في مقدمة دراسته «سياسة التراث في مصر » يقول «تيموثي ميتشل»:

تكمن أحد مفارقات مجيء عصر الدولة الحديثة في أن إثبات أنك حديث إنما يعد أمرا مفيدا إذا كان بوسعك أن تثبت أيضا أنك قديم، حيث تحتاج الأمة التي تريد أن تستحق مكانا بين أسرة الدول الحديثة، إلى إنتاج ماضٍ لها يمكن عبره تنظيم الولاء السياسي وإبراز هوية مميزة، حيث يعد اعتماد ماضٍ مشترك للأمة حاسما في صوغ خليط من الناس في أمة متماسكة، وهو ما لا يحققه الاعتماد فقط في هذا الإطار على أشياء رمزية كالعلم والنشيد الوطني فحسب.

يعرض ميتشل في دراسته التي ترجمها بشير السباعي و نشرتها دار ميريت في مصر عام 2006، بجانب دراسة أخري عن مدرسة (دراسات التابع) الهندية تحت عنوان «دراستان حول التراث و الحداثة»، العديد من الملاحظات الذكية والقضايا والمسائل التي جري بها صوغ هوية الأمة في حالة مصر الحديثة، من خلال استعراض ممتع ومؤلم في الوقت ذاته للمحات مما جرى في النصف الأول من القرن الماضي في مصر، تستحق بالفعل أن يعاد تسليط الضوء عليها من جديد.


إحياء تراث ميت


باعتباري إنجليزيا يمكنني أن أعجب بالمقاييس الخيالية وبالدقة التليدة لستونهينج، إلا أنني لا يمكنني أن أحس بهذه الجارة كجزء من ماضيَّ الخاص.





تيموثي ميتشل

بشكل دوري كان يجري بذل جهد لتصوير الماضي الفرعوني كمصدر للهوية القومية المصرية الحديثة، وهو ما يمكن أن نؤرخ لمساعيه الأكثر تواصلا بداية من الربع الثاني للقرن العشرين، وتحديدا على إثر أكتشاف مقبرة «توت عنخ آمون» في وادي الملوك، قرب الأقصر، في عام 1923، عندما كشف عالم الآثار البريطاني هوارد كارتر عن كنوز أول مقبرة مليكة يتم العثور عليها سالمة كاملة في الأزمنة الحديثة.

حيث تزامن حدث الأكتشاف هذا مع السنة نفسها التي كسبت فيها مصر استقلالا جزئيا عن الاحتلال البريطاني، وهو ما زود الحكومة الجديدة في ذلك الوقت بتعبير قوي عن هوية الأمة، وهو ما أعقبه بعد ذلك سيل من الكتابات لجانب من النخبة المصرية المتأثرة بأوروبا في ذلك الوقت، التي سعت إلى إعادة تأصيل هوية مصر والمصريين من خلال محاولة إحياء وبعث التراث الفرعوني.

تكمن المفارقة هنا في أنه لم يعط ذلك الماضي هوية متميزة وأصيلة للمصريين في الحقيقة، بقدر ما أنه كان محاولة لإثبات أن مصر أضحت تنتمي منذ تلك اللحظة إلى الأسرة الأوسع للحضارة الحديثة، حيث كان دور الماضي هنا فقط أن كان علامة وحسب على ما هو حديث.


تفكيك نموذج حسن فتحي


خلال أربعينيات القرن الماضي طلبت مصلحة الآثار المصرية ترحيل سكان قرية الجرنة المصرية، التي تقع على الضفة الغربية للنيل قبالة مدينة اللأقصر، و المقامة فوق المقابر والمعابد الصخرية القديمة المعروفة لدى علماء الآثار والسياح بجبانة طيبة، بسبب نزع حائط كامل لأحد المقابر التي كانت تحت حراستها.

في تلك الأثناء صمم حسن فتحي قرية الجرنة الجديدة النموذجية باستخدام الطوب اللبن في البناء وباستخدام العقود والقباب الرحبة، حيث كان مقصده من ذلك يتمثل في استحداث عمارة شعبية رخيصة وسارة من حيث جماليتها.

وقد رمز بناء القرية إلى ميلاد أسلوب جديد سيصبح شهيرا على المستوي الدولي، وذلك لإعلانه عن نبذ الحداثة الغربية وسعيه إلى استرداد أساليب ومواد تراث البناء والعمارة المحلية.

بعد عشرين عاما من فشل المشروع بسبب إغراق أهالي الجرنة للقرية الجديدة من خلال فتح مياه السد عليها، عبر حسن فتحي عن روايته لتلك لأحداث بمشاعر يسودها الإحباط والمرارة تجاه سكان الجرنة الذين رفضوا التعاون مع مشروعه.

يعلق ميتشل على ذلك بأنه من السهل انتقاد فتحي اليوم، سواء بسبب نزعته الأبوية وغطرسته تجاه القرويين الذين وقفوا في طريق رؤيته المعمارية، أو بسبب نزعته الكوزموبوليتية التي قادته إلى الترويج لرؤيته في كتب منشورة بالإنجليزية والفرنسية وتحظى بالإعجاب في مختلف أرجاء العالم، عزلته في الوقت ذاته عن بني جلدته الذين يقرؤون بالعربية.

و لعل تجربة حسن فتحي في هذا الإطار تحتوي أيضاً على عنف ربما لا يلتفت إليه الكثيرون، عنف غير مرئي في خطط الرجل العمرانية ولكنه يجعلها ممكنة.

يتبدي هذا العنف في اللامبالاة التي ابداها حسن فتحي لمعاناة أبناء قرية الجرنة من وباء ملاريا الجامبيا أشد أنواع الملاريا فتكا بالشر، والتي جاءت من الجنوب مع مشروع ري حديث كان يهدف إلي توسيع مزاع قصب السكر في أعوام 1942 – 1944، و كذلك من تفشي وباء الكوليرا في عام 1947، حيث لا يناقش فتحي أي اعتراضات أوسع على ترحيل وإعادة تسكين جماعة قد عانت للتو من معاناة و كارثة إنسانية كهذه.

يروي في هذا السياق طبيب من مدينة أرمنت أن ثمانين إلى تسعين شخصاً من سكان القرية كانوا يموتون خلال اليوم الواحد في تلك الفترة، وهو الأمر الذي ظل يتذكره عجائز القرية الذين عاشوا حتى تسعينيات القرن الماضي، حيث حفرت في ذاكرتهم مشاهد تلك الأيام عندما لم يكن هناك ما يكفي من الرجال الأصحاء لمجرد دفن الموتي وحملهم إلى قبورهم.

يصف ميتشل هذا التعامل مع المشكلات الاجتماعية في سبيل إحياء التراث القومي بأنه يعكس تبجحاً في سياسة فتحي المعمارية، ونظرة طبقية دونية لفقراء الفلاحين الذين كان يلومهم فتحي لجهلهم وعنفهم في فشل مشروعه الأول في الجرنة، كان فتحي نفسه، من الطبقة المالكة للأرض، حيث كان والده يتملك عدة ضياع كبيرة، هذا إلى جانب أن القسم الأكبر من أعمال فتحي عمليا كان يتصل ببناء منازل ريفية لملاك الضياع الكبيرة.

المفارقة المثيرة للتأمل بنهاية المطاف في معرض تفكيك تجربة عمارة حسن فتحي أن عنف مشاريع الري الكبرى، التي كانت مصدر الفرصة لفكرة بناء مشروعه للقرية النموذجية في أواسط الأربعينيات من خلال الاعتماد على مواد وأشكال التراث، تسببت بنهاية المطاف بأنه لم يعد هناك ترسيب سنوي لطمي النيل، ولم يعد هناك تجديد للطين الغريني الثري الذي بنيت به عمارة فتحي المعتمدة على الطوب اللبن.


التراث المفرَّغ من ساكنيه



رمز بناء القرية لميلاد أسلوب جديد، وذلك لإعلانه عن نبذ الحداثة الغربية وسعيه إلى استرداد أساليب ومواد تراث البناء والعمارة المحلية

بعد تلك الأحداث التي سردناها بخمسين عاما ظلت الحكومة المصرية ما تزال تحاول طرد سكان قرية الجرنة القديمة، وكانت وما تزال تصفهم بأنهم خارجون على القانون، وناهبو آثار، وغير متحضرين.



أثمرت تلك السياسات في نهاية المطاف في خلق نوع من السياحة المُسّورة، تفصل جسديا بين السائحين الأثرياء والسكان المحليين الفقراء

وقد أضافت المزاعم الحكومية فوق ذلك أن مياه الصرف الخارجة من بيوت الجرنة تؤثر تأثيرا ضارا على المقابر الفرعونية، وأن ظروفهم المعيشية البائسة وغير الصحية تفسد المنظر، وتسد الطريق أمام الوصول إلى المقابر الفرعونية وتعرقل توسع صناعة السياحة.

عندما حاولت الحكومة المصرية إرغام القرويين على الانتقال هذه المرة، كانت النتيجة هي المقاومة العنيفة من الأهالي التي بلغت ذروتها في أعمال الشغب وإطلاق النار في يناير/كانون الثاني عام 1998.

ترجع تلك التطورات في حقيقة الأمر، إلى عام 1982، عندما استأجر البنك الدولي مؤسسة آرثر .د.ليتل الاستشارية الأمريكية لصوغ برنامج لزيادة إيرادات السياحة في الأقصر، حيث أحيا المستشارون الأمريكيون من جديد مشروع حسن فتحي في تفريغ الجرنة من سكانها.

وقد أوضح تقرير أصدره البنك الدولي في العام نفسه حول إدارة الزائرين أن خلق بيئة شاملة يعد أمرا ضروريا على الضفة الغربية للنيل، حتى يتسنى للأقصر الوصول إلى تحقيق مجمل إمكاناتها في السوق، وهو ما يعني تحويل الجرنة إلى متحف مفتوح في الهواء الطلق، وترحيل سكانها وهدم بيوتهم.

عندما أجرت أيضا المؤسسة ذاتها التي استعان بها البنك الدولي لتنمية السياحة في الأقصر بعد ذلك، دراسة لتقييم تجربة السياح في الأقصر استنتجت أن أكبر مشكلة لدى السياح إنما تتعلق باتصال الزائرين بالسكان المحللين، حيث يشتكي السياح من تعرضهم المتواصل للملاحقة من جانب أشخاص يحاولون أخذهم لبيع شيء ما لهم.

وهو ما أثمر بنهاية المطاف في خلق نوع من السياحة المُسّورة، تفصل جسديا بين السائحين والسكان المحليين، يبدو أن ما فرضها في حقيقة الأمر هو ذلك التباين المتزايد بين ثراء أولئك السياح وفقر أولئك السكان الذين يزور السياح بلادهم.

من اللافت أخيراً أن نجد الاتهامات لسكان الجرنة بأنهم لصوص مقابر تتكرر كثيراً في العديد من الأعمال الفنية التي تناولت الأقصر من فيلم شادي عبد السلام الشهير (المومياء) في عام 1996، إلى مسلسل حلم الجنوبي في أواسط التسعينيات.

إلا أن المفارقة وراء ذلك الاتهام أن هذه الشبكات التجارية التي يجري الإجهاز عليها من حين لآخر، تبين التقارير الإخبارية أن مصدر المسروقات يكاد بشكل أن يكون ثابتاً، هو مخازن ومواقع تحت سيطرة الحكومة المصرية، كمنطقة كوادي الملوك، حيث لا يحيا أي جرنويين، و هو ما يلقي بالضوء بنهاية المطاف علي الهوية الحقيقية للمتسبب الأول في ضياع التراث و الآثار المصرية.