خلال 25 عامًا، هي العمر الأدبي للكاتب المصري الراحل «أحمد خالد توفيق»، قدَّم العرَّاب العديد من الروايات والمقالات، كما ترجم روايات من الأدب العالمي، وكتب ثلاث سلاسل روائية للجيب، هي: «ما وراء الطبيعة» و«فانتازيا» و«سفاري». هذه السلاسل لا تخلو من المغامرات الاستثنائية التي تحبس الأنفاس، والتي لا تحتاج إلا لشخصيات استثنائية تحمل على عاتقها بطولة السلسلة، أو شخصيات يتعلق بها القرَّاء، فيضمن الكاتب استمرارية السلسلة ونجاحها لأطول فترة ممكنة.

الغريب أن «أحمد خالد توفيق» -رحمه الله- جعل من أبطال سلاسله شخصيات استثنائية، ولكن بطريقة مغايرة للمألوف، «مميزون لأنهم غير مميزين بشيء»، وجوه عادية تفتقر للوسامة، حتى إن بعضهم يصف نفسه بالقبح دومًا. ذكاؤهم متوسط، وكذا طبقتهم الاجتماعية تمامًا. لا يتصفون بشجاعة البحث عن المغامرة، فهم دائمًا متورطون على غرار القول الشائع «مُكرَه أخاك لا بطل». أشخاص عاديون أكثر من اللازم، مثل مئات الأشخاص الذين تراهم في الشارع خلال يومك، رغم هذا يجد القارئ أن العرَّاب نجح في جعل القارئ يتعلق بهذه الشخصيات فيفرح لفرحها ويتحفز معها لحظة الخطر، ويحزن حين ينتهي من قراءة السلسلة، كأنه يودِّع صديقًا حميمًا.

ثرثار لا يمل الكلام عن نفسه

يُعد «رفعت إسماعيل»، دكتور أمراض الدم المتقاعد والأعزب، أغرب شخصيات العرَّاب على الإطلاق، وهو أبعد ما يكون عن بطل يجول بخاطر أحد ما؛ كَهل متهالك يفتقر لأي مؤهلات جسمانية، حيث يصف نفسه بأنه حالة فريدة من النحول واعتلال البدن، لا يوجد مرض إلا وضمه جسده إلى قائمة أمراضه. شَرِه في التدخين حيث يصف نفسه بأنه يُدخِّن كـ «برلين» عندما دخلها الحلفاء، ودائم الاستخدام لحبوب «النيتروجلسرين» بسبب قلبه الواهن.

لا يخجل من الاعتراف بأنه قبيح، ورغم أنه شخص مَلول فإنه يتجنب الخطر والمشاكل، أما المفارقة فهي أن حياته صارت سلسلة من المغامرات الخطرة في عالم الماورائيات والظواهر الخارقة للطبيعة التي يتورط فيها رغمًا عنه. يقول رفعت عن نفسه:

أنا الشيخ الفاني الذي تشبه حياته ورقة في شجرة صفصاف إبان الخريف، الكل ينتظرها كي تسقط، الكل يعرف يقينًا أنها ستسقط، ناموس الحياة يقول إنها ستسقط، لكنها لم تسقط! والتفسير الوحيد عندي هو أن أجلي لم يحِن بعد.

وتعتبر «ما وراء الطبيعة» أولى سلاسل أحمد خالد توفيق -رحمه الله- وقد أصدرتها «المؤسسة العربية الحديثة»، بدأها عام 1993، فكتب منها 80 عددًا، حتى عام 2014. ورغم أن أدب الرعب لم يكن سائدًا وقتها فإن السلسلة لاقت رواجًا كبيرًا. ولا شك أن العرَّاب قد نجح في جعل القارئ يتعلق ببطل السلسلة الكهل «رفعت إسماعيل».

رحلة إلى عالم فانتازيا

بعد عامين من بداية سلسلة «ما وراء الطبيعة»، وتحديدًا في عام 1995، بدأ العرَّاب سلسلة جديدة تحمل اسم «فانتازيا»، من إصدار «المؤسسة العربية الحديثة» أيضًا، بطولة نسائية لشخصية تُدعى «عبير عبد الرحمن»، ويصفها أحمد خالد توفيق في مقدمة العدد (46) فيقول عنها:

شخصية عادية إلى حد غير مسبوق… إلى حد يخطف الأبصار… إنها الشخص الذي نتمنى ألَّا نكونه حين نتحدث عن أنفسنا… الشخص الذي لا يتفوق في الجمال أو القوة أو البراعة أو الذكاء. ثمة أبطال قصص يمتازون بالقوة… ثمة أبطال يمتازون بالذكاء الخارق… ثمة أبطال يمتازون بالحظ العاثر… ثمة أبطال يمتازون بأنهم لا يمتازون بشيء… ويبدو أن عبير من هذه الفئة الأخيرة.

وفي عدد يحمل اسم «30»، وهو عدد خاص بمناسبة مرور ثلاثين عامًا على «روايات مصرية»، كتب العرَّاب أنه استلهم شخصية «عبير عبد الرحمن» من فتاة تعمل في نادي فيديو قُرب بيته فيقول:

رأيت فتاةً تعمل في نادي فيديو قرب بيتنا… هذه الفتاة كانت تُمضي الوقت في القراءة، تقرأ بنهم… تقرأ بتوحش. كان واضحًا أنها فقيرة من ناحية المال والجمال والتعليم، لكن نهمها في القراءة كان يمنحها عوالم غير محدودة تزورها وهي بعد جالسة في ذلك المكان الضيق وسط شرائط الفيديو. هكذا وُلدت عبير… كان مشهدًا طريفًا عندما دخلت نادي الفيديو يومًا فوجدت الفتاة تطالع في نهم عددًا من فانتازيا، وهي بالطبع تجهل أنني… ! كيف لو عرفت أنها هي بطلة الكتيب الذي تُطالعه.

وعلى عكس رفعت إسماعيل المغلوب على أمره، فإن عبير هي التي تخوض المغامرات بإرادتها، حيث تدخل إلى عالم فانتازيا من خلال جهاز اخترعه مهندس يُدعى «شريف»، فيجد القارئ نفسه بصحبتها في مغامرة مع العديد أبطال روايات وقصص من الأدب العالمي، على غرار «شارلوك هولمز» و«جيمس بوند» وغيرهما من الشخصيات المعروفة.

السلسلة الأقرب للواقعية

يعد دكتور «علاء عبد العظيم»، بطل سلسلة «سافاري» التي كتبها العرَّاب عام 1996، هو أقرب الشخصيات الثلاثة إلى البطل المُتعارف عليه، إلَّا أنه يصف نفسه بأنه شاب عادي ككل الشباب الذين لم يجدوا أنفسهم في مصر، قضى أعوامًا في دراسة الطب، وتخرج ليعمل مناوبًا في أحد مستشفيات الأقاليم، يُرفَض حين يتقدم لخطبة زميلته لأن راتبه يكفي لبدء حياة من الرخاء للصراصير كما قيل له، فيترك مصر ويسافر إلى الكاميرون ليعمل بوحدة سافاري التي تستهدف الأمراض في القارة السمراء، وهناك يطلق لحيته -كما يقول- لأنها تجعله يبدو كراهب علم.

تبدأ سلسلة مغامراته بين أوبئة وسحرة وعلماء مخابيل ومرتزقة وسارقي أعضاء، وما تتميز به السلسلة عن سابقيها أنها مليئة بمعلومات طبية عن الأوبئة والفيروسات القاتلة والأمراض الغريبة التي تثير القارئ دون أن يشعر بلحظة ملل واحدة، إلا أن السلسلة توقفت عند العدد 53 بسبب وفاة الكاتب «أحمد خالد توفيق» -رحمه الله- ومن غير المعلوم إذا كانت ستستمر السلسلة أم لا.

هناك مصطلح يُدعى «البطل المخالف للعرف»، وهو الذي يُطلق على الشخصية الرئيسية في العمل الأدبي، والتي تفتقر إلى سمات البطولة المتعارف عليها كالمثالية والشجاعة، وهي سمة رئيسية في أغلب أبطال العرَّاب. فقد أجاد «أحمد خالد توفيق» رسم هذا النوع من الشخصيات، إلى حد جعل القارئ يتعلق بهؤلاء الأبطال رغمًا عنه.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.