«يوسف حككيان» هو أحد تراجمة محمد علي باشا، وُلد في عام 1807م بمدينة إستانبول، لأسرة أرمنية كاثوليكية، ومنذ صغره كان والده يحلم بأن يتلقى ابنه تعليمه في إنجلترا، وحين رحل حككيان مع أسرته إلى مصر كان والده أحد المقربين من محمد علي باشا، وعندما بدأ محمد علي في إرسال البعثات إلى فرنسا في عام 1817م، طلب والد يوسف من الباشا أن يُرسل ابنه إلى إنجلترا، وقد كان.

ودرس حككيان اللغة الإنجليزية بجانب المناهج السائدة في ذلك الوقت وهي الفرنسية واللاتينية، وذلك حتى عام 1824م، وهو العام الذي تحولت فيه اهتمامات حككيان إلى دراسة آلات الغزل والنسيج بمرسوم رسمي من محمد علي، إلى جانب الاطلاع على كيفية بناء الطرق والكباري والقنوات والأرصفة النهرية.

وفي عام 1831م، عاد حككيان إلى مصر بعد أن نسي لغته الأصلية تمامًا؛ مما أدى إلى تزويد محمد علي له بمترجم خاص يساعده في مهامه، وقد تم تعيينه مراقبًا عامًا لمصانع القطن في القاهرة، كما وضع تحت إشرافه عددًا من الطلاب الذين قام بتعليمهم مبادئ الهندسة والرياضيات والميكانيكا، وتقلد حككيان عددًا من المناصب التعليمية منها: مدير مدرسة الهندسة الجديدة، كما عُيّن مديرًا لمدرسة العمليات، والتي كان من أهدافها تقديم خدمات للمسافرين الأجانب المارين بمصر، وفيما بين عامي 1844 و1850م ترأس ثلاث بعثات كانت تقوم بالبحث عن الفحم في مختلف صحاري مصر وجبالها، وفي عام 1849م عُيّن رئيسًا لمجلس الصحة.


أوراق حككيان: ثراء التفاصيل

تُلقي هذه الأوراق أضواء جديدة على أوضاع مصر خلال الفترة الممتدة بين عامي 1840 و 1863م، التي لم تحظَ بالاهتمام الكافي من جانب المؤرخين، كما تحتوي على سيرة حككيان الذاتية وانطباعاته الخاصة خلال الفترة التي قضاها في إنجلترا ما بين عامي 1818م و1830م، كما تحتوي أوراق حككيان على معلومات ورسوم هامة تتعلق بالتنقيبات الأثرية التي تمت تحت إشراف الجمعية الملكية البريطانية، بأوضاع البلاد الاجتماعية التي لمسها خلال اشتراكه في هذه التنقيبات.

تقع أوراق حككيان في 24 مجلدًا، ومحتوياتها على الوجه التالي:

المجلد الأول:

  • مفكرات ورسوم الفترة ما بين (25 إبريل إلى 8 مايو 1829م).
  • يوميات في إنجلترا من (يوليه 1829 وحتى يناير 1830م).
  • سيرة ذاتية ويوميات كُتبت خلال الرحلة إلى مصر من (يوليه إلى سبتمبر 1830م).
  • يوميات في مصر في الفترة من (29 أغسطس 1840م إلى 23 أغسطس 1841م).

المجلدات الثاني والثالث والرابع: تكملة اليوميات مع ملاحظات ميدانية.

المجلدات الخامس والسادس والسابع: وفيها تكملة اليوميات، بالإضافة إلى سجلات حول التنقيبات الأركيولوجية والجيولوجية، وملاحظات ميدانية ورسومات.

المجلد الثامن: فيه استعراض التنقيبات التي أُجريت فيما بين عامي 1852 و1862م.

المجلد التاسع: وفيه يوميات سُجلت في عام 1862م.

المجلد العاشر: فيه رسومات خاصة بالآثار التي جرى التنقيب عنها في عام 1854م، بالإضافة إلى جداول بمنسوبات النيل وغير ذلك.

المجلد الحادي عشر: وفيه رسومات بعضها ملون ومشروعات الآثار والتنقيبات المصرية والقوائم الخاصة بها.

المجلدات الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس عشر: وفيهم مراسلات حككيان.

المجلد السابع عشر: وفيه قوائم خاصة وأعمال الحفر ومادة أخرى جيولوجية في الفترة من 1851 إلى 1854م.

المجلد الثامن عشر: فيه مراسلات وأوراق رسمية متفرقة كُتبت باللغتين التركية والعربية في الفترة من 1836 إلى 1868م.

المجلد التاسع عشر: وفيه أوراق وتقارير رسمية متفرقة ذات صلة بشئون مصر فيما بين عامي (1838 و1840م)، وغير ذلك.

المجلدات العشرون والحادي والثاني والعشرون: فيهم مفكرات كُتبت فيما بين عامي (1868 و1872م) تقريبًا.

المجلدان الثالث والرابع والعشرون: وفيهما ثلاثة أبحاث أو مسودات كتاب عن التسلسل الزمني للأرض أو «نظام التسلسل الزمني المصري والإنجيلي على ضوء العلاقة النظرية بين الذراع المصري وبين التغيرات المادية في المنسوب السطحي في مصر».


يوسف حككيان: ثراء التكوين



تحتوي أوراق حككيان على سيرته الذاتية وانطباعاته الخاصة عن حياته في إنجلترا، وعن عمله في مصر في التنقيبات، ومقارنات التسلسل التأريخي.

وحتى نتمكن من معرفة أهمية أوراق حككيان بالنسبة إلى تاريخ مصر الحديث لا بد لنا من التعرف على شخصيته وأفكاره ونظرته ونشاطاته، فقد كان يوسف حككيان على صلة بالكثيرين من كبار الساسة في مصر وأوروبا، كما أنه اضطلع بعدة مهام في مختلف نواحي مصر، بالإضافة إلى اشتراكه في مداولات رسمية، فالمناصب الرسمية التي تقلدها بجانب التعليم الذي تلقاه قد أضفيا عليه إدراكًا وثيقًا لأحوال مصر والتقلبات الدولية في عصره.



بالرغم من إعجاب حككيان بحكم محمد علي باعتباره حكمًا مستبدًا مستنيرًا، إلا أنه كان شديد الانتقاد للحكم الشرقي

كما أن معرفته بعدة لغات وتجاربه الخاصة قد عمّقت أفكاره وأثرت ملاحظاته، وعلى الرغم من تخصصه في العلوم التطبيقية إلا أنه كان متذوقًا جيدًا للآداب، بالإضافة إلى التأثير الكبير لفترة إقامته في إنجلترا والتي شهد خلالها نمو الثورة الصناعية، وظهور مبادئ التجارة الحرة والنزعات الليبرالية، فقد كان حككيان يرى أن «التعليم وحرية التجارة من شأنهما أن يجعلا الناس يلبون دواعي العقل، ويحكمون أنفسهم بـأنفسهم»، وكان يُحبّذ إقامة مؤسسات عامة يستطيع فيها الغني والفقير والعامة والنبلاء أن يتلقوا نفس التعليم، ويتمتعوا بنفس المزايا.

وكان لأفكار جماعة الفزيوقراط تأثير كبير على حككيان، فقد كان يحلم بعالم واحد تربطه المواصلات والتجارة لمصلحة الإنسانية كلها، وكان يرى بأنه من الواجب أن تُشكل الشعوب أسرة واحدة تتبادل المساعدة، وكان يميل إلى قيام نظام عالمي للتعليم، بحيث تتوحد المبادئ الأخلاقية في شتى أنحاء العالم، ولا يمكن السماح بأي نظام جديد دون اطلاع البشرية عليه، ولكن أحوال البلاد لم تكن تسمح في ذلك الوقت بتطبيق تلك الأفكار، فبالرغم من إعجاب حككيان بحكم محمد علي الذي اعتبره حكمًا مستبدًا مستنيرًا، إلا أنه كان شديد الانتقاد للحكم الشرقي.

وقد ندد حككيان بالطغيان الذي كان يرأسه شيوخ البلد على صغار المزارعين في القرى، حيث كان المزارعون يعمدون إلى ترك الزراعة ويفضلون الدخول في خدمة البدو أو يختبئون في المدن ويتحولون إلى خدم أو ما شابه ذلك من أعمال، كما أدى به هذا إلى مقت الطغيان الذي تمثّل لديه في عباس حلمي الأول بوجه خاص، والذي حكم في الفترة من (1848 : 1854م)، فقد خشي أن ينكل به مما دعاه إلى طلب الحماية البريطانية، وحين يعرض حككيان للشخصيات نجده يصطنع التحليل الذي يأخذ في عين الاعتبار العوامل الاجتماعية والسيكولوجية، وهكذا كان يصف عباس الأول بأنه شاب له صفات كان من الممكن أن تفيده وتنفع البلاد لو تلقى التعليم المناسب، ولكن التعليم السيئ الذي تلقاه وإحاطته بأشخاص جهلة وأنانيين قد حولاه إلى طاغية مجنون.

يضاف إلى كل ما سبق أن «أوراق حككيان» تحتوي على رسوم وخرائط ومعلومات خاصة بمساكن مختلف قطاعات سكان مصر وملابسهم وعاداتهم.

وأخيرًا لا يجب أن نغض الطرف عن كون حككيان أول موظف في الإدارة المصرية خلال القرن التاسع عشر يُسجل ويحتفظ بيومياته ومراسلاته وأوراقه الخاصة، وقد قام ابنه فيما بعد بإهدائها إلى المتحف البريطاني.