تنويه: هذه المراجعة تجنبت حرق أحداث الفيلم وحرصت على الاكتفاء بالحد الأدنى من الأحداث التي ظهرت في الإعلان التشويقي للفيلم.

هل كان من الممكن لقابيل ألا يقتل هابيل؟ هل كان من الممكن للإنسان أن يعيش بشكل مسالم عبر آلاف السنين التى قضاها على كوكب الأرض؟ وهل يستطيع إنسان العصر الحالي أن يقدم إجابة جديدة على هذا السؤال أم أننا سنستمر فى الاقتتال؟ هل هذا هو قدرنا؟

يعود المخرج والممثل الأمريكي «ميل جيبسون» إلى سباق جوائز الأوسكار هذا العام بفيلمه «Hacksaw Ridge» المرشح لست جوائز أوسكار، والذي يتتبع قصة حقيقية لجندي أمريكي اختار ألا يحمل السلاح، وأن يعمل كمسعف خلال الاقتتال داخل جحيم جزيرة «أوكاناوا» اليابانية، والذي راح ضحيته أكثر من مائتي ألف قتيل في واحدة من أكثر المعارك دموية أثناء الحرب العالمية الثانية. هذا الجندي الأمريكي هو «ديزموند دوس» أول معترض ضميري أمريكي على حمل السلاح يمكنه الحصول على ميدالية الشرف العسكرية الأمريكية دون أن يطلق رصاصة واحدة. «دوس» أيضا من طائفة

السبتيين

(طائفة مسيحية تؤمن بعودة المسيح فى يوم سبت)، فهو لا يعمل في هذا اليوم، وهو أيضا لا يؤمن بالعنف كوسيلة لحل الصراعات بين البشر.

ولكن هل وصل مغزى حكاية ميل جيبسون عن السلام في فيلمه الحربي؟ أم أنه قادنا ودون أن نشعر بفيلمه المتقن والمخيف بصريا لنفس الإجابة الدموية التي اختارها البشر من يوم هبوط آدم من الجنة. وكي لا نُضيع حديث السينما وسط محاولتنا للإجابة عن هذا السؤال المعقد سنتحدث أولاً عن عناصر قوة الفيلم فى صورته وحكايته وأدواره التمثيلية. ثم نعود لنختتم تقريرنا بمحاولة للإجابة على سؤال السلام والحرب القديم/الجديد.


جائزة الصورة

قرر «ميل جيبسون» أن يقسم فيلمه الحربي لثلاثة أجزاء تقليدية رأيناها مئات المرات فى أفلام حربية سابقة، المرحلة الأولى هي حياة البطل المنزلية قبل الالتحاق بالجيش، المرحلة الثانية هي مرحلة معسكر التدريب القاسية، والمرحلة الثالثة هي مرحلة الوجود في أرض المعركة. ليس عيبا أن تكرر الهيكل الخارجي الذي اعتاده الجمهور، ولكن ما أضافه ميل جيبسون بإخراجه، وديزموند دوس بحكايته، فى المراحل الثلاثة هو ما جعلت هذا الفيلم أحد أفضل الأفلام الحربية التي شاهدناها منذ فترة طويلة.

في المرحلة الأولي بنى ميل جيبسون دوافع بطله على وجود أبيه المحارب القديم من الحرب العالمية الأولى، والذي يظهر بوضوح إصابته بمتلازمة الخلل النفسي ما بعد الصدمة (Post traumatic stress disorder) والتي تجعله عنيفا في لحظات كثيرة مع ديزموند وأخيه وكذلك مع أمهما، الأب يظهر أيضا خللا نفسيا آخر وهو متلازمة الشعور بالذنب لدى الناجين (Survivor guilt syndrome) والتي تجعله يشعر بالذنب كونه خرج من الحرب حيا فيما مات أصدقاؤه أمام عينيه. كل هذه الاضطرابات لدى الأب أعطت دافعا قويا لشخصية الابن كي يصبح رافضا للعنف وكارها للقتل وما يفعله في نفوس البشر.

فى المرحلة الثانية قدم لنا ميل جيبسون أجواء معسكر التدريب بشكل شبيه جدا بأجواء فيلم «Full Metal Jacket» للمخرج «ستانلي كوبريك» حيث الجو الخانق من التنمر والإيذاء النفسي والبدني الموجه من القادة العسكريين المسئولين عن التدريب تجاه ديزموند دوس، الفتى الذي يرفض الانصياع للأوامر بحمل السلاح. ربما كان الجديد هنا هو أن جيبسون اختار الممثل الأمريكي «فينس فوجن» المعروف بأدواره الكوميدية فى دور «الرقيب هويل» القائد المباشر للجندي ديزموند دوس. مشاهدة رجل اعتادنا الضحك فى صحبته، فى دور جدي ومخيف في بعض لحظاته أعطى هذه المرحلة طعما جديدا.

في المرحلة الثالثة بالطبع وصلنا لذروة حكاية ديزموند دوس حيث نرى جنديا بلا سلاح يتنقل وسط أمطار من القذائف والرصاص المتبادل لينقذ أروح زملائه، لينقذ ما يزيد على الخمسين جنديا من كتيبته ويعيدهم من الموت، ينقذ المسعف «المتدين» المسالم المعترض على حمل السلاح قادته أيضا، هؤلاء الذين أهانوه من قبل واحداً تلو الآخر. لا نرى لحظات بطولة كما اعتادنا من أسلوب ميل جيبسون في سرد الحكايات، ولكن ربما لأن البطولة هنا ليست فى إطلاق الرصاص، أو النضال بالسيف، ولكنها على العكس تماما، فى التمسك بالمبادئ والتشبث بالسلمية مهما زادت إغراءات ودوافع العنف. بطولة تأتي من إنقاذ حيوات لا من أخذها لا يمكن أن ترى فيها لحظات ذروة درامية، بل إنك ستشعر بها بشكل تدريجي.

هذا على مستوى الحكاية، أما على مستوى الصورة فشهدت هذه المرحلة لحظات تجلي ميل جيبسون في إدارة المعركة، جيبسون هنا نقل لنا مشاهد حربية عنيفة للغاية ولا نبالغ حينما نصفها بأنها «مرعبة». مشاهد يمكن مقارنتها بكلاسيكيات حربية مثل «Apocalypse Now» للمخرج فرانسيس فورد كوبولا، و«Saving Private Ryan» للمخرج ستيفن سبيلبيرج.

جيبسون لم يخفِ مشاهد القتل العنيفة وشلالات الدماء والأشلاء المتناثرة، في بادرة تثبت لنا أنه لم يتأثر بالنقد الذى وجه لأفلامه السابقة، خصوصا فيلمه «آلام المسيح» لما احتواه من مشاهد عنيفة جعلته يحصل على «التصنيف R» الخاص بالكبار فقط. بهذا الجزء فقط استحق جيبسون ترشيحه لجائزة أوسكار أفضل مخرج كما استحق «جون جيلبرت» ترشيحه للجائزة في فئة أفضل إنجاز فى المونتاج البصري.


جائزة التمثيل

بطل رئيسي أوحد وأدوار مساعدة كثيرة

فيلم Hacksaw Ridge هو فيلم البطل الواحد، بطل الحكاية ديزموند دوس، الرجل الذي عاد من الحرب العالمية الثانية بميدالية الشرف العسكرية دون أن يطلق رصاصة واحدة، البطل الذي أنقذ العشرات من زملائه من الموت بدون سلاح ثم عاد ليجلس في منزله ويرفض عروض الكتاب والمخرجين لتحويل سيرته إلى عمل فني أو أدبي، حتى توفي قبل أن يرى حياته على الشاشة، بعد ما وثق أخيرا في أن يضعها بين يدي ميل جيبسون.

أمامنا إذن دور يحلم به كل نجم هوليودي، دور أهداه جيبسون للنجم الشاب الذي تهددت نجوميته بعد تجسيده لشخصية الرجل العنكبوت في الفيلم المخيب للآمال Amazing Spider Man. هذا النجم الشاب هو «أندرو جارفيلد» الذي ابتسم له القدر ليؤدي دورين مهمين عن الإيمان في عالم لا يسامح، دورين أعاداه في عام واحد ليصبح من نجوم الصف الأول في هوليوود. بالطبع نتحدث هنا عن دوره فى فيلم Silence للمخرج الكبير مارتين سكورسيزي بالإضافة لدوره Hacksaw Ridge.

تخوف الكثيرون من اختيار جارفيلد لهذا الدور، ولكنه قدم لنا مفاجأة سارة واعتمد أوراقه لدى الجمهور كممثل قادر على تقديم أداء يتميز بالسلاسة والصدق نجح به فى إيصال مشاعر معقدة لشخصية صعبة مثل ديزموند دوس. هذا الأداء اللامع لم يعد به فقط نجما هوليووديا بارزا ولكنه أيضا قاده للحصول على ترشيح مستحق لجائزة أوسكار أفضل ممثل

.

على جانب آخر، وكما اعتدنا فى أفلام ميل جيبسون السابقة، نرى أدوارا كثيرة مساعدة لبطله الأوحد، نرى هنا حضورا نسائيا تقليديا للغاية للشقراء «تريسا بالمر» التي أدت دور «دورثي» حبيبة بطل الحكاية وزوجته، والتي مثلت بعيونها الزرقاء مظهر النعيم وسط الطبيعة المسالمة التي عاش فيها ديزموند دوس قبل انتقاله لجحيم الحرب، كما مثلت أيضا دافعه الأول للكفاح من أجل العودة.

بمستوى أكبر وحضور أقوى ظهر «هيوجو ويفنج» الممثل البريطاني صاحب الأدوار المميزة دائما في دور الأب صاحب الخلل النفسي المصاحب للمحاربين القدامى. كما ظهر في مفاجأة سارة كما ذكرنا من قبل النجم الكوميدي «فينس فوجن» في دور الرقيب هويل وقدم لنا أداء جديا جديدا عليه وعلى جمهوره حتى ولو شعرنا فى بداية ظهوره أنه يجاهد لمحاكاة دور القائد العسكري المتنمر فى فيلم Full Metal Jacket .

في حين قدم «سام ورثنجتون» دور القائد العسكري الكلاسيكي في دور معتاد ولكنه مهم. كل هذه الأدوار وفرت أرضا ثابتة ومهيئه لبروز جارفيلد نجم العمل الأوحد وصاحب الحكاية.


حينما يرفض البطل القتل ولكنه يساعد من يقومون به

نعود للسؤال الذي طرحناه في بداية التقرير «هل وصل لنا مغزى السلام كخيار أفضل في هذا الفيلم الحربي؟»

فى الحقيقة لا، الفيلم قدم لنا بطولة رجل أمريكي في إنقاذ زملائه دون سلاح. وربما ستنبهر بالجو الحربي متقن الصنع حينما تشاهد الفيلم لأول مرة، ولكنك بعد أن تقرأ قليلا عن الحكاية الأصلية لديزموند دوس، وبعد مراجعتك لبعض

الأرقام

الخاصة بالمعارك الدموية لجزيرة أوكاناوا، فإنك من الأكيد سوف تهتف: «ماذا بحق الجحيم يفعل رجل مسالم وسط كل هذه الدماء؟ هل لاحظ أنه يعمل جاهدا لتوفير الرعاية الطبية لقاتلين في زي رسمي؟ هل لاحظ أحد أن دوره هو أن تسير آلة القتل النظامية بأفضل صورة ممكنة؟»

ربما كان ديزموند دوس كارها للقتل لأسباب دينية وشخصية، وربما كان أيضا متأثرا بالاتهام «المغلف مسبقا» بأنك لست رجلا ولست شجاعا لأنك لا تحمي نساءك وأطفالك من الأعداء الشياطين. وللسببين السابقين قام بهذا الاختيار المزدوج: سأذهب للحرب ولكني لن أحمل السلاح. لن أقتل ولكني سأساعد زملائي وأحميهم بينما يقومون بالقتل!

بعد ذلك ستكتشف ما لم يذكره الفيلم. لم يذكر الفيلم أن معارك جزيرة «أوكاناوا» نتج عنها وفاة ما يقترب من مائة وخمسين ألف مدني من سكان الجزيرة اليابانية، لم يذكر الفيلم أيضاً أن جنود أمريكا، الذين ساعد ديزموند دوس في تطبيبهم قد تسببوا فى قتل كل هؤلاء المدنيين بالإضافة لما يزيد على 77 ألف جندي ياباني، في حين قدرت خسائر زملاء دوس بما يقترب من 14 ألف جندي أمريكي.

لم يذكر الفيلم أيضا أن زملاء دوس قاموا بعد نهاية المعارك بأسابيع قليلة بالهجوم الذري البشري الأول حينما

قتلوا

ما يقترب من مائة وثلاثين ألف نفسا في جحيم هيروشيما وناجازاكي. ربما إذا قدم لنا ميل جيبسون ملحمة حربية تحمل فكرة مشوشة، فكرة تبدو مسالمة حينما تشاهد بطلها منفردا، ولكنها دامية حينما ترى صورة القتل المرعبة التي نقلها لنا ميل جيبسون، الذي يبدو كأنه حمل السلاح الذي أسقطه بطله.


موسم الجوائز السينمائية



بطولة تأتي من إنقاذ حيوات لا من أخذها لا يمكن أن ترى فيها لحظات ذروة درامية، بل إنك ستشعر بها بشكل تدريجي.

سلسلة «

موسم الجوائز السينمائية

» نتتبع فيها أهم الأعمال السينمائية التي تتسابق على الجوائز الفنية المختلفة في موسم يمتد منذ ديسمبر/كانون الأول 2016، بإعلان ترشيحات جائزة «جولدن جلوب»، مرورا بجائزة «البافتا»، وانتهاءً بإعلان الفائزين بجوائز أكاديمية فنون وعلوم الصور المتحركة «الأوسكار» في نهاية فبراير/شباط 2017.

(يمكنكم متابعة جميع حلقات السلسلة من

هنا

)


المراجع



  1. من الوثائق السرية للجيش الأمريكي عن هيروشيما وناجازاكي