هناك فئة من الناس لا تأخذ من الحياة في بلادنا سوى مشاقها، تدور في فلك لقمة العيش دورة كاملة يوميًا، وفي روايات البعض دورتين وأكثر. تكابد الصعاب، وتحاول جاهدة اقتناص تلك اللقمة من فَمِ الحياة، عَلها تَظْفَر نهايةً بما يعولها ويعول ذويها، ويُمكّنها من مواصلة الدوران في اليوم التالي، مع تسليم الجميع بعدم السلامة من براثن الحياة مهما طالت مدة المراوغة.

تتوارث تلك الفئات المعاناة جيلًا بعد جيل، تعاني الْأَمريْن قولًا وفعلًا كما عانى السابقون ومن سبقوهم بحثًا عن أقل القليل من الرزق. ورغم مرور الزمن وَتَغَير الأولويات التي تتبناها الطبقات الاجتماعية المختلفة طبقًا لما تُمليه عليها طوارئ الحياة، فإن المعاناة هي الْمُشْتَرَك الوحيد بين كل الأزمنة.

لطالما كانت معاناة الفلاحين والعمال محل اهتمام الجميع، كونهم في الأساس يشكلون الغالبية العظمى من الطبقة العاملة في المجتمع، فلا يُوجَد بيت لا يحوي بداخله على الأقل إمّا عاملاً أو مُزارعًا أو كليهما في بعض الأوقات. وكون قضاياهم تُمثل مادة دسمة تصلح للتنظير والتحليل على مستويات عدة، فقد تناول الأدباء والسياسيون أحوال العمال والفلاحين كلٌ من منظوره الخاص، وكذا الحال بالنسبة للشعراء.

يصحبنا الخال عبد الرحمن الأبنودي في رائعته «

جوابات حراجي القط

» في رحلة تكشف عن العام من بين ثنايا الخاص، مرثية كاملة لحال العمال والفلاحين والنساء والتعليم بين سطور غزل «حراجي القط» وزوجته «فاطمة أحمد عبد الغفار» ليطمئنها على أحواله. يُطلعنا حراجي خلسةً في سطور جواباته على حال الفلاحين آنذاك، كونه نما بينهم وانتمى إليهم، وكذا الحال بالنسبة لأوضاع العمال الذين أصبح منهم بسفره إلى أسوان للعمل في مشروع بِنَاءِ السد العالي. وتُطلعنا «فاطنه» -كما ينطقها حراجي- على حال نساء الريف وهي تتحدث عن نفسها وعن نساء القرية، كما يُخبراننا عن تعليم أبناء العمال والفلاحين في ذلك العصر.

تدور رسائل حراجي القط تزامنًا مع بداية بناء السد
العالي، الذي وُضع حجر أساسه في 9 يناير/كانون الثاني 1960، أي أن الرسائل تؤرِّخ
لما تناولته من أحوال الفلاحين والعمال بعد قيام ثورة يوليو بقرابة 8 سنوات.

حال الفلاحين: معاناة عبر التاريخ

يحفل

تاريخ الفلاح المصري

بالمعاناة عبر آلاف السنين، فتضطهده الحكومات تارةً وتُهمِّشه في أخرى بعد أن تسلب محصوله في صورة ضرائب تُفرض عليه في أفضل الأحوال، فرغم ازدهار وعلو شأن الحضارات المصرية بفضل الزراعة والفلاحين في المقام الأول، فإن الفلاح لم ينل أي تقدير على دوره في بناء هذه الحضارة، بل كانت تُجبى منه الضرائب وهو ما عُرف في بعض الأحيان بالجباية أو نظام الالتزام كما كان يُسمى في عهد الدولة العثمانية، وتبتاع منه الدولة المحاصيل بأقل الأسعار، بل كان أيضًا لا يملك الحق في بيع وشراء أرضه في معظم العصور ويقتصر دوره على حق الانتفاع فقط مع دفع أجرة نظير حيازة الأرض. استمر هذا الوضع طويلًا حتى جاءت ثورة يوليو وكان من أولى أولوياتها تحسين أوضاع الفلاحين وذويهم.

ففي يوم 9 سبتمبر/أيلول 1952، وبعد 45 يومًا من قيام ثورة يوليو، قرّر جمال عبد الناصر ومجلسه إصدار قانون 178 لسنة 1952 وهو قانون الإصلاح الزراعي، وينص القانون على تحديد الملكية الزراعية للأفراد، وأخذ الأرض من كبار الملاك وتوزيعها على صغار الفلاحين المعدمين. وصدرت تعديلات متتالية حددت ملكية الفرد والأسرة متدرجة من 200 فدان إلى خمسين فدانًا للملاك القدامى، وعرفت هذه التعديلات بقانون الإصلاح الزراعي الأول والثاني، واعتبر ذلك اليوم عيدًا للفلاح.

ولكن الأبنودي في مرثيته تلك يُلقي الضوء على فئة خاصة من الفلاحين، وهم الفلاحون المعدمون «الأنفار» الذين لا يملكوا أرضًا خاصة بهم سواء بالتملك أو حتى الإيجار، وهو ما يدفعهم للعمل بالأجرة في أراضي الغير.

ففي مطلع الجواب التاسع يقول حراجي لزوجته فاطمة متحسرًا
وراثيًا العمر الذي مضى هباءً من وجهة نظره في اشتغاله بالزراعة كعامل باليومية:

والله ما ضيعنا يا فاطنه غير الفاس.

واتاريني يا فاطنه عرفْت الهمّ ف يوم ماعرفت الفاس.

أدعي على أبويا

ولا على جبلاية الفار؟

ولاّ ادعي ع اللي علَّمني أغوى كلمة أنفار؟

في الجبلاية يا فاطنه

الواحد يغوى الكلمة دهي

من غير ما يحس

ما يعرف فين غوَّوهاله وف أي مكان

زي تمام شرب الدخان

أنفار أنفار

ونعاود آخر الليل

زي الحيطة المايلة ع الدار

ماليين الدرب غبار وهزار

وأتاري طيلة العمر الواحد فينا يا فاطنة

ماشي المشوار بالمندار

نفرح بالعشرين قرش

ويوم السوق نتباهى برطل اللحم

نمشي بيه قدام الناس.

شايفه يا فاطنه…؟

يقطع ده اليوم الطين اللي اتعلمنا فاس.

كان يبقى صُح الفاس لو لينا أرض.

أهي بس ف دي

يبقى الفاس فاس

لكن ما اخْيبها شغله يا فاطنه

إن كانت في أرض الناس.

حتقولي عليا اتغريت واتغيرت

أبدًا وحياة النعمة يا فاطنه

وحا حكيلك.

تزايد ذلك القطاع من الفلاحين (الأنفار) طوال القرن التاسع عشر بسبب التطورات التي حدثت في نظام حيازة الأرض، حيث تحول قطاع كبير من فلاحي أراضي العُهد إلى فلاحين معدمين، كما كانت الضرائب المتزايدة، والسخرة، والتجنيد سببًا في ترك الكثير منهم لأراضيهم ولجوئهم إلى مزارع كبار الملاك من أصحاب الأبعاديات، وخاصةً الأجانب منهم حيث يجدون لديهم الحماية من أعمال السُخرة وغيرها. وفضّلوا بذلك أن يتحولوا إلى فلاحين مُعدمين يعملون في دوائر وتفاتيش كبار الملاك، على أن يكونوا ملاكًا مُكبّلين بقيود الأرض وما يترتب عليها من ضرائب وسخرة وغيرهما من الالتزامات التي أثقلت كاهلهم.

وفي ضوء الحديث عن قانون الإصلاح الزراعي بعد ثورة يوليو، وهي الفترة التي يتحدث عنها الأبنودي عن مشاكل الأنفار المستمرة، كان من المفترض أن تكون الأمور قد تحسنت وأن الأوضاع قد اختلفت بعد إصدار القانون، لكننا نجد أن القانون قد استبعد الفلاحين المعدمين وعمال اليومية من توزيع الأراضي، حيث

نصّت المادة التاسعة من القانون

أن من شروط الحصول على الأرض أن يقل ما يملكه من الأرض الزراعية عن خمسة أفدنة، وأن يكون عاملًا بالزراعة لفترة طويلة، ووفقًا لهذا الإجراء استُبعِد مليونا عامل زراعي وفلاح معدم من عملية إعادة التوزيع.

تتجلى معاناة الأنفار في ذلك
العصر في جوابات حراجي، حيث يلعنها بكل الطرق الممكنة، فيقول في موضع آخر في نفس
الجواب:

يخرب بيت اللي ضيع عمرنا هُفت

وطلّعنا وشيب راسنا في حكاية الأنفار.

إتعلمنا من الصّغر يا فاطنه

إن مافيش في الدنيا إلا شغلانة الأنفار.

العمال: ما بين التأهيل والتهميش

كان نتاج تهميش عمال التراحيل أو «الأنفار» في قانون
الإصلاح الزراعي سببًا كافيًا لهجرهم مهنة الزراعة بأثرها، والاتجاه نحو العمل
كعمال في المشاريع التنموية التي كانت الدولة بصدد إقامتها، وكان لهذا التحول أثر
كبير في تغيير شكل الطبقات الاجتماعية، ولم يكن العدد الذي عمل في بناء السد حينها
عددًا هينًا، فقد وصل عدد العمال إلى ما يقرب 34 ألف عامل طيلة عشر سنوات استغرقها
بناء السد، وحراجي هو أحد هؤلاء الأنفار الذين هجروا قراهم وتركوا الزراعة وذهبوا
للاشتغال في بناء السد العالي بأسوان.

تسأل
فاطمة زوجها حراجي مستنكرة: «كيف صاحب الفاس يصبح أوسطى».

تطلَّب بناء السد

أعدادًا مهولة من العمال

، وبالرغم من توفير العمالة فإن افتقار هؤلاء العمال لأساسيات العمل كان عائقًا اضطرت الدولة لمواجهته، فصدر قرار لطلبة الدبلومات الفنية بالعمل في السد العالي على أن يأخذوا شهاداتهم من الموقع. هذا النوع من التعليم العملي خلق طبقة من الفنيين المهرة اقتربت من مستوى المهندسين، ولأول مرة يعرف العمال تلك الآلة الجبارة «الكرّاكة»، ومكن التخريم، وكانت بالنسبة لهم اختراعًا، ولم يكن أحد منهم يعرف كيفية قيادتها سوى الخبراء الروس. تم تدريب البعض في الموقع وأُرسل البعض إلى الاتحاد السوفييتي للتدريب.

يصف حراجي الأعداد المهولة التي رآها أول ما وطأت قدماه أرض أسوان، وكذا يصف أول ألم يكابده هؤلاء العمال في الغربة وهو الشوق إلى الأهل والأحباب، فيقول:

أآآآه يا (( فطاني)) لو شوفتي الرجالة هْنِهْ

قولي… ميات… أولوفات…

بحر من ولاد الناس…

إللي من ((جرجا)) واللي م ((البتانون))

واللي من ((أصفون)) و ((التل))

جدعان…

زي عيدان الزان…

سايبن الأهل.

وتطلي في عين الواحد يا ولداه ع الغربة.

عارفة يا مرتي الراجل في الغربة يشبه إيه؟

عود دره وحداني…

ف غيط كمون…

لكنهم مضطرون لمواصلة العمل واستكمال رحلة الغربة لتوفير لقمة العيش وحياة أفضل لم توفرها لهم الزراعة كما ذكرنا سالفًا، فلم يكن يقوى حراجي على توفير أهم ضروريات الحياة وهي ملبس زوجته وأولاده اللهم إلا في الأعياد، فيقول:

وعنبعتلك في ظرف الجمعة… طرد

الطرحة والجزمة بتوعك…

وكساوي عزيزه وعيد.

دورت الحسبة ف راسي وقلت يا واد يا حراجي…

هو يعني قانون العيل ما يدوقشي الكسوة…

غير في العيد؟

أمال كيف العيل حيحس بأبوه جنبه

إذا كان الأب بعيد؟

بالرغم من مشقة العمل وألم الفراق فإن حراجي رأى بدايةً أن السفر والغربة غنيمة لاذ بها من حرب الحياة التي كان يظن أنها لا تتعدى أسوار قريته «جبلاية الفار»، حاله حال جميع الفلاحين آنذاك، بل ومعظم أهالي القرى الذين منعهم الفقر وقلة الحيلة والتعليم من السفر إلى المدن والاطلاع على أوجه الحياة المختلفة، وكأن السد هو بوابة هؤلاء لمعرفة دروب أخرى للحياة، ستُشكل وعيًا جمعيًا لديهم فيما بعد بضروريات أخرى، كتعليم أبنائهم، والمطالبة بحقوقهم وغيرها، فيقول حراجي واصفًا ذلك:

إحنا يا فاطنه اللي لا عرفنا قراية ولا كتابة

غلابة.

لما عرفت كْدِه يافطاني زعلت الزعل الواعر

عُمْر يا فاطنه مافكرنا ف الدنيا

ولا قلنا جايه منين رايحة على فين

غير كلمة ربنا يسترها معانا دنيا وآخره

والآخرة ..؟

آدي العمر اللي دبل على عوده في تراب الجبلاية

ياما لولا ((حسين العكرش)) قاللي السدّ

كنت زمان باتعتّر وأقف واتنفض وامشي تاني

في طريقي المتسد..ّ

وفي
نقد مباشر لعادات القرية والجبلاية، يقول:

أكتر ما تعلمنا في الجبلاية يا فاطنه غلط في غلط

وأقلها حاجة اتعلمناها غلط

ان الدنيا حالها كده معدول

مع إن الدنيا فيها يا فاطنه المعدول واللي غلط..

لدرجة
أن حراجي اعتقد أن السد بُني خصيصًا كهبة من الله لتنوير رأسه ومعرفته خبايا
الحياة، التي يعتقد أهل الريف معرفتهم التامة بها، فيقول:

ده أنا حتى ساعات بأحدت نفسي وأقول

يكونشي السد ده عاملينه عشاني..؟

علشان يا حراجي تعرف قيمتك

وتفتح ع الكون والناس

رغم المر اللي بتشربه فيه؟

ويقول أيضًا في وصف حاله بعد
السد الذي أخرجه من غياهب الجب:

بس حراجي خلاص

بقى غاوي الأيام.

بيخاف على عمره زي النسوان لما تعجَز

أصل يا فاطنه يا مرتي خلاص في إيديا مسكت الخيط

وأنتي عارفه ..

النور في الضلمه ليه قيمة

حتى لو كان جاي من خرم صغير في الحيط

لم تكن مرارة الاشتياق والغربة إلا أهون ما كابد العمال أثناء بناء السد، فلا يزال السد يحمل في جنباته أشلاء بعضهم التي بُترت إبان العمل، أو راح أصحابها ضحية انهيار الأنفاق فوق رؤوسهم، أو انفجار عبوات الديناميت فيهم بدلًا عن الصخر. فيخبرنا حراجي بعدم خبرة العمال في استخدام الديناميت مما أدى إلى ذهاب حياة البعض منهم، فيقول:

نّقاني ((الحاج بخيت))

أنا وتلاتة معايا عشان نزرع ((دَلاَميت)).

أهي دي الشغلة اللي تخوّف واللي تموّت صٌح.

أصعب ما يكون في اسوان

هيه حكاية الدلاميت.

صوابع طَوْلانه كده

نِنْكُتْها في اللجبال

ونقيد السلك يا فاطنه ورمْح.

بيفرقع.

نجري ونتكفّي.

صدَّقي لما يا فاطنه يقولوا قدامك

شفنا خلق بتتوفى…

بل
والأنكى هو عدم معرفة هؤلاء العمال بسبب تفجير هذه الجبال بالديناميت:

أصعب ما يكون في أسوان هيه حكاية الدلاميت

تتشال الدنيا وتقعد

أي جبل ينزل فرافيت.

يقعد مُدّه في ودانّا الزن.

تقولي يا فاطنه لو شُفتي الدلاميت

الجبل اتجنّ.

وقعدت أقول ليه يا حراجي

يشيلوا ويعافروا في الجبل الَّلمعافره دي؟

يكونوش ناويين ع الزرع يا جدعان؟

وطب دي حتت زرع ..؟

يعني ضايْقة الدنيا معاهم مش لاقيين

غير الأرض الطوب ..؟

هيّه الناس دي يا ولاد بتفكر بالمقلوب؟

وفي
موضع آخر يقول:

هو صُح الدلاميت

أسهل من شيلة الفاس

لكن بيقلَّعوا في الجبل العالي ده ليه؟

ما لقينا جواب

أصل اللي معانا يا فاطنه مش أهل اسوان

علشان يقولولنا.

جايين زيينا من ميت جبلاية فار

ما هو كانوا هناك زيّينا بيشتغلوا أنفار…

افتُتح
السد العالي عام 1970 بعد عشر سنوات تحت جناح إنجازات الرئيس جمال عبد الناصر، ولم
يتذكر أحد العمال الذين لم يتوانوا في دفع الغالي والرخيص مقابل إتمام المشروع،
دفعوا أعمارهم في وفاة البعض، أو في الاغتراب عن الأهل، وكالعادة تناستهم كتب
التاريخ.

إشكالي يا بنية خالي

إني مش عارف إيه اللي عملته بايدي

فين شغل حراجي القط

الشغال من سنتين في السد؟

يعني اللي ياجي يقوللي

فرجني على اللي عملته يا حراجي

كيف حانطق وارد؟

فين المِيت ِميِت خبطة فاس؟

فين الِميت مِيت زنبيل التيل التقلانة اللي ناقلهم على كتافي

مش باقي منهم غير العوجة اللي في كتفي

أشاور له على كتفي؟

تعليم أبناء الفلاحين والعمال

اتجه العمال والفلاحون إلى تعليم أولادهم كنتيجة للتغيير الجذري الذي حدث لهم، وكنتيجة مباشرة لاحتكاكهم بالمهندسين والأفندية في المشروعات المختلفة، التي كوّنت صورة جديدة في أذهانهم عن أهمية التعليم وارتباطه المباشر بتحسين الوضع الاجتماعي والمعيشي لهم، وهي رفاهية أتاحتها لهم مجانية التعليم بعد ثورة يوليو لنكن منصفين، وهي عكس الصورة السابقة التي كوّنتها في أذهانهم الأنظمة الديكتاتورية المختلفة، حتى لا يهجروا الزراعة والصناعة.

وهو اتجاه سيُشكِّل تغييرًا جذريًا في شكل الطبقات الاجتماعية بعد ذلك، فسيمتهن أبناء القرى وظائف لم تمت لهم بأية صلة قبل ذلك، كالطب والهندسة والمحاماة والتدريس، وغيرها من الوظائف الحكومية المختلفة، وهو ما سيشكل شكل الأسرة متوسطة الدخل لعقود وعقود بعد ذلك.

تستشير فاطمة زوجها حراجي في
مسألة تعليم ابنهما الأكبر «عيد»، فتقول:

جانا ((الشيخ قرشي)) ..

وخبط ع الباب ..

جه ساعة المغرب

قاللي: لا بدن ما نبص لعيد ..

قاللي : ((يا بت المرحوم ..

الواد لازمه الكُتاب ..

يوم السوق ..

إتدلي هاتي له قلمين بوص ..

ودواية ولوح))..

وضحك.. بعدين قاللي:

((لحسن يطلع لوح))

وأنا بيني وبينك يا حراجي عاوزاه يكبر

ويعوضنا عن الأهل

ويعمل لنا قيمة.

عاوزاه تكون قيمته ف جبلاية الفار قيمة القيمة..

ويرد
عليها حراجي بالموافقة، بل والتشديد على أهمية التعليم قائلًا:

أما عن عيد ..

فأنا من بدري يا فاطنه قلت يروح الكتاب ..

وأقل ما فيها ..

عيفُك الخط ويحفظ له كام سوره

والأمر ده بس يا فاطنه يعوز شوره؟

على خيرة الله..

تعليم وعمل النساء

أتاحت ثورة 1952 الفرصة لتعليم وعمل المرأة، وعملت الدولة على إعادة تأهيل نساء الريف من خلال عدة مشاريع كـ «الأسرة المنتجة»، كما أتاحت لهم دخول المدرسة والجامعة وشَغل الوظائف، ولكن في ذلك الصدد تم تأطير دور الجمعيات الحقوقية النسوية ومنعها من مزاولة أي نشاط سياسي، والعمل وفق خطط ورؤى الدولة.

تتحدث فاطمة زوجة حراجي في هذا الصدد من خلال
عرضها على حراجي رغبتها في العمل ما دامت تقوى على مشاقه، وعلى أن يكون لها دور
خارج حدود المنزل، وتستنكر من فرضية رفض الجبلاية لعملها، فتقول:

واحدة عافية زيي يخلوها للشيل والحط

مش ملي الجرة والكنس

هيه أصحاب الشغل مش ليها الشغل وبس

والواحدة ما دام في الشغل كأنها في البيت

مستورة ومحتشمة

وعينها مش طايرة

تبقى خلاص راجل؟

النبي لو قلت ده للجبلاية

لترد في وشي بيبانها

بل نجد أن حراجي ذاته قد أشاد بعمل النساء، وهو من ضمن التغيرات التي أحدثتها فيه تجربة الغربة ورؤية الدنيا بمنظور مختلف. سيُشكل ذلك أيضًا فيما بعد رؤية جديدة عن تعليم وعمل نساء القرى بعد أن كان ذلك مُحرمًا تمامًا في السابق، فيقول:

((ونبية بت المنزوع))

مرّه اتشلكلت قدامي مع أم الملْوي

واتفتح الموضوع

وتقولها يا حزينة

ياللي أبوكي مات م الجوع.

والدنيا يا فاطنة في البر التاني

قالبَه الدنيا.

ما هو ده اللي مِعَفْرتلي كياني

ومدوَّر لي راحة راسي

ومخليني زي ماكون واحد تاني.

((نبيهة المنزوع)) في البر التاني من الدنيا

لِبْسِت بدله

ونزْلت وسط المكن المتخبَّل تربط وتحل.

إحنا يا فاطنه فين م الدنيا ..؟

فين مخ الدنيا الجبار؟

ماعرفشي كيف جبلاية الفار ..؟

نهايةً، في تحفة الأبنودي الخالدة، نظرة شاملة على حال العمال والفلاحين والمرأة والتعليم وغيرها. حاولنا أن نشتق بعضها ونناقشه معًا، متمنين أن نكتب يومًا ما عن تحسن أوضاع هذه الفئات وغيرها من فئات المجتمع، التي لا تتوانى عن حب الوطن، في انتظار أن يُبادلها الوطن المشاعر نفسها يومًا ما.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.