في يوم الخامس من يوليوز/ تمّوز لسنة 1962 أعلنت الجزائر نهاية حقبة الاستعمار الفرنسي عقب تفعيل اتفاقية إيفيان، وشروق شمس الحرية والاستقلال بعد أن غابت فجر يوم مضى عليه 132 سنة بأيامها ولياليها كاملة غير منقوصة. لم تكن النهاية بذلك الجمال، بذلك الإشراق، بل كانت برائحة الدماء التي قدمها الجزائريون قربانًا للحرية، مليون ونصف المليون شهيد، ثم بعد ذلك، العديد والعديد من المآسي العالقة بعد حرب التحرير تلك، ملفات لم يتجاوزها الزمان وظلت شاهدة على تلك المأساة، لعل من أهمها : ملف الحركى، الجزائريون الذين دافعوا عن المستعمر في وجه أبناء جلدتهم.

وعقدوا العزم أن تحيا «فرنسا»

في إطار مشروعها الاستعماري التوسعي الكبير لبناء إمبراطورية فرنسية مترامية الأطراف، كانت فرنسا في حاجة ماسة لجنود أكثر، رجال أوفر للسيطرة على مستعمراتها في إفريقيا، وهي التي تعيش تحديات كبيرة كان أبرزها الحرب العالمية الثانية، ولم تكن هنالك استراتيجية ملائمة للوضع الداخلي الجزائري أفضل من تلك التي كانت فرنسا قد استعملتها قبل ذلك في حرب الهند الصينية، دفاعًا عن وجودها الاستعماري في جنوب شرقي آسيا بين عامي 1940 و1954، حيث استعانت حينئذ بعدد من أبناء المنطقة كما حدث في حرب فيتنام لمواجهة حركات التحرر المحلية.

قررت فرنسا تجنيد عدد من الجزائريين الذين كانت تطلق عليهم لقب «المسلمين الفرنسيين» لمحاولة السيطرة على الجزائر، أسباب هذا الاختيار كانت أكثر من أن تحصى، فهم أولًا أهل البلد، يعرفون تضاريسه ومدنه وقراه، ويعرفون تفرعاته الاجتماعية والأسر والعائلات والأفراد، وبذلك سيقومون بتقديم

خدمات استخباراتية

غاية في الأهمية إضافة إلى دورهم العسكري أيضًا، أطلق على هذه المجموعة من المواطنين الذين وضعوا أيديهم في أيدي المستعمر الفرنسي : «الحركى» (بالألف المقصورة، فيما ينطقها الفرنسيون «الحركي Harkis» بالياء).

جاء اسم «الحركى» من الكلمة العربية «الحركة» وتعني الحركات الشعبية التي تم تكوينها داخل المناطق المستعمرة بقرى ومدن الجزائر من طرف المستعمر الفرنسي، خدم هؤلاء «الحركى» في أقسام مختلفة تعمل تحت الإدارة المباشرة للسلطات الاستعمارية الفرنسية، غالبيتهم كانوا مجرد جنود، يأتمرون بأمر جنرالات فرنسا، ويقومون بالأعمال الروتينية التي يقوم بها الجيش الفرنسي، والتي يأتي على رأسها مطاردة وتجفيف منابع الحركات التحررية في الجزائر المطالبة بالاستقلال البلاد، أما ما تبقى من «الحركى» فقد خدموا في القطاعات الشرطية وكان يطلق عليهم اسم «المخازنة» أو في حركات استتباب الأمن أو في الإدارات الفرنسية نفسها.

مع اشتعال حرب تحرير الجزائر سنة 1954، أضحت حاجة فرنسا لعدد أكبر من الحركى أكبر، قفز عدد الحركى من 20 ألفًا سنة 1958 إلى 263 ألفًا بعد 4 سنوات فقط، أي مع نهاية الاستعمار الفرنسي للجزائر سنة 1962. لم تكن عملية الاستقطاب لهؤلاء الحركى مبنية على «التطوع» فقط عكس ما ادعت بعض الأصوات من داخل دائرة القرار السياسي والعسكري الفرنسي.

لكن أسباب التحاق هؤلاء «المسلمين» بالجيش الفرنسي كانت مختلفة ومتنوعة، كما أكد ذلك الجنرال موريس فيفر، القائد الأعلى السابق للحركى بالجزائر، الذي قال إنه باستثناء العاملين الرسميين مع الجيش الفرنسي الذين حاربوا معه في عدد من الجبهات الأخرى كالحرب الهند الصينية والحرب العالمية الثانية، فقد انضم باقي الجزائريون الحركى لصفوف فرنسا إما بسبب الخوف من الجيش الفرنسي نفسه، أو الالتزام بالنظام الفرنسي الذي كان يحكم البلاد لأكثر من قرن، وفي أحيان أخرى الاقتناع الكامل بالفرانكفونية كمبدأ وأسلوب للحياة أو المعارضة الفكرية والإيديولوجية لفكرة الاستقلال على اعتبار أنها ستعيد الجزائر للخلف وتبعده عن الحداثة الأوروبية ثم وفي حالات كثيرة أيضًا، لوجود خصومة أو ثأر مع جبهة التحرير الجزائرية بسبب قتلها أحد أفراد عائلة الجندي نفسه من الذين كانوا حركى قبله.

ومع اشتعال نار الحرب في الجزائر، بدأ الحركى يلعبون أدوارًا أهم وأكبر، فقد أصبحوا بجانب عملهم العسكري والاستخباراتي يقومون ب

أدوار البروباغندا

لصالح الجيش الفرنسي، من أجل إقناع باقي الشعب الجزائري بأن قوات الاستعمار تشن حربًا «عادلة» ضد «الإرهاب» الذي تقوم به جبهة التحرير الجزائرية، وأن ما يتم من عمليات التعذيب الوحشي والانتقام الجماعي من المدنيين المتعاونين مع المقاومين الجزائريين وعمليات الإعدام التي لا تحترم المحاكمات العادلة بالحرف وإبادة القرى المتعاونة مع جبهة التحرير ما هي إلى «ضرورة مرّة» لمواجهة الإرهابيين من الجزائريين الخارجين عن القانون.

عمدت السلطات الفرنسية إلى إبراز وجود جنود مسلمين يقاتلون معها، حتى تظهر بمظهر السلطة الشرعية التي تحارب مجموعة إرهابيين خارجين على القانون، والدليل وجود جزائريين يقاتلون بأنفسهم معها لوضع حد لهذا «الإجرام»، كما أنها حرصت على مشاركة هؤلاء الحركى في بعض عمليات التعذيب وأحيانًا الاغتصاب حتى تتأكد من قطع أي روابط، دينية كانت أو قبلية عرقية، تربط بين الحركى وباقي أطياف الشعب الجزائري خصوصًا جبهة التحرير والمتعاطفين معها.

أن تكون خائنًا في الجزائر ومنبوذًا في فرنسا

مع توصل صناع القرار في فرنسا- وعلى رأسهم الجنرال ديغول- لقناعة كاملة بأن البقاء في الجزائر لم يعد مربحًا لا سياسيًا واقتصاديًا ولا عسكريًا لبلادهم، بدأ التحرك سريعًا لإنهاء هذه الفترة الاستعمارية، وكان ذلك بتوقيع اتفاقية إيفيان في 18 مارس/ آذار 1962 مع جبهة التحرير الجزائرية، خروج فرنسا من الجزائر لم يكن محل إجماع فرنسي، فقد كان مرفوضًا من طرف الأقدام السود (هم المستوطنون الفرنسيون الذين كانوا يعيشون في الجزائر أثناء الاستعمار الفرنسي) الذين عادوا سريعًا لبلادهم ولجماعات الحركى، الذين لم يكونوا يعلمون أن الطريقة التي ستتخلى عنهم بها فرنسا ستكون بتلك القسوة والنكران، وأنها ستسلمهم لقمة سائغة لأعدائهم من بني وطنهم.

مع بداية وصول الإشارات الأولى عن قرب الحسم في قرار انسحاب فرنسا في الجزائر، أكد عدد من القيادات العسكرية الفرنسية وعلى رأسها القيادات التي كانت على تواصل يومي مع هؤلاء المجندين الجزائريين أن فرنسا لن تتخلى عنهم، وأنهم فرنسيون سيعاملون معاملة باقي الجنود، معاملة تهدف إلى الحفاظ على حياتهم وعدم تعريضهم هم وأسرهم لخطر الانتقام، وأن من سيختار منهم البقاء في الجزائر لن يترك وحيدًا، إذ تعتزم فرنسا الحفاظ على تمثيلية عسكرية تسهر على حفظ الأمن والتأكد من أن جبهة التحرير الجزائرية تحترم اتفاق وقف إطلاق النار، كما ورد نصًا في وثيقة إيفيان.


كل هذه التطمينات كانت تتعارض بشكل مباشر مع واقع الحال، ومع التطورات الميدانية التي تعرفها الساحة الجزائرية، بداية باستثناء هؤلاء الحركى من حضور أي اتفاقيات أو اجتماعات عقدتها فرنسا مع ممثلي جبهة التحرير الجزائرية، وصولًا إلى تجريدهم من سلاحهم وتسريحهم من الجيش مع صرف مكافآت نهاية الخدمة للجنود المسرحين، مكافأة رفضتها فئة عريضة منهم على اعتبار أنها مجرد رشوة ذات ثمن بخس لإسكات صوت الاعتراض على الخيانة التي تعرض له هؤلاء المقاتلون الجزائريون الذين حملوا سلاح فرنسا وتوشحوا برايتها ودافعوا عن جمهوريتها.

مباشرة بعد رحيل الجيش الفرنسي بدأت عمليات التصفيات الانتقامية من طرف جبهة التحرير الجزائرية تجاه الحركى، الجبهة اعتبرت أن الوقت قد حان للانتقام لدم الشهداء المليون ونصف المليون الذين قتلتهم فرنسا بتواطؤ مع الحركي من المخبرين والجنود والمخازنة، انتشرت جثث الحركى في كل مكان، وحتى كتابة هذه السطور، ليس هنالك أي أرقام دقيقة عن عدد أولئك الذي وصلتهم نار الثأر، لكن الإحصائيات تقول إنه تمت تصفية ما بين 30 و150 ألف حركى خلال هذه الحركة التطهيرية.

لم يكن الموت هو المصير الوحيد للحركى، فقد تمكن 21 ألفًا منهم من العبور إلى فرنسا، متجاوزين بذلك الأوامر الصارمة للقيادات العسكرية بعدم السماح للحركى باجتياح فرنسا، حيث كان ديغول يعتبر أنه لا فائدة في خوض حرب جديدة في الجزائر من أجل «مواطنين فرنسيين سابقين»، لكن حتى هؤلاء العابرين عاشوا أوضاعًا كانت في أحيان كثيرة، أقرب إلى الموت وأكثر سوادًا منه.

الحياة في فرنسا: رحلة المرض والعنصرية والعار

السياسيون قاموا بكارثة في حقنا، سواء السياسيون اليمينيون أو اليساريون، كنا نظن أننا فرنسيون، اعتقادنا ذلك على كل حال، لكن الواقع كان مختلفًا، ابني جاء يومًا ما يبكي، لأنه سمع في المدرسة أن أباه كان خائنًا، كان الجميع ينظر إلينا هكذا، هناك في الجزائر وهنا في فرنسا، لكنني وعلى كل حال لست نادمًا على اختياري، وليس على فرنسا أن تخجل مما فعلت في الجزائر، هناك أشياء جيدة قمنا بها والتاريخ سيذكرها






مسعود الغرفي

/ حركي سابق

بعد فرارهم من الموت شبه المؤكد هنالك في الجزائر، وبعد أن أظهرت فرنسا بوضوح تام عدم رغبتها في تحمل تكاليف حمايتهم، وجد الحركى الفارون «المحظوظون» أنفسهم داخل معسكرات مغلقة خصصت سابقًا لليهود وللفيتناميين الذين وقفوا مع فرنسا في معركة «ديان بيان فو»، كانت الأوضاع مزرية جدًا، افتقدت هذه المعسكرات لأبسط شروط الحياة الآدمية المقبولة كالماء (سواء الصالح للشرب أو ماء الاغتسال) والكهرباء والتدفئة، كانت هذه الأماكن مخصصة في بادئ الأمر للأحصنة، إلا أن مالكيها خافوا نفوقها بسبب البرد الشديد خصوصًا في فصل الشتاء.

تحكي الكاتبة والمؤرخة «فاطمة بسناتشي لانكو»، ابنة أحد الحركى عن هذه الفترة حيث تقول: «كانت هنالك أمهات يذبن الثلج في أفواههن حتى يتحصلن على بعض الماء ويتمكنَّ من تنظيف أبنائهن الرضع، في أحيان كثيرة وبسبب هذه الظروف والطقوس المناخية الصعبة ينتهي الحال بالرضيع في قبر صغير بعد أن يفارق الحياة.


عاش الحركى في هذه المعسكرات حتى إغلاقها سنة 1994، رغم اعتراف فرنسا بخدمتهم لها سنة 1974، ورغم الأحداث الكثيرة التي عرفتها فترة إقامتهم في معسكراتهم من حراك ثوري وصل في بعض الأحيان إلى أخذ رهائن من الموظفين الذين يشتغلون في هذه الأمكنة للضغط على السلطات الفرنسية، فإن مطالبهم بالاعتراف بهم، ومساعدتهم على الاندماج داخل المجتمع الفرنسي، ومنحهم فرص التعليم والعمل والمواطنة الكاملة قبل ذلك وبعده، بقيت مطالب لا تبرح رفوف الطرف الآخر.

ظل مجتمع الحركي منغلقًا على نفسه، فهو لم يتمكن من الاندماج مع المجتمع الفرنسي الذي كان ينظر إلى المقاتلين السابقين في جيش بلاده على أنهم «عرب» وإن تمنوا وتبنوا هوية عكس ذلك ، فيما كان منبوذًا وسط الجاليات العربية والإسلامية التي تعيش في فرنسا، ليست فقط الجالية الجزائرية، بل حتى المغربية والتونسية، تعارف الجميع على أن «الحركي = الخائن» وأن كلمة ابن الحركي هي سبّة في ذاتها.

في ظل كل هذا، نشأ جيل جديد من أبناء الحركي، الذين ولد غالبيتهم في فرنسا، حيث إنهم لم يعيشوا حرب تحرير الجزائر، ولم يتمكنوا من التوصل إلى النسخة الكاملة للأحداث، على الأقل من وجهة نظر آبائهم الذين حاربوا مع البلد الذي ولدوا وعاشوا فيه ولم يعرفوا بلدًا سواه. الآباء الذي غرقوا في بحر عميق من الصمت، بسبب الحزن والإحساس بالخذلان أحيانًا، أو بسبب العار والخزي في أحيان أخرى.

في كتابها «أبي ذلك الحركي»، تتحدث دليلة كرشوش عن هذه العلاقة الصامتة/الغاضبة التي نشأت بين جيل الحركي وأبنائهم، حيث تقول : «أنا ابنة حركي، هذه الكلمة تعني ببساطة الخزي والعار، خلال حرب الجزائر، أبي «الجزائري» حمل السلاح ووقف مع الجيش الفرنسي في وجه جبهة التحرير الجزائرية، كيف يمكننا أن نفضل العبودية والاحتلال على الحرية والاستقلال؟ لا أفهم هذا، أبي لم يشرح لي ذلك أبدًا» ثم تواصل:

«دفع أبي ثمن ذلك باهظًا جدًا، كان يعتبر منشقًا في الجزائر ومنبوذًا في فرنسا، عاش مستبعدًا مطرودًا، بسبب خطأ في الاختيار، خطأ اعتبره الطرفان على تناقضهما : خيانة، في أحد الأيام التقيت مع أحد الجزائريين وسألني سؤالًا صادمًا: «هل أنت فخورة بأبيك الذي خان بلاده وباعها ؟ كنت تحت الصدمة، تمتمت ببعض الكلمات غير المفهومة وتوجهت بعدها إلى الحمام للبكاء»

قصص كثيرة أخرى عجت بها صفحات الكتب التي كتبها «أبناء الحركى» بحثًا عن إنصاف آبائهم تارة، وعن أجوبة عن أسئلة الماضي تارة أخرى، وعجت بها التقارير والتحقيقات و الروبورتاجات التي تحدثت عن معاناة هذا الجيل الجديد، الذي يعاني من العنصرية في فرنسا لأنه «عربي قذر»، وترفض الجزائر استقباله أو العفو عن ماضي أبيه لأن كما قال أحمد بن بلة، الرئيس الجزائري السابق «العرق دساس»، وقبل هذا وذلك، لأن أجيال الحركى، من الأجداد إلى الأحفاد تحمل ماضٍ دامٍ مؤلم لحرب دامية ما زال شبحها حاضرًا حتى اليوم بين باريس والجزائر العاصمة.