سُحب الزر البلاستيكي القديم ناحية اليمين، فخرج صوت تشوش واضح. لكن سرعان ما ضبط الإرسال وصفا الصوت، ليخرج صوت القرآن الكريم واضحاً عبر أثير الإذاعة، ناشراً في أرجاء المكان حالة دافئة من الهدوء والسكينة. يصمت الجميع وينظرون نحو اللا شيء وهم يستمعون للصوت يملاً المكان جمالاً.

لكن في خضم حالة التجلي تلك، لا يتساءل أحد عن البداية، عن الحكاية القديمة التي لم يروها أحد تقريباً، حين سُجلت آيات القرآن لأول مرة على أسطوانة صوتية، قبل أن تنتقل إلى مبنى الإذاعة ومنها عبر الهواء الطلق إلى غرفنا المتشوقة لصوت عذب.

كنز محفوظ

عبر سنوات طوال كان الشيخ لبيب السعيد -رئيس جمعية المحافظة على القرآن الكريم-

ضيفاً دائماً

في كل حلقات القراء والمشايخ في مصر. كان يصغي ويستمتع بأصوات القراء المصريين وغير المصريين، حتى راودته فكرة ذات مرة، باعثها الخوف من فقدان تلك الكنوز، فوفاة أي من هؤلاء القراء يعني نهاية كنزه معه. وجد الشيخ نفسه يتساءل لماذا لا يُسجل كل ذلك حتى لا يندثر برحيل صاحبه؟

هكذا قرر الشيخ لبيب السعيد العمل على

مشروع تسجيل

وحفظ ذلك التراث من القراءات المتميزة على يد عديد القراء، فجهز مسودة المشروع، وعرضها على مجلس «جمعية المحافظة على القرآن الكريم» في العام (1379هـ- 1959م) لمناقشة طريقة التنفيذ وخطة العمل على المشروع.

كان المشروع وقتها عاماً وشاملاً، فالفكرة قامت على تشكيل لجنة لاختيار أفضل القراء من ناحية الإتقان والتجويد وحسن الصوت، إلى جانب تسجيل دروس علمية في التجويد والقراءات. بمجرد عرض المشروع على الأزهر الشريف، لقي استحساناً كبيراً. وكان الشيخ محمود شلتوت رحمه الله، شيخ الأزهر حينها، هو من قرر أن يدعم الأزهر المشروع، لتبدأ خطة العمل بالفعل.

التمويل الصعب

يروي الشيخ لبيب في كتابه «الجمع الصوتي الأول للقرآن الكريم» قصة التمويل والتنفيذ، التي شكلت أزمة في بداية الأمر. لقد اتفقت الجمعية مع استوديوهات الإذاعة المصرية لتسجيل القراءات، بشرط حصول الإذاعة على حق نشر كافة التسجيلات المنجزة هناك، لكن الأمر لم يكن كافياً لضعف إمكانيات الإذاعة حينها.

جرى الاتفاق -كما يروي الشيخ لبيب في كتابه- على تسجيل القرآن بثلاث قراءات، أولها «حفص عن عاصم» بصوت الشيخ الحصري، وثانيها رواية «خلف عن حمزة» بصوت الشيخ مصطفى الملواني، والأخيرة رواية «أبي جعفر بن أبي وردان» بصوت الشيخ عبد الفتاح القاضي، رئيس لجنة مراجعة المصاحف بالأزهر الشريف آنذاك، كما تولى الشيخ وقتها الإشراف على التسجيل.

بعد استمرار الأزمة عرض صاحب المشروع الأمر على وزارة الأوقاف، التي قبلت المشروع وقررت دعمه، وعُرض على الفنان محمد فوزي أن تُسجل الأسطوانات الصوتية في مصنعه للأسطوانات، فقبل بذلك متنازلاَ عن كافة الحقوق المالية الخاصة بالمشروع.

الجدير بالذكر أن كافة أعمال المشروع كانت غير ربحية بالمرة؛ لم يتقاضَ أي قارئ أو مسئول عن المشروع أي أموال من جهة حكومية أو غير حكومية، وعلى ذلك احتاج المشروع لوقت كافٍ حتى يخرج كما أراد القائمون عليه له أن يكون.

المنتج الأول

في الواقع، لم يكن الأمر سهلاً في البداية، إذ احتاج إلى وقت طويل ومعايير صارمة، حتى لو تحدثنا عن واحد من أهم وأعظم القراء في الوطن العربي، وهو الشيخ الحصري، فقد احتاج إلى كثير من الوقت لتسجيل أول نسخة كاملة من المصحف المرتل برواية حفص عن عاصم، وخضع الأمر خلال التسجيلات لتعديلات مختلفة.

لكن بحلول العام (10 صفر 1381هـ – 23 يوليو 1961م)

كانت النسخة الأولى

من أسطوانات المصحف المرتل قد أنُجزت في مصر، وصارت جاهزة للتوزيع، لتكون الأولى من نوعها في التاريخ.

كان نجاح المشروع مبهراً منذ بدايته، فلم يحتج الأمر إلا إلى بضع أشهر أخرى، حتى يستمع المصريون عبر أثير الإذاعة المصرية إلى صوت القرآن المرتل بصوت الشيخ الحصري (الاثنين 8 من ربيع الآخر 1381هـ – 18 سبتمبر 1961م)، لتكون أول خطوة في تاريخ القرآن المرتل المسموع في العالم العربي تقريباً.

لم يكن الشيخ الحصري وحده القارئ الأهم في ذلك المشروع، لكنه كان أهم لبنة مبدئية، فقد انضم إليه الكثير من كبار المشايخ والقراء للمشروع، ليقدموا ختمات مرتلة بصوتهم، مثل «محمد صديق المنشاوي، مصطفى إسماعيل، عبد الباسط عبد الصمد، عامر عثمان، رزق خليل حبة، عبد الفتاح القاضي».

التسجيل الغربي الأول

يتداول البعض من حين إلى آخر مقطعاً نادراً لصوت قراءة القرآن الكريم في الحرم المكي، بقليل من الإنصات يتبين أنها سورة الضحى، وببعض من البحث، نجد تاريخ التسجيل

يعود إلى 1885

، تاريخ غريب ومفاجئ أليس كذلك؟


تشير المراجع التاريخية إلى أن من سجله هو المستشرق والرحالة الهولندي سنوك هرخونيه، المهتم بتسجيل الصور والمعالم التاريخية الخاصة بالبلدان الإسلامية. وكان في هذا العام متواجداً في مكة المكرمة يتابع توافد الحجاج إلى موسم الحج، مسجلاً صوراً قديمة لمكة وللحرم المكي وسجل كذلك صوت قراءة القرآن داخل الحرم.

كان
سنوك ممن يمتلكون «أسطوانة
الفونوغراف»
التي
ابتكرها أديسون لعمليات التسجيل، فاستغلها
في عمليات التسجيل.

إلا أن المراجع التاريخية تذكر ولع سنوك بالجمع، وخرجت أخبار وقت وجوده أنه

يجمع أشياءً من مكة

ليحتفظ بها على سبيل التوثيق والذكرى خارج الحجاز، فوصل الأمر حينها للسلطة وقرروا إيقافه خشية الاستيلاء على شيء، وبمجرد أن وصله خبر توقيفه قرر الرحيل سريعاً، لكنه ترك خلفه معدات التسجيل والتصوير، التي كان العثور عليها بعد رحيله سبباً في حفظ أقدم تسجيل صوتي مسموع للقرآن الكريم في التاريخ.

اختلفت الروايات فيما بعد، إذ تشير مراجع إلى أنه دخل الإسلام فيما بعد، وأخرى تصنفه بعد مماته بالمستشرق المسيحي، لكنه، وعلى كل حال، لم يكن يدرك أنه سيكون جزءاً من تاريخ طويل يتداوله المسلمون حتى اليوم.

وما بين المحاولة السرية الأولى بمكة، والمحاولة المثابرة بالقاهرة، وصل عبر هذه السنوات القرآن الكريم مسجلاً بالترتيل إلى كل بلدان العالم تقريباً، وصار جزءاً من حياة الملايين، وانتقل بدوره إلى أدوات السماع الحديثة على الهواتف ومنصات الاستماع.