أيها الولد..!!

إذا علمت هذا الحديث فلا حاجة إلى العلم الكثير، وتأمل في حكاية أخرى، وهي: أن حاتم الأصمّ كان من أصحاب شقيق البِلْخِيِّ -رحمة الله تعالى عليهما- فسأله يومًا قال: صاحبتني منذ ثلاثين سنة ما حصّلت فيها؟

قال: حصّلت ثماني فوائد من العلم، وهي تكفيني منه لأني أرجو خلاصي ونجاتي فيها.

فقال شفيق: ما هي؟

قال حاتم:

الفائدة الأولى

أني نظرت إلى الخلق فرأيت لكل منهم محبوبًا ومعشوقًا يحبه ويعشقه، وبعض ذلك المحبوب يصاحبه إلى مرض الموت وبعضه يصاحبه إلى شفير القبر، ثم يرجع كله ويتركه فريدًا وحيدًا، ولا يدخل معه في قبره منهم أحد. فتفكرت وقلت: أفضل محبوب المرء ما يدخل معه في قبره ويؤنسه فيه، فما وجدته غير الأعمال الصالحة، فأخذتها محبوبة لي؛ لتكون لي سراجًا في قبري وتؤنسني فيه ولا تتركني فريدًا.

الفائدة الثانية

أني رأيت الخلق يقتدون أهواءهم، ويبادرون إلى مرادات أنفسهم، فتأملت قوله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى* فإن الجنة هي المأوى} النازعات 40 – 41. وتيقنت أن القرآن حق صادق فبادرت إلى خلاف نفسي وتشمّرت بمجاهدتها، وما متعتها بهواها، حتى ارتاضت بطاعة الله تعالى وانقادت.

الفائدة الثالثة

أني رأيت كل واحد من الناس يسعى في جميع حطام الدنيا، ثم يمسكه قابضًا يده عليه. فتأملت في قوله تعالى: {ما عندكم ينفد وما عند الله باق}، فبذلت محصولي من الدنيا لوجه الله تعالى ففرّقته بين المساكين ليكون ذخرًا لي عند الله تعالى.

الفائدة الرابعة

أني رأيت بعض الخلق يظن أن شرفه وعزه في كثرة الأقوام والعشائر فاعتز بهم، وزعم آخرون أنه في ثروة الأموال وكثرة الأولاد، فافتخروا بها، وحسب بعضهم أن العز والشرف في غصب أموال الناس وظلمهم وسفك دمائهم، واعتقدت طائفة أنه في إتلاف المال وإسرافه، وتبذيره.

فتأملت في قوله تعالى: {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}، فاخترت التقوى، واعتقدت أن القرآن حق صادق، وظنهم وحسبانهم كلها باطل زائل.

الفائدة الخامسة

أني رأيت الناس يذم بعضهم بعضًا، ويغتاب بعضهم بعضًا، فوجدت [أصل] ذلك من الحسد في المال والجاه والعلم. فتأملت في قوله تعالى: {نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا}، فعلمت أن القسمة كانت من الله تعالى في الأزل، فما حسدت أحدًا، ورضيت بقسمة الله تعالى.

الفائدة السادسة

أني رأيت الناس يعادي بعضهم بعضًا لغرض وسبب. فتأملت في قوله تعالى: {إنّ الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا}، فعلمت أنه لا يجوز عداوة أحد غير الشيطان.

الفائدة السابعة

أني رأيت كل أحد يسعى بجد، ويجتهد بمبالغة لطلب القوت والمعاش، بحيث يقع به في شبهة وحرام ويذل نفسه وينقص قدره. فتأملت في قوله تعالى: {وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها} فعلمت أن رزقي على الله تعالى وقد ضمنه، فاشتغلت بعبادته، وقطعت طمعي عمّن سواه.

الفائدة الثامنة

أني رأيت كل واحد معتمدًا على شيء مخلوق، بعضهم على الدينار والدرهم، وبعضهم على المال والملك، وبعضهم على الحرفة والصناعة، وبعضهم على مخلوق مثله، فتأملت في قوله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره قد جعل الله لكل شيء قدرا}، فتوكلت على الله تعالى، فهو حسبي ونعم الوكيل.

فقال شفيق: وفقك الله تعالى. إني قد نظرت التوراة والإنجيل والزبور والفرقان، فوجدت الكتب الأربعة تدور على هذه الفوائد الثماني، فمن عمل بها كان عاملًا بهذه الكتب الأربعة.[1]


المراجع




  1. أيها الولد:أبو حامد الغزالى ،تحقيق:علي محب الدين علي القرةداغي،دار البشائر الإسلامية،الطبعة الرابعة،2010،ص121،122