داخل أحد الفنادق المُطِلّة على نيل القاهرة، شعر المخرج حاتم علي بتعبٍ
مفاجئ، رفع سماعة هاتفه، ثم طلب

طبيبًا

يأتيه في الحال.

بِيدَ أن التعب كان أكثر من تحمّل دقائق الانتظار، أو أن إرادة الله
قدّرت أن تُختتم المسيرة بمشهد دراماتيكي، حين وصل الطبيب أخيرًا، فوجد المخرج السوري
جثة بلا روح!

«الجثة خالية من أي جروح أو آثار عنف»، هكذا قالت

النيابة المصرية

في
تحقيقاتها، واستقر في يقينها أن الوفاة طبيعية، ولا توجد أي شُبهة جنائية، وذلك
بعد أن أمرت بتفريغ كاميرات المراقبة. هكذا مات حاتم علي، ورصدته كاميرات لم يقف
خلفها مُوجهًا ممثليه، وضابطًا لحركة الإضاءة، كما اعتاد منذ ربع قرنٍ من الزمان!

طفولة قاسية كادت أن تُخرج كاتبًا!

يُفترض أن أهل
حاتم علي القاطنين في الجولان
السورية لم يحتفلوا بذكرى مولده الخامس، إذ شهدت تلك الفترة حدثا جللًا سيظلُّ
راسخًا في ذهنه، وسيترك أثره على منتجه الفني لاحقًا، حيث سقطت الجولان في يد الاحتلال
الإسرائيلي عقب نكسة يونيو 1967م.

حينها عاش
حاتم علي طفولة لا يُستهان بمشقتها داخل مخيم اليرموك، إذ يتذكر دائمًا ذلك المشهد
الذي حمله فيه

خاله

على ظهره في رحلة لجوء ستدوم طويلًا؛ لكنها ستشعل روح
المبدع بداخله، ويُخزّن تلك المشاهد في رأسه، حتى يستعيدها مُصورة فيما بعد، عندما
أُسنِدَت إليه مهمة إخراج أحد أبرع مسلسلاته «

التغريبة
الفلسطينية

».

تلك النجاحات
في مسيرته كممثل لم تُثنِه عن حلمه الأول ككاتب ومخرج، كما يقول في أحد

حواراته

: «لما جيت المعهد العالي للفنون المسرحية، كانت نيتي دراسة
النقد والدراسات المسرحية؛ لكني فوجئت بأنهم أجلوا تدريسه لسنوات مقبلة، فدخلت قسم
التمثيل، وتخرجت عام 1986؛ لكن فكرة التأليف ظلت هي الفكرية الأساسية برأسي، لهذا
السبب أثناء دراستي كنت أكتب القصة القصيرة، والمسرح، والسيناريو فيما بعد».

«أردتُ أن أصبح صانعًا»

تخرج حاتم علي
في المعهد العالي للفنون المسرحية في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي، وصار
شابًا حمل في يده شهادة تُثبِت تَمَكنه من التمثيل كموهوب أثقل ملَكَته بالدراسة الأكاديمية،
وفي رأسه مجموعة أفكار قصصية يطمح يومًا إلى تحويلها بصريًا على إحدى الشاشتين.

لم تمر سوى
ثلاثة أعوام على تخرجه، وبدأ أولى خطواته كممثل، عندما التقطته عين المخرج السوري
هيثم حقي، وأسند إليه شخصية «عبده عامل الفرن» في مسلسل «دائرة النار». حينها حقق
حاتم علي نجاحا لافتًا كممثل، فأتبع تلك التجربة بعدة مسلسلات وصلت لأكثر من
أربعين عملًا، منها: «الرجل الأخير»، و«الخشخاش»، و«كهف المغاريب»، وغيرها من
المسلسلات.

بيدَ أن
الكتابة والتمثيل لم يُشبعا حاتم علي، رغم نجاحه في كليهما، فتباطأت خطواته في
الأولى، حيث لم يكتب طوال تاريخه سوى ستة أعمال فقط، عبارة عن سهرتين
تليفزيونيتين، هما «الكاميرا الخفية»، و«الحصان»، ومسلسلين، هما: «موزاييك»، و«القلاع»،
وفيلمين، هما: «آخر الليل»، الذي أخرجه ونال عنه جائزة أفضل مخرج عربي  في مهرجان القاهرة للإعلام العربي، وأخيرًا
فيلم «طعم الليمون» عام 2011م.

أما التمثيل
فقد قرر اعتزاله والتفرغ للإخراج،

مبررًا

ذلك القرار بأن «التعويض الذي قد أحصل عليه كممثل معتزل،
هو أن مهنة الإخراج هي المهنة الوحيدة التي تكاد تشبه الصانع».

فَعَل حاتم
علي ما أراد، واقترب من مهنة الإخراج التي تجعله «صانعًا»، وحدَّد لنفسه منهجًا
يسير عليه؛ قوامه المعرفة، ونتيجته الحتمية العرض الجيد للمشكلة، أو كما

يقول

: «لازم نعرف إحنا مين؟ وين عايشين؟ شو هي
مشاكلنا؟ ونعرف بالتالي شو الطريقة اللي نعبّر فيها عن هذه المشاكل. يعني كيف نصنع
هذه الصورة». لكن، كيف صنع حاتم علي هذه الصورة؟
يُمكننا تلخيص مسيرته بأنه امتلك عينًا ثالثًا جعلته قادرًا بشكلٍ استثنائي على
انتقاء المواضيع المختلفة التي صاغت وعينا وثقافتنا، علاوة على تمكُّنه المبهر من
تسكين الممثلين في أدوار أعماله كما لو أنهم خُلقوا خصيصًا لأدائها.

يُلاحق «التاريخ» مع وليد سيف

مسيرة حاتم علي الإخراجية لم تصل
للخمسين عملًا حتى يوم وفاته، وهو عدد يتناسب مع بدايته المتأخرة كمخرج، ورغم ذلك
استطاع أن يحجز لنفسه مقعدًا هامًا ومتقدمًا بين المخرجين العرب، ومكانة تكاد تكون
الأولى في سوريا، منذ أول أعماله «مرايا 98»، ثم «الفصول الأربعة»، وكلاهما عملين
اجتماعيين، يسردان الحياة اليومية لعائلة شامية وما طرأ عليها من تغيرات. ثم انتقل
حاتم خطوة ستجعله محط أنظار متابعي الدراما العربية لسنوات، عندما اتخذ من التاريخ
وسيلة لعرض رؤاه بصورة تميزه عمن سواه، سواء بشكله السردي الطبيعي، أو بالاعتماد
على السِيَر الذاتية، وفي كليهما تحمل كل هذه الأعمال وجهة نظر مغايرة عن الصورة
السائدة، مما جعلها عُرضة للكثير من الجدل وقت عرضها.

استهل حاتم علي رحلته في عوالم
التاريخ عام 2000 بمسلسل «الزير سالم»، لتكون هي التجربة الوحيدة التي تناولت أشهر
حرب عربية قديمة، وهي حرب البسوس بين قبيلة تغلب بن وائل، ضد بني شيبان، ومحاولة
لتسليط الضوء على شخصية عُدي بن ربيعة التغلبي، الشهير بالزير سالم، مستعينًا بنص
بديع للكاتب ممدوح عدوان، والممثلين عابد فهد، وسلوم حداد، وزهير عبد الكريم.

نجاح «الزير سالم» شجّع المخرج
السوري على المضي قدمًا نحو الإخراج التاريخي، فبعد عام واحد أخرج مسلسل «صلاح
الدين الأيوبي»، مستعينًا بنص للكاتب وليد سيف، الذي سيُكوّن معه لاحقًا ثنائيًا
هامًا بالسير في درب التاريخ، والظفر منه بأعمال تستلهم روح الشجاعة من ناحية، وتستدعي
دروس الماضي من ناحية أخرى، فرأيناهما معًا لاحقًا يتتبعان أفول نجم الأمويين على
يد العباسيين، وبزوغ نجم عبد الرحمن الداخل في مسلسل «صقر قريش» عام 2002م، ثم سرد
حالم لأزهى عصور الأندلس خلال عصري الناصر والمستنصر في مسلسل «ربيع قرطبة» عام
2003م، وفي عام 2004م، كانت «التغريبة الفلسطينية» التي اعتبر حاتم علي أنها تتماس
كثيرًا مع حياته في طفولته وقت المعيشة في مخيم اليرموك.

وكرر الثنائي التعاون مرة أخرى
لاستكمال ما أسمياه «رباعية الأندلس»، فبعد «صقر قريش»، و«ربيع قرطبة»، ثم في عام
2005 قدَّما «ملوك الطوائف»، وما جرى في الأندلس المسلمة بعد سقوط خلافتها
المركزية، ونشوء دويلات صغيرة تناحرت فيما بينها، ثم حالت الظروف الإنتاجية دون
إكمال الرباعية؛ لكن الثنائي وليد سيف وحاتم علي لم ينفصلا إلا في عام 2012، بعدما
قدَّما ملحمتهما الأشهر، وهي مسلسل «عمر» الذي سردا فيه سيرة الخليفة الثاني، بحجم
إنتاجي عربي غير مسبوق، وجدل لم ينقطع حتى الآن، بسبب استعانة صناع العمل بالممثل
سامر إسماعيل لتجسيد الشخصية لأول مرة على الشاشات الصغيرة، ما اعتبره البعض إهانة
لشخص عمر بن الخطاب، رافضين رؤية من يُجسِّد الخليفة على الشاشة، على إثر

فتوى

رسمية من السعودية، والأزهر الشريف.

حاتم علي في مصر

رحلة حاتم علي في مصر بدأت بتجربة
تاريخية أثارت الكثير من الجدل، لكن عواقبها عادت بالخير للحقل الدرامي المصري ومن
ثم العربي ككل، عندما صدر له مسلسل «الملك فاروق» عام 2007م من تأليف الكاتبة لميس
جابر.

الجدل الذي أحاط بـ«الملك فاروق»
وقت وبعد عرضه سببه أصبح من الكليشيهات المعروفة التي تتناول أي عمل مادته
تاريخية، وهي أن المسلسل مُنحاز، ويُجمّل عصر الملكية، لكنه خرج منتصرًا على مستوى
الصورة الإخراجية التي قدمها حاتم علي، والأداء المتميز لتيم حسن، في أولى تجاربه
في مصر، والتي جعلته اسمًا هامًا مطروحًا بقوة لدى شركات الإنتاج المصرية لاحقًا.

إن أردت أن تقول إن حاتم علي كان
صاحب فضل في مسيرة تيم حسن، كممثل سواء في سوريا أو في مصر، فالحال كذلك مع أكثر
من فنان مصري خلال رحلة المخرج السوري في القاهرة. فهو من أظهر أمير كرارة بطلًا
منفردًا لأول مرة عام 2013 بمسلسل «تحت الأرض»، ومن بعده أصبح اسمه يتصدر بوسترات
مسلسلات رمضان منذ عام 2014 حتى الآن، مما حدا بأمير أن يصفه بالمخرج «

العبقري

».

رحلة حاتم علي داخل مصر لم تدم
طويلًا، أو بالأحرى لم تكن مستقرة، رغم إقامته شبه الدائمة على أراضيها، فبعد
أربعة أعوام كاملة من مسلسل «تحت الأرض» قدَّم مسلسل «حجر جهنم» مع السيناريست
هالة الزغندي، لإياد نصار، وكندة علوش، وشيرين رضا، وأروى جودة، وبعده بعام قدم
“كأنه إمبارح” للكاتبتين مريم نعوم ونجلاء الحديني، بطولة رانيا يوسف،
وأحمد وفيق، ومحمد الشرنوبي، لكن كلا المسلسلين لم يُحققا النجاح المرجو منهما على
المستويين النقدي والجماهيري، رغم أن أبطال كلا المسلسلين لهما باع طويل مع
الجمهور المصري.

لم تشأ الأقدار أن يرحل حاتم علي
دون ترك عمل يذكره الجمهور بكل خير، حين وجد ضالته مع الكاتب عبد الرحيم كمال في
مسلسل يسرد قصتين عاطفيتين متوازيتين على مدار قرن من الزمان، وهو «أهو ده اللي
صار».

أهمية «أهو ده اللي صار» لم تكن في
النجاح الباهر الذي قوبل به على يد رواد مواقع التواصل الاجتماعي، من نشر جُمَلٍ
حوارية من المسلسل، أو عددٍ من مشاهده المقتطعة، لكن في تسكين الأدوار، وهي الميزة
التي تمتع بها حاتم علي طوال مسيرته، كونه لديه القدرة على وضع الممثل الذي يراه
مناسبا في الدور الذي يجعلنا نقول «هذا الدور خُلق لهذا الفنان»، وهو ما اتضح
جليًا في دوري محمد فراج، وعلي الطيب، حيث الأول في شخصية رومانسية حالمة لأول
مرة، والآخر في دور كبير من حيث المساحة، والكوميديا فيه نابعة من رسم الشخصية،
وليس من خلال الإفيهات المُقحمة، وكل ذلك بفضل «العين الثالثة» لمخرج العمل.