أثار مسلسل «الملك» كثيرًا من الضجة حوله، حتى تم تأجيل عرضه، بسبب المغالطات التاريخية التي حفل بها عرض المسلسل الترويجي، وقد أعاد المسلسل نقاشًا مُحتدمًا حول الدراما التاريخية، وأهمية الاعتماد على باحثين تاريخيين أكفاء خلال إعداد الأعمال الفنية، وهو ما دفعنا للتفكير في تسليط الضوء على هذه المهنة التي تُعاني من الإهمال من قِبَل صنّاع الدراما المصرية.

التقينا بعددٍ من أبرز مَن مارسوا هذه المهنة، والذين كشفوا لنا جزءًا كبيرًا من كواليس هذه المهمة الشاقة، وكيف أن عملهم لا يقتصر فقط على كتابة السيناريو بل يمتد إلى تحديد مدى مطابقة الأزياء والإكسسوارات، وحتى الموسيقى، للفترة الزمنية التي تدور أحداث العمل فيها.

باحثة «أنا قلبي دليلي»: أتدخل في السيناريو، وأعيد تصوير الحلقات من جديد

منذ أكثر من خمسة وعشرين عامًا بدأت دكتورة لطيفة سالم العمل كباحث تاريخي، حيث كان التعاون الأكبر للدكتورة لطيفة مع المخرجة إنعام محمد علي، والسيناريست محمد السيد عيد، فقد راجعت كثيرًا من الأعمال الدرامية التاريخية التي صنعتها المخرجة والسيناريست، وقد تخصصت في مجال التاريخ الحديث والمعاصر.

ومن خلال خبرة دكتورة لطيفة في المراجعة التاريخية للدراما تقول، إن دور الباحث التاريخي له حدود «احنا بنشوف الخطوط العريضة للعمل، لأننا مش عايزين نقبض على الابتكار والخيال»، فيجب على الباحث الاهتمام بالأحداث التاريخية التي يحكي عنها المسلسل، كذلك تاريخ الشخصيات العامة، وقد قامت الباحثة بمراجعة مسلسلات تتحدث عن شخصيات مثل ليلى مراد في مسلسل «أنا قلبي دليلي»، والعالم مصطفى مشرفة في مسلسل «مشرفة رجل هذا الزمان»، وعلي مبارك في مسلسل يحمل نفس الاسم.

دكتورة لطيفة محمد سالم
دكتورة لطيفة محمد سالم

ليست الأحداث فقط بل أيضًا أزياء ذلك الزمن، واللهجة المستخدمة جزء من دور الباحث التاريخي، فيجب أن تُراعي اللغة الفترة التاريخية المُسلط عليها الضوء.

تخرجت دكتورة لطيفة في كلية آداب الإسكندرية، واستكملت الماجستير والدكتوراه بجامعة القاهرة، ولم يكن عملها كباحثة تاريخية ضمن أحلامها، بل إن القدر ساقها إليه، فقد كانت تلميذة للدكتور يونان لبيب رزق، المؤرخ المصري المعاصر، وقد تمت الإشارة إليها للعمل كباحثة تاريخية، وتعتبر أكثر الفترات زخمًا هي الألفينيات.

ويعتبر من أول المسلسلات التي اشتركت فيها الدكتورة لطيفة، هو مسلسل «ينابيع العشق» عام 2005، والذي يحكي عن فترة تاريخية مهمة منذ عام 1892 وحتى 1908، وفيها أحداث كبيرة مثل ثورة عرابي والاحتلال الإنجليزي لمصر وحادثة دنشواي، وفي البداية واجهت المؤرخة مصاعب خلال مراجعة العمل الدرامي «في الأول كانت المراجعة بتاخد مني وقت طويل»، حتى تحوّلت إلى صنعة تمكنت منها.

يبدأ عمل دكتورة لطيفة منذ مراجعة السيناريو المكتوب، ولها الحرية الكاملة في تغيير بعض الأحداث إن كانت غير صحيحة، كذلك الأحداث التي يكون من الصعب تصويرها على الأرض «وده حصل مع مسلسل الملكة في المنفى، وتم عمل حلقات جديدة»، وينتهي عمل المؤرخة بكتابة تقرير كامل يمتلئ بملاحظاتها الخاصة بكل حلقة، وأحيانًا يقوم صناع العمل بمراجعتها خلال التصوير، وهو ما حدث كثيرًا خلال تعاونها مع المخرجة إنعام محمد علي، غير أنها لم تحضر تصوير الحلقات قبل ذلك سوى على سبيل المعرفة.

تشكلت علاقة طيبة بين دكتورة لطيفة والمخرجة إنعام محمد علي «هي كتلة من الذكاء وعندها عمق تاريخي»، وهو ما جعل التعاون معها تجربة ثرية في حياة دكتورة لطيفة، ومن ضمن العلاقات أيضًا التي نشأت خلال عملها كباحثة تاريخية هو علاقتها بالكاتب أسامة أنور عكاشة، وعلى الرغم أنهما لم يتعاونا معًا في أي من أعماله الدرامية، لكن كان يستشيرها أحيانًا في رأيها لبعض الشخصيات التاريخية، مثل الملك فاروق، كذلك القضايا الفكرية التي أثيرت في فترة العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي؛ كقضية كتاب طه حسين «في الشعر الجاهلي».

خبرة عظيمة كوّنتها دكتورة لطيفة كمُراجعة تاريخية، إضافة لكونها بالأساس أستاذة بجامعة بنها على مدار 42 سنة، لذا تم انتدابها خلال القضية المُثارة ضد مسلسل «سرايا عابدين» في عام 2015، حيث حرّكت الرقابة دعوى قضائية ضد قناة «إم بي سي» الجهة المنتجة للمسلسل، وقبلها قامت جمعية «المحافظة على التراث المصري» بتحريك دعوى أيضًا بسبب الأخطاء التاريخية التي وقع فيها المسلسل، وقد تم انتداب دكتورة لطيفة التي كتبت نحو 17 صفحة مليئة بأخطاء العمل الفني.

ترى دكتورة لطيفة أن ما حدث في مسلسل «سرايا عابدين» يُشبه ما جرى لمسلسل «الملك»، ولكن هذه المرة قبل العرض بالأساس، وبسبب رفض كثيرين له على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما تراه دورًا إيجابيًا لتلك المواقع «بس في نفس الوقت ميكونش سلاح بيتسلط ضد الناس طول الوقت».

تختلف تجربة أيمن عثمان عن تجربة دكتورة لطيفة؛ حيث بدأ حب الكاتب للتاريخ منذ 2011، فاجأته ثورة الخامس والعشرين من يناير باحتياجه لقراءة الثورات التي انتفض فيها المصريون من قبل، ومنذ ذلك الحين لم يترك عثمان حُبه الشديد للتاريخ، فصنع العديد من الأفلام الوثائقية التاريخية، وألف موسوعة تراث مصري بجزأيها الأول والثاني، فيما صار الكاتب مرجعية للمهتمين بالتاريخ مع الوقت، وكانت أول تجربة له كباحث تاريخي في مسلسل «الفتوة»، الذي عُرض في رمضان العام الماضي، ويحكي المسلسل عن عالم الأحياء الشعبية في أواخر القرن التاسع عشر خلال سيطرة الفتوات.

باحث «الفتوة»: عملنا لا يُقدّر، وما حدث في «أحمس» عِبرة

بدأ عثمان العمل على المسلسل منذ كتابة الحلقات الأولى «كانت أول خمس حلقات»، وكان يقوم بمراجعة كل حلقة بمفردها، وقد حدد البحث التاريخي بالفترة الزمنية لصراع الفتوات منذ عام 1875، حتى قبيل الثورة العرابية في 1881، ويعتقد عثمان أن تلك الفترة كانت مُبهمة ومُرتبكة بسبب عدم وجود سيطرة واضحة للدولة، فلم يوجد حكم مباشر من الخلافة العثمانية على مصر التي كانت تتبعها أثناء ذلك الوقت.

وقد اجتهد عثمان في مراجعة الحلقات بشكل كبير، حاول مُحاكاة تلك الحقبة الزمنية بكل تفاصيلها؛ من مفردات لعادات وطقوس شعبية، حتى أغاني الأطفال في ذلك الزمن، ومن بين الكلمات الخاصة بتلك الفترة «التُمن» أي قسم الشرطة، و«الفقى» وهو المأذون، وكان شيخ الحارة له وضعه الخاص بدلًا من ضابط الشرطة أو المحقق، كما كانت الخمّارات أماكن اعتيادية وقتها.

الباحث أيمن عثمان
الباحث أيمن عثمان

في رأي عثمان لا يقتصر دور الباحث التاريخي على مراجعة الحلقات المكتوبة فقط، حيث يُبلور وجهة نظره قائلًا «الباحث التاريخي هو أول من يدخل العمل بعد الكاتب، وآخر من يخرج من العمل بعد المخرج»، وبالفعل حضر عثمان عدة مرات موقع التصوير، ويحكي أنه شاهد ذات مرة زفة بلدي تستعد للتصوير وتعزف أغنية «اتمخطري يا زينة»، فما كان منه إلا أن أوقف الفرقة «وقولتلهم دي مش مناسبة للعصر بتاعنا، وأنا مش باحث موسيقي لكن قريت في المجال»، واقترح عثمان مَخرَج فني على أكبر شخص موجود في تلك الفرقة «سألته عن أغنية اتعلمها من أبوه، وأبوه عارفها من جده»، وبذلك يضمن أن تكون الأغنية المُتوارثة قديمة نسبيًا.

مهمة الباحث التاريخي مُرهقة جدًا؛ فعثمان تعرّض لمشكلة خلال عرض المسلسل، فلم يُوضع اسمه على «التتر» على مدار 15 حلقة، ولم يتم استدراك الخطأ سوى في النصف الثاني من شهر رمضان، كما تم تحديد الفترة الزمنية للمسلسل في بداية الحلقة الأولى، فقد تم كتابة سنة 1875، وهو ما لم يتفق عليه عثمان مع مخرج العمل «حسين المنباوي»، والمؤلف «هاني سرحان»، وحتى الآن لا يرى عثمان أنه قد تم تقدير عمل الباحث التاريخي في مصر بشكل جيد «أتمنى إن اللي يكون حصل في مسلسل أحمس جرس إنذار لصناع الدراما» بألا يستهن بذكاء المشاهد.

هناك بعض الحسرة في نفس عثمان، لأنه كان يرى تقدير لدور الباحث التاريخي في الماضي، فكثيرّا ما قرأ عن الصحفي السكندري الذي لجأ إليه نجيب محفوظ خلال كتابته لفيلم «ريا وسكينة، وكان اسم الصحفي هو «لطفي عثمان»، كما تم وضع اسمه على الأفيش، ويُوضح عثمان أن في ذلك الوقت كان هناك احترام كبير للتخصصات والدخول لعمق التفاصيل، وهو ما حدث أيضًا في مسلسل إذاعي عن ريا وسكينة أيضًا «كانت أول مرة مسلسل يستعين بدكتور نفسي عشان تقديم الشخصيات»، فاستعانت الفنانة راقية إبراهيم بطبيب نفسي في علم الاجتماع عشان يعرفها اللزمات المصاحبة لمجرمة زي كدا، وتعرف تتكلم زيها».

لم يكن العمل الوحيد لعثمان هو مسلسل «الفتوة»، فقد عمل في فيلم «كيرة والجن»، عن رواية أحمد مراد «1919»، والذي لم يُعرض بعد، وفي الفيلم عمل عثمان على إعادة الوضع الاجتماعي لبطل الفيلم «هو بيتكلم عن تنظيم خاص في ثورة 1919، ودي قصة اشتغلت عليها في موسوعة تراث مصري».

وفي نظر عثمان لا يقتصر دور الباحث التاريخي على الدراما فقط، بل يبحث أيضًا في الرواية التاريخية، وهو ما حققه حاليًا في رواية ستصدر قريبًا للكاتب هشام الخشن.

باحث «ممالك النار»: نحتاج لمشاهدة تاريخ لا تشوهه الدراما

أما دكتور محمد صبري الدالي، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة حلوان، فقد كانت تجربة مسلسل «ممالك النار» هي التجربة الوحيدة له، و«ممالك النار» هو عمل درامي عربي مشترك تاريخي من إنتاج شركة جينوميديا الإماراتية عام 2019، فعلى مدار 30 عامًا اهتمّ دكتور الدالي بالبحث في التاريخ المعاصر، وضمن النقاط التي اهتم بها كانت فترة الانتقال من الدولة المملوكية للاحتلال العثماني.

الدكتور محمد صبري الدالي
الدكتور محمد صبري الدالي

وما إن تواصلت شركة الإنتاج معه على مُراجعة المسلسل تاريخيًا لم يتردد كثيرًا «كنت مقتنع جدًا بالفكرة وحابب أشتغل عليها»، حيث عرف شكل القضية التاريخية التي يرغبون في طرحها، وشحذ ذهنه فيما لديه من مصادر عن تلك الفترة، ليستخرج منها الحقائق الخاصة بموضوع المسلسل، وأرسل لهم كل ما يحتاجونه لأجل بناء سيناريو يُماثل الأحداث تاريخيًا، لم يقتصر التعاون على كتابة المادة التاريخية المطلوبة، بل على أزياء وأسلحة تلك الفترة أيضًا.

وقد كانت المراجعة التاريخية للدكتور الدالي سببًا في تعديل العديد من النقاط بقصة المسلسل، وظهر العمل الدرامي بشكل مُرضٍ إلى حد كبير بالنسبة له، وهنا يُوضح أستاذ التاريخ أن المسلسل الدرامي التاريخي يقع في منطقة بين الدراما والتاريخ، وعلى الباحث الحفاظ على صحة الأحداث التاريخية، ولكن بدون تشويه الدراما أيضًا «لازم يبقى فيه هامش درامي فني».

ولكن ما حدود الباحث التاريخي في عملية صناعة الدراما؟ يقول دكتور الدالي إن الدراما العربية لم تصل بعد لإمكانية وضع حدود واضحة لدور الباحث التاريخي «وحتى الآن دور الباحث بيتم حسبما يطلب صناع الدراما منه في الأساس، هو نوع من الاجتهاد أكثر والموقف الشخصي للباحث التاريخي».

فمثلًا الكتابة الآن اختلفت عن زمن سابق، كان الكاتب نفسه هو أيضًا مهتم بالتاريخي، مثلما كان أسامة أنور عكاشة، أو الأديب نجيب محفوظ.

وفي الوقت الحالي يتفاءل دكتور الدالي بالدراما التاريخية، فقد رأى أن تفاعل الناس مع مسلسل ممالك النار كان مُبشرًا جدًا، وفي نظره أن المتلقي عامة عامة يُحب مشاهدة المسلسلات التاريخية.

ويأمل الدكتور الدالي أن تُطرح قضايا تاريخية أخرى للدراما، فالدراما هي شكل من أشكال التاريخ، ومحاولة للفهم أيضًا، ويرى أن مصر تزخر بالعديد من القضايا التاريخية التي من الممكن صناعتها فنيًا، على جميع النواحي الاجتماعية والسياسية، كما يُوضّح أن المتلقي أيضًا بحاجة لرؤية مسلسلات تاريخية أخرى تهتم بالتاريخ وتوثيقه دون تشويه خط الدراما أيضًا.

ولكن هناك نقطة أخرى يذكرها دكتور الدالي أنه لصناعة عمل درامي يجب الرجوع لباحثين متخصصين؛ «فيه فرق بين الثقافة التاريخية العامة والدراسة العميقة»، وفي رأيه أن على صناع الدراما الاعتماد على باحث متخصص في الفترة التاريخية المراد التحدث عنها.