانشغل كل منهم بإدارة أزمته الداخلية دون الالتفات إلى دول الجوار، لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل بلغ درجة قصوى من الأنانية خاصة بعد صدور قرار من السلطات بـ دولة التشيك بمصادرة شحنة صينية من المساعدات الطبية كانت متجهة إلى إيطاليا الأكثر معاناة في القارة العجوز، وهو ما ينسف منظومة القيم الأوروبية التي لطالما تشدق بها الأوروبيون على مدار سنوات عديدة.

كيف يبدو التنمر بتوقيت جرينتش؟

ما إن أفصحت بكين عن ظهور كوفيد-19، بدأ العد التنازلي لخروج موجة غير مسبوقة من التنمر في
مناطق مختلفة من العالم.

في القارة الآسيوية دبّت مشاهد التمييز في دول عدة من بينها كوريا الجنوبية والهند وسنغافورة، فأُغلقت المطاعم وجميع الأماكن العامة في وجه الصينيين مع فرض حجر صحي على جميع مواطنيها بالخارج، بحجة أنهم من تعمّدوا نشر الفيروس بسبب نمط حياتهم غير الصحي.

في اليابان، تصدّر الهاشتاج «Chinese Don’t Come To Japan» على تويتر مع إعلان لافتة «لا يُسمح بدخول الصينيين» على مداخل بعض المتاجر والمطاعم. وفي القارة الأوروبية، التفرقة العنصرية لم تتوقف عند الصينيين فقط بل شملت ذوي الاصول الآسيوية حتى قبل التأكد من كونهم صينيين أم لا.

ففي فرنسا نشرت صحيفة «Le Courrier Picard» مقالاً افتتاحيًا بعنوان «الخطر الأصفر الجديد» وهو ما أثار استياء الجاليات الآسيوية المقيمة بالدولة الأوروبية، كما تواصلت المضايقات للآسيويين في إيطاليا وبلجيكا حتى وصل الأمر إلى الامتناع عن التعامل معهم في أماكن العمل، والمؤسسات التعليمية، حتى الشارع والذي كان يمثل المكان الأخطر لهم بعد رصد حالات من الاعتداء والإهانات العنصرية التي لم ينجُ منها مُسن أو طفل.

أفريقيا ليست حقل تجارب

منذ بداية حقبتها الاستعمارية إلى وقتنا الحالي، لا تزال تستولي على مقدرات شعوب أفريقية بكاملها، تشعل فتيل الحرب الأهلية في بعض البلدان فتضمن بذلك بقاء قواتها العسكرية فترة أطول، ومن ناحية أخرى تتسبب في هجرة عشرات الآلاف من الشباب الأفارقة إلى أوروبا في مواجهة خطر الموت غرقًا.

تلك هي فرنسا التي لا زالت تتمسك بعقليتها الاستعمارية،
وربما حلت أزمة فيروس كورونا لتكشف لنا مرة أخرى عن سياساتها العنصرية، حيث

كشف
طبيبان فرنسيان

عبر إحدى قنوات التلفاز عن اقتراح لإجراء اختبارات سريرية لبعض
العقاقير على الأفارقة، ضمن خطة تطوير لقاح لفيروس كورونا، وهو ما أدى إلى ظهور
انتقادات لاذعة للبلد الأوروبي على نطاق واسع.


القرصنة الدولية نهجًا لمواجهة كورونا

لم تعد القرصنة الإلكترونية هي الأشد خطرًا في زمن الكورونا، بل هذا النوع الجديد من القرصنة والتي باتت تمارسه الحكومات في محاولة منها لمجابهة فيروس كورونا، ولو أدى ذلك إلى انتهاج طرق غير مشروعة،

كالاستيلاء على شحنات

تحمل أقنعة واقية ومعدات طبية متجهة من الصين إلى البلدان المنهكة بالفيروس كإيطاليا وإسبانيا.

وهذا ما صرّحت به الشركة الطبية السويدية «مولنليك» حيث اتهمت السلطات الفرنسية بالاستيلاء على شحنة تحوي
الملايين من المستلزمات الطبية التي استوردتها من الصين، حيث صدر الأمر بالتحفظ
عليها وهي في طريقها إلى إيطاليا.

لم تكن تلك السقطة الأولى لإحدى بلدان الاتحاد الأوروبي، والتي يبدو أن قاموسها لم يعد يعترف بمصطلح التضامن أو الوازع الاخلاقي، فلقد أصدرت السلطات بالتشيك أمرًا مماثلاً بالتحفظ على شحنة تحمل معدات طبية كمساعدة من الصين لإيطاليا الأكثر تضررًا. إلا أن الأكثر إثارة للدهشة هو اعتراف مسئولين بالحكومة بذلك وعدم سعيهم لنفي الأمر وكأن ذلك عمل بطولي يستحق الإشادة.

وننتقل إلى صحيفة «دير شبيجل الألمانية»
وتقرير لها عن اختفاء شحنة كمامات متجهة إلى ألمانيا،
ويتحدث التقرير عن صفقة كانت قد عقدتها وزارة الدفاع الألمانية مع جهة لم تذكرها،
لشراء 6 ملايين من الأقنعة الواقية والتي اختفت وهي في طريقها
للبلاد.

تونس كانت آخر المتأثرين بهذه الأزمة هي الأخرى، فقد اتهم
وزير التجارة التونسي «محمد السيليني» إيطاليا بشكل مباشر بالاستيلاء على

شحنة
كحول طبية

كانت متجهة من الصين إلى الأراضي التونسية.

الولايات المتحدة لحقت بالسباق هي الأخرى، وهذا ما أكده رئيس الوزراء الكندي «جاستن ترودو »، حيث وصف ما تقوم به واشنطن على أنه تقييد لحركة التجارة الدولية وخاصة فيما يتعلق بالمستلزمات الطبية، وذلك من خلال سعيها للحصول على أغلب الشحنات الطبية بطرق ملتوية، فإذا كانت إحدى الشحنات في الموانئ أو المطارات متجهة لدولة ما فإن حكومة الولايات المتحدة تبادر بالدفع ثلاثة أضعاف التكلفة كي تفوز هي بالشحنة، ضاربة بجميع المعاهدات والأعراف الدولية عرض الحائط.

الولايات المتحدة تزيد الخناق على طهران

في مارس /آذار الماضي، أعلن الكونجرس الأمريكي عن تخصيص جزء من الموازنة يقدر بـ 2 تريليون دولار لمواجهة الفيروس، وهي الميزانية الأضخم في تاريخ الولايات المتحدة لمواجهة أزمة، وهذا يدل على تقدير الإدارة الأمريكية للازمة التي تعصف بالبلاد ومدى خطورتها، في ذات التوقيت كانت هناك مطالبات من دول بينها روسيا والصين بالإضافة إلى الأمين العام للأمم المتحدة «أنطونيو غوتيريس» للولايات المتحدة لتعليق العقوبات الاقتصادية المفروضة على بعض البلدان ولو بشكل مؤقت، لا سيما أن هذه البلدان لم يعد اقتصادها قادرًا على مواجهة المحنة الحالية بعد أن استُنزف قطاعها الصحي بصورة كبيرة، وقد يؤدي ذلك إلى حدوث مأساة يمكن أن تودي بحياة عشرات الآلاف بمعدل أسرع في ظل العقوبات الأمريكية الحالية.

وما هي إلا ساعات قليلة، ليخرج بومبيو ويعلن المفاجأة، ليست المفاجأة هنا أن الإدارة الأمريكية

رفضت تعليق العقوبات

، بل قامت بتشديدها وإضافة شركات أخرى إلى القائمة. ولكن ما هي تلك البلدان التي تؤرق إدارة ترامب لدرجة أنه يتمنى لو تُمحى بلمح البصر بفعل الفيروس المستجد؟

من بين الدول التي تتضمنها قائمة العقوبات الأمريكية،
فنزويلا التي يرغب ترامب في الإطاحة برئيسها «نيكولاس مادورو» رغم أنف شعبها، أضف إليها كذلك دول يعاديها النظام الأمريكي
مثل كوبا وكوريا الشمالية.

وتأتي إيران بالطبع في مقدمة هؤلاء، فإسقاط النظام الإيراني هو حلم يراود الإدارة الأمريكية أيًا من كان يقود البيت الابيض، ورغم مزاعم ترامب أنه يستهدف النظام السياسي فقط لطهران والبلدان الأخرى التي أوقعها في شباك عقوباته الصارمة. لكن الواقع ينفي ذلك تمامًا، ويكشف الوجه الحقيقي لإدارته التي تستهدف هذه الشعوب وتطوقها بحصار شامل يقيد فرصها في النجاة من جائحة كورونا. هذا وتنطبق العقوبات الاقتصادية على جميع الجهات أو الشركات التي تتعامل مع الدول التي تعاديها الولايات المتحدة لاسيما طهران، وهو ما يدفع بالحكومات الأخرى إلى النأي عن إجراء أية تعاملات اقتصادية معها.

خاتمة

«حقوق الإنسان» و«الديمقراطية»… تلك هي المصطلحات التي تغنت بها الدول الاكثر تقدمًا وسردتها بأناشيد وألحان مبهرة كي ترددها الشعوب النامية من خلفهم، لكن انظر اليوم إليهم، انظر إلى هذا النموذج الذي كنت تعده مثاليًا بالأمس متسائلاً متى يلحق وطنك بركب هؤلاء، إلى أن عصفت أزمة كورونا بالجميع، فبدأ الطلاء الخارجي يتساقط، كاشفًا عن الوجه الحقيقي للإنسانية جمعاء.

فـ «لا تحدثني عن قيم وقت الأزمات»… هكذا أصبح شعار المرحلة الحالية، خارجًا من رحم الرأسمالية، والتي لا تقل خطرًا عن كورونا، إن لم تكن قد تخطته بالفعل.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.