فرض انتخاب القيادي العسكري والأسير المحرر يحيى السنوار رئيسًا للمكتب السياسي لحركة حماس في غزة، نفسه كحدث مهم على المشهد الفلسطيني والإقليمي الراهن، كونه ذا دلالة على تمدد الجناح العسكري للحركة وغلبته على المكون السياسي، الذي مثّله لسنوات طويلة رئيس المكتب السياسي الذي يوشك على مغادرة منصبه خالد مشعل، ونائباه إسماعيل هنية وموسى أبو مرزوق.


التنظيم السياسي

في البداية يجدر بنا إلقاء نظرة على الهيكل التنظيمي السياسي لحركة حماس، وهو أمر لا تفصح الحركة نفسها عن معلومات صريحة مؤكدة بشأنه، لكن كتابات المتابعين وذوي الصلة بالشأن ترجح أن البناء السياسي للحركة يتكون من مجلس شورى عام يضم 45 عضوًا منتخبًا وبعض المُعينين، ومكتب سياسي مركزي يضم 19 عضوًا بمن فيهم رئيس المكتب، ومجلس الشورى هو الذي يتولى انتخاب أعضاء المكتب السياسي.

لكن بسبب ظروف الاحتلال والانقطاع الجغرافي بين الداخل والشتات الفلسطيني في الخارج، وفي الداخل نفسه بين قطاع غزة والضفة الغربية، تم تقسيم البناء السياسي للحركة إلى ثلاثة دوائر فرعية، هي غزة والضفة والخارج، ولكل منها مجلس شورى فرعي ومكتب سياسي يتألف من 15 عضوًا، حيث يشارك كل مكتب سياسي منهم بستة أعضاء في المكتب السياسي المركزي.

كما أفرزت ظروف الاحتلال والانقطاع الجغرافي وضعًا أصبحت فيه حماس الضفة مهمشة نوعًا ما، بسبب تقييد حركتها هناك، فالسلطة الفلسطينية التي لا توفر جهدًا للتضييق على الحركة هناك، ومن ثم أصبحت قيادة حماس الخارج وقيادة حماس غزة هما الجناحان الرئيسيان للحركة.


بين الداخل والخارج

يمكن القول إنه حتى وقت قريب كانت

قيادة حماس الخارج

هي مركز الثقل في الحركة، فكانت هي المسئولة عن الاتصالات الدولية والدبلوماسية للحركة، وتأمين الجزء الأكبر من الاحتياجات المالية لها، خاصة مع الحصار المفروض على غزة والقيود المفروضة على الحركة منها وإليها.

وفي الخارج يقيم عدد من أبرز رموز الحركة، مثل رئيس المكتب السياسي خالد مشعل، ونائبه موسى أبو مرزوق، أحد المرشحين بقوة لتولي رئاسة المكتب السياسي، وبالتبعية كانت قيادة حماس الخارج تشكل مركز الثقل في المكتب السياسي المركزي، لكن منذ سنوات بدأ مركز ثقل الحركة ينتقل إلى حماس الداخل، وبالتحديد حماس غزة.

ومن هنا يكتسب حدث انتخاب السنوار رئيسًا للمكتب السياسي داخل قطاع غزة أهميته، فقد بات هذا المنصب يوازي في وزنه وزن رئيس المكتب السياسي المركزي، وهذا من الناحية السياسية طبعًا لا من الناحية التنظيمية، ويزداد هذا الملمح وضوحًا مع وجود شخصية قوية تحظى بقبول كبير في صفوف الحركة وجناحها العسكري مثل السنوار على رأس قيادة الحركة في غزة.


الأجنحة المتنافسة

هناك

ثلاثة أجنحة

تتنافس فيما بينها على قيادة حركة حماس بشكل عام؛ الأول جناح اشتُهر بالاعتدال وبعلاقته الوثيقة بقطر وانفتاحه على العلاقة مع المحيط العربي واستعداده للتفاعل بإيجابية نسبية مع السلطة الفلسطينية، ويمثل هذا الجناح اسماعيل هنية، والجناح الثاني اشتُهر بالاعتدال أيضًا وإن كان أقرب إلى العلاقة مع القاهرة، ويمثل هذا الجناح موسى أبو مرزوق الذي يقيم في القاهرة لفترات طويلة.



أفرزت انتخابات المكتب السياسي لحماس في غزة أغلبية من الجناح القريب من إيران، حتى عماد العلمي ممثل الحركة هناك خرج طواعية لأسباب صحية.

أما الجناح الثالث، فهو جناح كتائب القسام المعروف بالتشدد والتمسك بالثوابت وخيارات الحسم بالقوة، وعلاقة هذا الجناح متوترة بطبيعة الحال مع ما يُسمى غربيًا بـ«أنظمة الاعتدال العربي» ومع السلطة الفلسطينية، وهو معروف بعلاقته الوثيقة مع إيران، تلك العلاقة التي يبدو أنها لم تتأثر كثيرًا بالتدهور البادي في علاقة حماس بالنظام السوري منذ اندلاع الانتفاضة السورية عام 2011، ويمثل هذا التيار محمود الزهار وعماد العلمي.

أفرزت انتخابات المكتب السياسي للحركة في غزة أغلبية من

الجناح القريب من إيران

، مثل مروان عيسى وصلاح البردويل وجواد أبو شمالة وياسر حرب ومحمود الزهار وأحمد بحر وروحي مشتهى وفتحي حماد، بجانب السنوار نفسه، حتى عماد العلمي ممثل الحركة في إيران خرج من المكتب السياسي طواعية ولأسباب صحية، وليس لأنه خسر الأصوات.

ويُعد انتخاب يحيى السنوار أمرًا بالغ الدلالة لجهة هيمنة الجناح العسكري لحركة حماس على تكوينها السياسي، بل إن بعض

المصادر

أشارت إلى أن العملية الانتخابية في بعض مناطق غزة قد توقفت بعد الاكتساح الكبير الذي حققه الجناح العسكري على حساب الجناح السياسي، خشية إتمام هيمنته الكاملة وإحكام قبضته على قيادة القطاع، وتم اللجوء إلى نظام التزكية في المناطق التي توقفت فيها الانتخابات للحفاظ على بعض الوجود للجناح السياسي في المكتب السياسي لحماس غزة، وتم التوافق على تعيين خليل الحية، وهو سياسي من المحسوبين على التيار المعتدل، نائبًا للسنوار.

لكن حين نقول إن الجناح العسكري للحركة في غزة قد هيمن على مكتبها السياسي، لا نقصد بذلك أن غالبية المكتب السياسي باتت تتشكل من العسكريين، فالحقيقة أن هناك اثنين فقط من العسكرين في تركيبة مكتب غزة السياسي الجديد، هما السنوار نفسه ورئيس أركان كتائب القسام مروان عيسى، لكن ما نقصده أن الأغلبية من الأعضاء المدنيين بالمكتب السياسي الجديد هم من الموالين لكتائب القسام والمحسوبين على جناح الصقور المتشددين، مثل محمود الزهار وروحي مشتهى وفتحي حماد.


الأسباب

ربما كانت الظروف الموضوعية الداخلية والإقليمية والدولية تقدم تفسيرًا مقبولًا لصعود العسكري على حساب السياسي داخل حماس غزة تحديدًا، ففي الداخل هناك ملف المصالحة المتجمد وسلطة لا تبدي رغبة كبيرة في إنجازها.

وفي المحيط الإقليمي تعاني موجة انتفاضات الربيع العربي من انتكاسات، إما بسبب تحولها إلى حروب أهلية في سوريا وليبيا واليمن، أو عودة القوى التقليدية المحافظة (التي يمكن تسميتها عمومًا بالثورات المضادة) لصدارة المشهد في مصر وتونس، وهو ما كبح كثيرًا من الانتعاش الذي تمتعت به حركة حماس خلال الفترة القصيرة لصعود القوى الإسلامية في بلاد الربيع العربي.

ودوليًا، تشهد الدول الكبرى – الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الأساسية –

صعودًا

لتيار اليمين المتشدد الميال لوصم العرب والمسلمين بعمومهم بتهمة الإرهاب، وقد تُوِّج هذا الصعود لليمين العالمي مؤخرًا باعتلاء الرئيس الأمريكي دونالد ترامب رئاسة الولايات المتحدة، وهو الذي لم يترك فرصة لإعلان دعمه لإسرائيل إلا اغتنمها.

فرضت هذه الظروف على حماس شعورًا بالحصار والوجود وسط بيئة إقليمية ودولية معادية، خاصة مع ما ترصده بشكل شبه يومي من ارتياح إسرائيل لصعود اليمين العالمي ووصول ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، إذ إن ذلك يعني أنها لن تواجه حتى ذلك القدر الضئيل من اللوم وتحميل المسئولية الذي كانت تلقاه من جانب الحكومات الغربية المعتدلة حين تشن حربًا على غزة أو تُبدي موقفًا متعنتًا في المفاوضات مع الفلسطينيين، ما سيعفيها من أي ضغوط لتقديم تنازلات وقد يشجعها على شن حرب جديدة على غزة.

كان من الطبيعي إذن أن يميل المزاج الحمساوي في اللحظة الراهنة إلى التشدد، ملقيًا ثقله وثقته وراء الجناح العسكري المعروف بتمسكه بثوابت الحركة ورفضه للمرونة والبراجماتية التي تسم تعاطي الجناح السياسي سواء مع السلطة أو المحيط الإقليمي العربي أو القوى الدولية وإسرائيل.

وهناك دلائل أخرى على ميل المزاج الحمساوي ناحية الجناح المتشدد، مثل

انتخاب

كتلة التغيير والإصلاح (كتلة حماس) في المجلس التشريعي المعطل لمحمود الزهار زعيمًا لها، وهو أشهر وأبرز رموز جناح الصقور المتشددين في الحركة، وجدير بالذكر أن الصعود الأخير للجناح العسكري داخل غزة سيعزز نفوذ الزهار في رسم سياسة الحركة، فهو معروف بنفوذه الواسع داخل الجناح العسكري بالرغم من عدم كونه عسكريًا.

من ناحية أخرى لم يعد التذمر، خاصة في أوساط شباب الحركة، خافيًا إزاء نتائج

سياسات

الجناح السياسي، المشكّل من تحالف خالد مشعل واسماعيل هنية، والذي لعبت فيه قيادة الخارج الدور الرئيسي، وهي السياسات التي تمثلت في الحفاظ بأي ثمن على العلاقات مع أطراف إقليمية لديها أجندات متصادمة، مثل تركيا وقطر من ناحية، ومصر والسعودية من ناحية أخرى، وإيران من ناحية ثالثة، وهو الأمر الذي جر عليها شكوك هذه الأطراف كلها ولم تجنِ منه الحركة كثيرًا.


التوازن



كان من الطبيعي أن يميل المزاج الحمساوي في اللحظة الراهنة إلى التشدد، ملقيًا ثقله وثقته وراء الجناح العسكري.

ربما لا يزال من المبكر الجزم بأن كتائب القسام أصبحت الآمر الناهي في حركة حماس، فمن المؤكد أن صعود أغلبية موالية للجناح العسكري وانتخاب رئيس للمكتب السياسي في غزة من العسكريين مؤشر له دلالة لا تخفى على تزايد نفوذ كتائب القسام، لكن ليس هذا كل شيء، فانتخابات القيادة العامة للحركة (المكتب السياسي المركزي) لم تُحسم بعد.

بل إن صعود الجناح العسكري داخل غزة هو بالذات ما قد يدفع في الاتجاه المضاد بالنسبة للقيادة العامة، حيث قد تدفع التخوفات من هيمنة الجناح العسكري بالكامل أعضاء مجلس الشورى العام وقيادة الخارج لموازنة الأمر من خلال انتخاب مكتب سياسي مركزي يغلب عليه طابع الاعتدال والعناصر المهادنة، خاصة وأن اسماعيل هنية وموسى أبو مرزوق هما

أبرز المرشحين

لخلافة مشعل في رئاسة المكتب السياسي المركزي.

وقد يستمر بناءً على ذلك التقسيم الوظيفي الطبيعي بين قيادتي الخارج والداخل، بحيث تتولى الأولى كالمعتاد الاتصالات الدولية والدبلوماسية وملف المصالحة، بينما تعكف قيادة الداخل على تسيير الشئون الإدارية اليومية لقطاع غزة والعناية بالترتيبات العسكرية استعدادًا للمعركة القادمة المحتملة مع الجيش الإسرائيلي.