يقول الفيلسوف الإنجليزي «فرانسيس بيكون» إن «المعرفة سلطة»، تلك المعرفة التي تطورت منذ عصر النهضة ونمت خلال عصر التنوير، لتكون السلاح المشهر ضد استبداد السلطات، وبذرة للعلاقة الملتبسة بين المثقف والسلطة، وهو المعنى الذي

أكده «ميشيل فوكو»

حينما قال:

المثقف هو ذلك الذي يتحدث بالحقيقة إلى أولئك الذين لم يروا بعد، باسم أولئك الذين حرموا من الكلام، وكان الضمير والوعي والبلاغة في أحلك الاضطرابات.


وأكد عالم الاجتماع «كارل مانهايم»

أن كلمة «مثقف» تشير إلى دور ريادي في الدفاع عن حرية الفكر والثقافة، لمواطن ينتمي إلى هيئة اجتماعية وليس إلى طبقة بذاتها. فالمثقفون عمومًا ينتمون إلى فئات وشرائح وطبقات اجتماعية مختلفة، ولكن ما يجمعهم هو كونهم مُنتِجي ثقافة.


معضلة المثقف والسلطة

لكونها علاقة يحكمها الشك والريبة، وأحيانًا المواجهة والنزاع، مثلما يخبرنا الصراع التاريخي الأزلي منذ أقدم العصور؛ فإن الإشكالية تتعقد في تحليل العلاقة بين المثقف والسلطة. فالمثقّفون هم الذين يعارضون المعايير والأعراف السائدة، وينزعون نحو مساءلة الرموز العامة والطعن بما هو سائد.



اختلاف علماء الاجتماع حول تحديد طبيعة العلاقة بين المثقف والسلطة، لم يثنيهم عن تأكيد المقاومة والنضال ضد كل أشكال السلطوية والحكم الفردي.

وليس أبلغ من توضيح التباينات في تفسير تلك العلاقة، إلا اختلاف علماء الاجتماع أنفسهم؛ فمن جهة

ربط «ابن خلدون

» بين المثقف والسلطة وحدد دوره في المسافة التي تربطه أو تفصله عن السلطان وحاشيته، بل يصل إلى السخرية من «المثقف المستقل».

في حين

يطالب «إدوارد سعيد»

بضرورة استقلال المثقف عن السلطة، ويقول: «المثقف الحق هو من لا يقبل بأنصاف الحلول، وعليه أن يستمسك بقيم عالية كالحرية والعدالة باعتباره مشاركًا في الحياة العامة».

ويرى «سعيد» أن وظيفة المثقف ودوره التنويري في المجتمع لا يمكن أن تكون فاعلة إلا باستخدام المنهج النقدي العقلاني، الذي يقف ضد الامتثال والوصاية، والتبعية والتهميش.


وبحسب الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو»

فإن المثقفين بمثابة عوامل التغيير الاجتماعي، حيث يترجمون خطابات الخبراء في القانون أو الاقتصاد أو الهندسة أو الطب؛ إلى لغة ميسورة تزود الآخرين في إطارات عقلية.

وفي

محادثة أجريت عام 1972 بين فلاسفة

ما بعد البنيوية (وهو مصطلح يشير إلى أعمال غير متجانسة لمفكرين فرنسيين في العقد الثامن من القرن الـ20، والتي تنفي إمكانية إجراء دراسة حقيقية للإنسان أو الطبيعة البشرية، لكن يمكن تحليلها من خلال سرد التطور التاريخي)، تناقش العلاقة بين النظرية والممارسة والقوة.

رأى «ميشيل فوكو» أن المثقف اكتشف أن «الجماهير لم تعد بحاجة له ​​للحصول على المعرفة؛ باعتبار الجماهير تعرف جيدًا حقيقة الأوضاع، ولكن هناك نظامًا للقوة يحظر هذه المعرفة، فلم يعد دور المثقف التعبير عن الحقيقة المختلطة للجماعة؛ بل هو الكفاح ضد أشكال القوة في مجال المعرفة والحقيقة والوعي والخطاب».

ومن اللافت، أن الصراع ضد أشكال السلطة المختلفة تكمن وراء كراهية الناس للنظام القضائي، وهو ما استدعى إيجاد «المحاكم الشعبية»، والتي كانت وسيلة للطبقة الوسطى والدنيا من الجماهير، لاستعادة المبادرة في الكفاح ضد نفوذ السلطات. ولتحقيق ذلك، اقترحوا نظامًا قضائيًا يستند إلى إمكانية العدالة المنصفة.


«عندما يزرع الوحش حضوره»: موت المثقف

ثمة ترابط جدلي بين المثقف والسلطة في الأنظمة الشمولية، ولا يمكن فهم تلك العلاقة إلا في حالة هيمنة الدولة على الثقافة وأدلجتها حسب مصالحها.

الأنظمة الشمولية تنتج هاجس خوف يستولي على المثقف من السلطة، حتى من الحرية نفسها، والنتيجة إعاقة المثقف عن تحقيق ذاته؛ لأن الدولة التي تحتكر كل شيء توصد في وجهه الأبواب.

تتمثل تلك الإشكالية لدى بطل

رواية «الخبز الحافي»

للكاتب «محمد شكري». هذا الكائن الباحث عن قيم أصيلة في مجتمع زائف، والتي خلخلت النسق الثقافي المتعلق بالسلطة الأبوية وعنفها الرمزي، على غرار كتابات «دوستويفسكي» في رواية «الإخوة كارامازوف».

يقول الراوي في نقده لأبيه المتمثل في السلطة البطريركية:

ويمكن أن قدرة السلطة الشمولية على عرقلة العملية الثقافية برمتها من خلال أكثر من وسيلة؛ بدايةً من سلطة دور النشر التي تختفي وراء سلطة أكبر من المعايير الخاصة، والتي تجعل من المثقف إما تابعًا متحيزًا للسلطة، أو مثقفًا نوعيًا يكون مستعدًا للتحدي والتضحية، أو هاربًا إلى أقرب منفى.

وكذلك يمكن أن يتحول المثقف في الأنظمة الشمولية إلى دعاية تغرد داخل السرب الواحد، وفق أيديولوجية السلطة الحاكمة التي تنتج الثقافة والمثقف في آن، وحين تهيمن الدولة على الثقافة يتحول المثقف بدوره إلى متسلط من جهة، وإلى مقموع مهزوم من جهة أخرى، مع تعمد نفي الآخر المختلف وإلغاء وجوده في كل الأحوال. وتؤدي السلطة الشمولية إلى انفصام الحياة الثقافية عن السياسية، مما يتسبب في إلغاء التفاعل الديناميكي بالمجتمع.

في بعض الحالات، يُوضع المثقف أمام مفترق طرق متعلق بموقفه من حركة ثورية تمثله، وناضل طويلًا في صفوفها من أجل انتصارها، وقد تحولت إلى سلطة جديدة لا تختلف جوهريًا عن سابقتها، على الرغم من بهرجة شعاراتها وجاذبية أهدافها. يتضح ذلك من خلال استعراض تجربة أول ثورة اشتراكية هزت العالم لتجسيدها الحلم البشري، وهي الثورة البلشفية الروسية.

حيث وُضع المثقف الثوري الروسي آنذاك أمام معضلة، فسرعان ما استولت سلطة البروليتاريا على الحكم، ثم تحولت إلى سلطة حزبية، ثم إلى سلطة مكتبه السياسي، ثم سلطة القائد الأوحد. وكان «

مكسيم غوركي

»، المناضل العتيد أيام القيصرية، والذي اعُتقل ونُفي عدة مرات، من أوائل ضحايا هذه الثورة التي تحولت إلى سلطة؛ حيث بدأ يكتشف أن هذه الثورة لم تعد ثورته. صمت طويلًا، ولم ينتج أدبيًا شيئًا، ظل حائرًا في ماذا يفعل حتى رحيله.

أمّا شاعر ثورة أكتوبر/ تشرين الأول، «

فلاديمير ماياكوفسكي

»، الذي حوّل قصائده إلى أناشيد للثورة، وأنزل الشعر إلى الشارع من أجلها، كان قد حسم أمره: «هذه ليست الثورة التي أريدها»، وانتهى به الأمر منتحرًا برصاصة في رأسه.


الحالة الثقافية العربية

إن الأب، ذلك الوحش الذي يزرع حضوره في الزمان والمكان الرعب والصمت، وعندما يدخل لا حركة، لا كلمة ولا شيء يحدث إلا بإذنه.

مرّ المثقف العربي بتغيرات كبيرة، من الاستقلال إلى الدولة الوطنية ذات البعد القومي التحرري، عاش انكسارات قومية متتالية منذ نكسة عام 1967، مرورًا باحتلال بيروت وطرد الفلسطينيين من لبنان، ومحاصرتهم داخل جزء من وطنهم، ووصولًا إلى الحروب العربية العربية، واحتلال العراق واندلاع التوترات الإقليمية في سوريا وليبيا واليمن والعراق، وطوال تلك الفترة ظل المثقف العربي يصطدم رأسه بالأبواب الموصدة، وتتيه رؤيته وسط الهزائم المتكررة.



رغم الإفلاس والحصار السياسي والاقتصادي والاجتماعي، أثبتت الثقافة العربية القدرة على الإبداع والتحليل والمقاومة على مدى الـ 50 عامًا الماضية.

وعبر جميع محطات «النهضة» العربية المتجددة، كانت الثقافة حاضرة ورائدة في مختلف المجالات، التي اتسعت وتوطدت من خلال البعثات التعليمية والترجمة والاحتكاك المباشر بالثقافات الأوروبية بعد الاستقلال.

ورافق المشروع العربي المُجهض في الوحدة طوال القرن الماضي أسئلة تتعلق بالمستقبل وأبعاده في ظل وجود إرادة وانعدام الرؤى. سرعان ما تعقد الأمر بالنظر إلى الضغط الخارجي، والإفلاس الداخلي، وفقدان المشروع القومي مرجعيته.

لكن تلك المسيرة العربية الحافلة بأشكال النضال والحداثة والأمل تعثرت على وقع

الانقلابات العسكرية

التي عزلت المجتمع السياسي عن المدني، وجرت المجتمعات العربية إلى الدوران في حلقة مفرغة، وإلى واقع متسلط على المواطنين، وتدجين القوى السياسية، وقمع المثقفين المعارضين.


وبالتطبيق على الحالة المصرية

، فمنذ عهد «محمد علي» رسمت السلطة الخطوط العامة للدولة المصرية الحديثة، لم تحِد عنها الأنظمة التي حكمت البلاد منذ ذاك الوقت. فالدولة هي المسيطرة، والسلطة تشكّل مثقفيها ونخبتها وحتى معارضتها، حتى تحولت النخب المثقفة في معظمها إلى كيانات طفيلية تستمد وجودها من دعم السلطة.

وفي عهد أسرة مؤسس مصر الحديثة، تم ولادة المثقف التقني، نتيجة البعثات إلى الغرب لنقل أحدث ما وصل إليه الأوروبيون من معرفة، وحينها كانت الصراعات الثقافية والأدبية حيوية، وتمحورت بشكل أساسي حول ثنائيات الأصالة والحداثة، ودارت معارك ذات طابع ثقافي وأدبي بين كلا من؛ «طه حسين، عباس محمود العقاد، مصطفى صادق الرافعي، وإبراهيم مازن، ومحمد عبده».

ثم جاءت السلطة العسكرية، لتمارس نوعًا جديدًا من القمع، مما أحدث تغييرًا ثوريًا في المجتمع المصري، أدى لظهور المثقف القومي العربي، وبزغ نجم «محمد حسنين هيكل»، الكاتب الصحفي، و«صلاح جاهين» الشاعر رسّام الكاريكاتير.

ومن المثقف «الحالم» في زمن الانفتاح الساداتي، إلى التجريف الكامل للثقافة طيلة عهد الرئيس المصري المخلوع «حسني مبارك»، وصولًا إلى استحداث قانون يعتمد صياغة مطاطة وعامة، من شأنه تجريم تلقي تمويلات أجنبية تذهب كمنح للمبدعين، أو الدعم المستمر للمنظمات الحقوقية والصحفية المهتمة بقضايا الحريات العامة بإيعاز من الإدارة الحالية.

ومع مرور الوقت وتعاقب الحكام، شهدت مصر حالات تجريف ثقافية واسعة، وامتاز المثقفون الذين يحظون بامتيازات تقلد مناصب أو البروز الإعلامي، بضحالة فكرية، متحولين إلى جوقة تردد ما تمليه السلطات، أو إلى «مطبلاتية» كما يسميهم الشارع المصري.

وبالنظر إلى الجيل الحالي من المثقفين،

يراه الكاتب «محمد الشيخ»

في كتابه «المثقف والسلطة»:

جيل يتيم من حيث أنه لم يفلح في تكريس نموذج فلسفي دقيق كجيل (الأزمنة الحديثة) وجيل الستينيات والسبعينيات… يتيم أيضًا من حيث ضعف تكوينه الفلسفي العام، حيث تربى في أحضان ماركسية وتحليل نفسي وضعاني سرعان ما ثار ضدهما، ووجد هذا الجيل نفسه أمام الدولة الاشتراكية وهي لم يُقضِ عليها نهائيًا، بينما الدولة الليبرالية تميل أكثر إلى التوتاليتارية.