لم يكن نجيب محفوظ روائيًّا يكتب الأدب لأجل الأدب، بل كان معظم وقته يقرأ في التاريخ والفلسفة، والعلوم الطبيعية، وقد اتخذ الأدب نافذة لبث أفكاره، ورؤيته للكون والتاريخ وطبائع العمران البشري، ظهر ذلك جليًّا في ملحمة الحرافيش، حيث تعتبر هذه الرواية معبرة عن فلسفة التاريخ من وجهة نظره، وربما نلمس فيها تأثرًا واضحًا بابن خلدون، حيث دوران التاريخ وتكراره، الإيمان بالتقدم الأخلاقي المؤيد بالقوة البشرية (العصبة) وتدرجه.


فلسفة التاريخ عند نجيب محفوظ

عاشور الناجي، الشخصية الرئيسية في ملحمة الحرافيش، التي تمثل مرحلة مزدهرة من مراحل تاريخ الحارة، بما جسدته من القوة والعدل والأخلاق، وشكَّلته عوامل مختلفة؛ تربية الشيخ عفرة زيدان له على الأخلاق والقرآن، وخلوته في الصحراء فترة طويلة، نمت فيها قوته الروحية والتأملية، فجمع بين قوة الجسد وقوة الروح والعقل والأخلاق، وهي الصورة المثلى للفتوة كما يراه نجيب محفوظ.

وتمثَّل دستوره كفتوة في خاتمة ملحمته:

وكما توقع الحرافيش، فقد أقام فتونته على أصول لم تعرف من قبل، رجع إلى عمله الأولسائق كارو





ولزم مسكنه تحت الأرض، كما ألزم كلَّ تابع من أتباعه بعمل يترزق منه، وبذلك محق البلطجة محقًّا، ولم يفرض الإتاوة إلا على الأعيان والقادرين؛ لينفقها على الفقراء والعاجزين.

وستظل تلك الخاتمة هي محور تقييم مراحل فتوات (الحارة) على مر تاريخها.

وعاشور الناجي كان له هفوات وسقطات مثَّلت محورًا مهمًّا في قراءة الشخصية، مما جعلها شخصية واقعية جدًّا معبرة عن الواقع التاريخي الإنساني، وتتعد الرؤى في قراءتها وتأويلها حسب حال كل فتوة من القوة والضعف، والأخلاق والتهتك، والعمل والبطالة، وارتباط الأجيال بها أو انقطاعهم عنها. ويختفي عاشور فجأة من مسرح الأحداث، تاركًا خلفه التجربة شبه مكتملة، ومفسحًا المجال لقراءتها حسب الزمان والمكان.

شمس الدين الناجي: الخلف القوي القلق، مثال الصراع الذي يتجسد في نفس الرجل الصالح، الذي يضعف أحيانًا لكن تغلب نفسه التقية ضعفه وهنَّاته القليلة، وهو لم يحظَ بنفس التجربة الروحية التي حظي بها أبوه، وهي نقطة محورية ومهمة في شخصيات الفتوات على طول خط الحكايات في الملحمة، وصورة نفسه هي صورة فترة فتوته.

وفي عهده بدأ هاجس احتذاء فترات التاريخ المزدهرة، فتحول عاشور الناجي في عهده إلى دستور بعد أن كان واقعًا معاشًا، تخشى أمه أن ترد: «الفتونة إلى عهد البلطجة من جديد». وهو يقول لها بحرارة: «ليس من اليسير النكوص عن تراث الناجي». ونجده في حوار مع أمه بعد فوزه بالفتونة يقول لها: «ما أشقّ أن يكون مثلي خليفة لأبي» – تلك الكلمة التي تقال عقب كل عظيم راحل، كان سيد زمانه بسيرته ومسيرته – ومن هنا يبدأ الحديث عن التراث، ومن هنا ستبدأ قراءة العهد القديم بعيون الأجيال، وتتجلى إرهاصات التأويل للعهد القديم في حوراه وأمه بعد مجيء رسول الأعيان إليه، يطلب منه أن يتخفف من وطأة الفقر، وأن يقبل بعض هدايا الأغنياء.

وبعد رحيل الرسول (شيخ الحارة)، تقول له أمه – التي كانت تحن لعهد الرخاء وطيب العيش ونبذ التقشف، وهي امرأة لم تحظ بتربية أخلاقية أو روحية، فقد جاءت من البوظة (الخمارة)، ولكنها رضخت بقوة العشرة لتعاليم عاشور، وهنا تظهر قوة العامل الأخلاقي والروحي المؤثر من وجهة نظر محفوظ، في كبح جماح الشهوات والرغبات- مهونةً من أمر الهدايا: إنَّ عاشور لم يتردد عن وضع يده على دار البنان الخالية! فقال غاضبًا: العبرة بالخاتمة! فقالت: «بل أعطانا في كل حال مثلًا يحتذى].. فقال بازدراء: [سيجيء زمان نلصق فيه بعاشور العظيم كل خلجة ضعف تضطرب في نفوسنا!».

في هذا الحوار المكثف العميق تظهر بدايات فكرة التأويل لتراث السابقين وتجاربهم، والنزاع النفسي بين طهارتها ونقائها ونجاحها، وبين نفوس الأجيال التالية لها عندما يقعون في مأزق أخلاقي في ممارستهم الحياتية مهما اختلفت، وكيف ينزع بعضهم لتأويل سيرة سابقيهم إذا كانت تحمل لهم رمزية أخلاقية حاكمة، إن لم يستطيعوا التخلص من وطأتها لما تمثله من قداسة ونقاء ونجاح! وعهد شمس الدين باضطراباته القليلة يمثل نموذج بداية النقصان بعد التمام، التي يتبناها محفوظ على مدار سير الملحمة، كخط جبري لمسيرة التاريخ!

سليمان الناجي: بهذا الفتوة الثالث من آل الناجي تبدأ مرحلة أخرى من مراحل الملحمة، يبدأ الرجل شيئًا فشيئًا في التنازل عن مبادئ العهد القديم، ويتزوج بثرية من بنات الأعيان، ويصادق الأثرياء، وتصل يده لأموال الحرافيش، لكنه ما زال يعطيهم ولا يبخل عليهم، وهو بين السقطة والأخرى يذكر نفسه بعهد الناجي، لكن اسم الناجي يقل ذكره هنا، فتكثر السقطات ويغيب ذكر عهد الناجي مع الوقت، وتتسع خرقة تأويل تراث الناجي.

فيقول الوجهاء لسليمان الناجي: الفتوة ورجاله من الأغنياء أو هذا ما ينبغي أن يكون! فقال معترضًا: كلَّا، ما فعل ذلك أبي ولا جدي، فقال صاحب الوكالة: «لولا إقامة جدك في دار البنان ما عرفت الحارة معنى الفلاح»، فقال بإصرار: كان فتوة أعظم منه وجيهًا.. فقال صاحب الوكالة: «خُلِقَ الفتوة ليكون وجيهًا وليلعنِّي الله إن كنت كاذبًا أو مغرضًا فيما أقول».

في هذا الحوار السريع، يظهر أنَّ أفق الرؤية لعهد الناجي تختلف وتتعدد، وكلٌّ يستعمل قدرته على التأويل في التبرير لأفعاله!

لكن يظهر مستوى آخر لرؤية تراث الناجي، بين جيلين مختلفين، يتجلى في حوار سليمان وابنه بكر، يقول بكر: «ولكن جدنا عاشور الناجي كان يحب الحياة الفاخرة»، فسأله بغضب: «من أنت لكي تفهم المعلم عاشور؟!»، فقال بكر: هكذا قيل يا أبي، فقال: «لا يفهم عاشور إلا من اشتعل قلبه بالشرارة المقدسة».

هنا في هذا المشهد السريع جدًّا يظهر الصراع بين الأجيال على فهم التراث القديم، تراث الناجي العظيم، ونرى من خلاله كيف أنَّ النظرة للتراث تختلف في الطبقة الواحدة، وتختلف أيضًا في الطبقات التالية اختلافًا أكثر عمقًا وجرأة، ومع اختلال ميزان العمل بالعهد وفق ذلك التراث، تنزع القداسة من قلوب الأجيال نحوه شيئًا فشيئًا، وهو ما ينذر بأنَّ الوضع سيسير إلى الأسوأ، وهو ما يتجلى في الملاحم التالية.

ومع مأساة ابني سليمان الناجي، التي تصارعا فيها حول شبهة أخلاقية نسائية، يظهر (الحرافيش) ظهورًا مهمًّا في مجرى السرد (جرت فضيحة آل سليمان الناجي على كل لسان، وترَّحم الحرافيش على عهد الناجي القديم، واعتبروا ما نزل بسليمان وابنيه جزاء عادلًا على انحرافه وخيانته، وقالوا:

إنَّ عاشور كان وليًّا، أيَّده الله بالحلم والنجاة، وأكرمه حيًّا وميِّتا، أما الكارهون فقالوا إنها ذرية داعرة متسلسلة من أصل داعر لم يكن إلا لصًّا فاسقًا)، ومع مرور الزمن على الحارة، لم يعد عاشور الناجي مجرد فتوة عادل، بل إنَّ الأعيان يرونه منهم، والحرافيش يرونه وليًّا، والكارهون له يرونه لصًّا، ثلاثة أفق للنظر والتأويل لتاريخ الناجي في وقت غير طويل على انقضاء فترة فتوته ورحيله دون سبب!

هكذا إذن اتسعت أفق الرؤية التأويلية، وبذهاب العدل وخيبة الممارسة، نزعت القداسة عن الرمز الملهم، وظهر هذا التناقض الصارخ في رؤية التاريخ!

وبعد ذهاب سليمان الناجي، بدأ عهد الصراع على (الفتوة) لذاتها، سلسلة متصلة من الضياع والقهر، وحب الذات، وأحيانًا كانت تعود لأحد من آل الناجي، لكنه يخيِّب آمال الحرافيش، وعمر هذا الصراع يبدأ من الحكاية الرابعة وحتى منتصف الحكاية التاسعة تقريبًا، ويُظْهر نجيب ببراعة من خلال قدرته الإبداعية في السرد، كيف يتحول الإنسان في فترات هذا الصراع إلى ذاته ولا يخرج منها، حتى يختفي تمامًا بداخلها، وكذلك يوضح وطأة التاريخ على نفوس الحرافيش عندما تخيب آمالهم في تحسين الأوضاع، فيلجأون إلى التشكيك في عهد الناجي حتى تموت في نفوسهم آخر عوامل اليقظة المتبقية التي تحثهم على البقاء والأمل.

ويئس الحرافيش وتساءلوا: لم لا نشك في الماضي ليرتاح بالنا؟


رؤية محفوظ لإصلاح الشعوب والقادة

الفتوات الساقطون يتخففون من وطأة الحكم الأخلاقي التي يفرضها العهد القديم بالتشكيك فيه، و(الحرافيش) يودون رفع قداسة هذا التاريخ عن قلوبهم، ليرتاحوا من بواعث الحلم، وانتظار الفرج الموعود!)، ويبدأ التاريخ يرتد ردة خلفية، لكنها ردَّة تدريجية، تتجلى عظمة تجسيدها الرمزي في اسم (فتح الباب) بطل الحكاية التاسعة في ملحمة الحرافيش.

وفتح الباب شخصية ضعيفة البنيان قوية الروح، رمزية الاسم توحي ببدء الانفراجة على يديه، تسلسل بالأمل لقلوب الحرافيش وهمس في روحهم وعقولهم بعهد الناجي:

همسة تدعو النائم إلى أن يستيقظ، همسة تؤكد أنَّ المخازن مليئة بالخير، همسة تلعن الجشع، الجشع عدو الإنسان لا القحط، همسة تتساءل أليست المغامرة أفضل من الموت جوعًا؟ وهمسة تسأل ماذا يمكن أن يقف في وجه الكثرة إذا اندفعت، وهمسة تتحدى، كيف تترددون ومعكم عاشور الناجي؟

في تلك المقطوعة السردية السحرية، يبث فتح الباب إلى (الحرافيش) طرق الخلاص، يضع أيديهم على قوة الروح والكثرة، يدفع بروح (الناجي)، يستعمل أمجاد التاريخ القديم في فتح الأقفال التي وضعها ظلم الفتوات على قلوب الحرافيش حتى يئسوا، إنَّه يبعث فيهم معنى أنهم بشر يملكون القدرة على التغيير.

إنَّه (خطاب روحي خالص) وتأتي لحظة الوثوب على سماحة الناجي، الفتوة الظالم الجشع، وينتصر الحرافيش، وينتصر بهم فتح الباب، ولكن ظل معظم أعوان الفتوة الجديد من رجال سماحة، ولكن الفتوة له سلطة روحية تستطيع أن تحرك الحرافيش مرة أخرى إذا لزم الأمر، ولكن يمنعه أعوانه من الوصول للحرافيش لمَّا احتدم الخلاف بينه وبينهم حين طالبهم بالعودة لعهد الناجي، ولكنهم طالبوه بالتدريج في العودة.

فهددهم بالتخلي عن الفتونة، ولكنهم خشوا من (هَبَّة) الحرافيش مرة أخرى، فعزلوه بداعي المرض تارة وتارة بالتعبد، إلى أن وجدوه ميتًّا.

من هنا يتأكد أنَّ نجيب لا يؤمن بقدرة القوة الروحية والأفكار المجردة على التغيير وحدها، بل لابد من قوة مادية تحفظ الأفكار وتضمن العدل، وتقهر المتجبرين، ولكنه يبدأ من هنا فيقول، إنَّ إصلاح الحارة يبدأ من وجود قائد مُلْهِم قوي الروح والبنيان ويتوجه (للحرافيش).. الحرافيش هم القوة الحقيقية!

وترجع الفتونة لعهدها القديم، ويمر الزمن ويعود الحرافيش لأوكارهم، ويبحثون عن الخبز يتقون به الجوع، ويتزوجون زواجًا لا غاية منه إلا سد باب الرغبة، وإنجاب أولاد يعينونهم على تحمل شقائهم اليوميّ، لا حديث عن الناجي لا حديث عن الحلم والعهد، الذاتية والأنا مسيطرة على السرد في الملحمة العاشرة، كتجسيد لحالة الحرافيش المتكررة في ظل الفتوات الظالمين، وهي نمطية سردية تتكرر في طيَّات الحكايات من الرابعة إلى الثامنة كثيرًا كثيرًا.

آل الناجي أنفسهم إما يبحثون عن تحقيق الذات بالتجارة والتفاني فيها، وإما فقراء في زمرة الحرافيش يكدون في سبيل العيش الذي يبقيهم على قيد الحياة، وتلك سمة أهل الحارة والحرافيش في فترات الصراع والقهر!


عاشور وارتداد التاريخ وسؤالات الإصلاح

هكذا انتهت سيرة فتح الباب وجهاده، مثل صحوة قصيرة مشرقة في يوم مُلبَّد بالغيوم، وذات صباح عثر عليه جثة مهشمة في أسفل المئذنة المجنونة.. هكذا انتهت سيرة فتح الباب وجهاده.

ويدور الزمان حتى يبدأ من منتصف الحكاية العاشرة بحفيد من أحفاد أحفاد الناجي، يحمل نفس اسمه، قوي البنيان مثله تمامًا، وكذلك ينشأ في جو كالذي عاش فيه، وهو عاشور الصغير، [الذي عمل غنّامًا يسرح بالغنم في الخلاء، ويكثر من التأمل –العامل الروحي في تكوين الشخصية]، مشبع بحكايات الناجي الجد العظيم التي كانت تحكيها لها (سحر الداية) حتى ملأت كيانه –دور التاريخ في تكوين الوجدان والأفكار.

فاختلطت حكاياتها بتأمله وأخلاقه وما تلقَّاه في الكُتَّاب «ودأب على قضاء وقت راحته في الخلاء، حيث لجأ عاشور صاحب العهد وتلقَّى النِّعَم)، (وفي الليل دأب على التسلسل إلى ساحة التكية، يتلفع بالظلام ويستضيء بضوء النجوم»، شخصية قلقة، تفكر في غيرها، كثيرة الأسئلة، أسئلة معبرة عن همٍّ كوني، مقابلة تمامًا للذاتية، مغايرة تمامًا لعموم أهل الحارة، فيتساءل ويحاكم الأفكار ألا يبالي رجال الله بما يقع لخلق الله؟ متى إذن يفتحون الباب –باب التكية- ومتى يهدمون الأسوار؟ يريد أن يسألهم لماذا ارتكب فائز جرائمه؟ حتى متى تشقى حارتنا وتُمْتَهن؟ لمَ ينعم الأنانيون والمجرمون؟ لم يجهض الطيبون والمحبون؟ لم يغط في النوم الحرافيش؟

إنَّه يتساءل ويبحث عن إجابة، القلق لا يتركه أن يعيش عيشة الغافلين، ورويدًا رويدًا يبدأ في إجابة أسئلته:

ولكنه تساءل في سره عمَّا كان ينقصه-جده عاشور





عمَّا أفشل سعيه النبيل عقب وفاته أو عقب وفاة شمس الدين. ما دام يوجد خطأ فلابد أن يوجد صواب، وإذا وجد الصواب مرة فيمكن أن يوجد مرة أخرى، وإذا كان قد انتكس بعد وجوده فيمكن أن نضمن له حياة لا تعرف الانتكاسة!

بدأ عاشور الحفيد يتلمس الخلل، يحاكم العهد القديم بموضوعية، لا ينظر إليه برومانسية غفلة، ولا يقاطعه قطيعة لا صلة بعدها، إنَّه يريد الحق، ويتلمس السبيل الصحيح. لكنه متحير، من أين يبدأ؟ وبيد من يكون التغيير؟ ألابد أن يرجع عاشور الناجي بنفسه لكي يغيِّر؟ أم أنَّ هناك سبيلًا آخر «ولقد رأى في منامه من اعتقد أنَّه عاشور الناجي، ورغم أنَّه كان يبتسم فقد سأله بنبرة عتاب واضحة.. بيدي أم بيدك؟ وكررها مرتين، فوجد عاشور نفسه يجيبه وكأنَّما أدرك ما يسأل عنه: بيدي!».

يفيق من نومه ويذهب بالسؤال والإجابة للحرافيش في السوق ويسألهم:

ماذا يرجع حارتنا إلى عهدها السعيد؟ وأجاب أكثر من صوت: أن يرجع عاشور الناجي! فتساءل باسمًا: هل يرجع الموتى؟ فأجاب أحدهم مقهقهًا: نعم، فقال بثبات: لا يحيا إلا الأحياء، فيقولون: نحن أحياء ولكن لا حياة لنا، فسأل: ماذا ينقصكم؟ يردون: الرغيف! فقال عاشور: بل القوة، فيقولون: بل الرغيف أسهل منالًا فيقول: كلَّا!

حوار سريع يبحث فيه عن السبيل إلى العهد القديم بروح جديدة، وكذلك يبحث عن ضمانة عدم النكوص مرة أخرى «فسأله صوت: إنَّك قوي عملاق فهل تطمح إلى الفتونة؟ وقال آخر: ثمَّ تنقلب كما انقلب وحيد وجلال وسماحة! وقال ثالث: أو تُقْتَل كما قُتِل فتح الباب!» هواجس من المصائر المتكررة في التاريخ، ولكنَّ عاشور يتدخل بنفس متألقة وعقل متفكر عارف «حتى لو صرت فتوة صالحًا فما يجدي ذلك؟.. نسعد في ظلك! قال آخر: لن تكون صالحًا أكثر من ساعة. فقال عاشور حتى لو سعدتم في ظلي فماذا بعدي؟ ترجع ريمة لعادتها القديم، وقال رجل لا ثقة لنا في أحد، ولا فيك أنت! وقال عاشور: لكنكم تثقون في أنفسكم! ويقولون: وما قيمة أنفسنا؟!»، إنَّه يرد ثقتهم بأنفسهم، ويقول إنَّ الضمانة الوحيدة لاعتدال ميزان الفتوة هي يقظة الحرافيش لأفعال فتوتهم!

وتجيء الفرصة بعد فترة من الحوار والجدال، ويثب عاشور الناجي على الفتونة مرة أخرى، ومعه الحرافيش يقفون «حول فتوتهم في تفانٍ وامتثال، وانتصب بينهم مثل البناء الشامخ، توحي نظرة عينيه بالنباء لا بالهدم والتخريب»، هكذا إذن يرى نجيب محفوظ حركات التغيير، حركة مشبعة بالروح المعنوية والأفكار والتاريخ والأيديولوجيا، يبثها قائد في نفوس الجماهير، ومعه الحرافيش إذ يرى أنَّ القوة الحقيقة هي إصلاح الحرافيش، إذ لا يكفي صلاح القائد وحده، ومع ذلك هو لا يجور على ميزان القوى المحركة للمجتمع، فهو يعي أنَّ وجود الأعيان مهم جدًّا لضمان قوة المجتمع اقتصاديًّا، والركون إليهم مذلة.

كذلك الحرافيش قوة المجتمع الروحية والاجتماعية، ولكن سماع كل أقوالهم يعني اختلال ميزان الفتونة فيقول عاشور: «إنِّي أحب العدل أكثر مما أحب الحرافيش، وأكثر مما أكره الأعيان». ووضع دستورًا عمليًّا للحرافيش لكي تستمر قوتهم عبر الزمن، فلا يستكينوا ولا تنقضي أحلامهم بانقضاء آجالهم «وحتَّم عاشور على الحرافيش أمرين، أن يدربوا أبناءهم على الفتونة حتى لا تهن قوتهم يومًا فيتسلط عليهم وغد أو مغامر، وأن يتعيَّش كل منهم من حرفة أو عمل يقيمه لهم من الإتاوات».

وهكذا دار التاريخ دورته التدريجية وعاد من خلال استلهام العهد القديم متلافيًا أخطاءه وسقطاته، وواضعًا بذرة لاستمرارية الدورة التقدمية الحضارية الأخلاقية، من خلال فتوة قوي عادل، وحرافيش متيقظة عاملة واعية بتاريخها!

تنتهي الملحمة بهذه الرؤية الواقعية الإصلاحية من خلال تأثر نجيب بحركة التاريخ الجبرية التي تبناها من أول الحكاية، التي توحي بتأثره برؤية ابن خلدون للتاريخ، وصوَّر من خلال روح استقرائية لتاريخ الأمم والشعوب طبيعة إصلاح الأوضاع الاجتماعية والسياسية، بروح بناءة موضوعية، تنظر للماضي نظرة قداسة لا تمنع من نقده، واستعماله في بث روح المجد في نفوس الأجيال، لتحريكهم نحو الإصلاح، مما يوحي بفكرة أهمية الأيديولوجيا للعقول والقلوب، وأنَّ التنظير قبل العمل، تنظير قائم على قراءة واقع الحارة، بشرط ألا يطول، وأن يكون واقعيًّا، ومن خلال نظرته الإصلاحية نفهم أنَّه ينظر للإصلاح نظرة موازية ثنائية، فلابد من قائد صالح وأتباع صالحين في نفس الوقت، لا تسبق هذه تلك!