في صيف 2010 شهدت مختلف مناطق مصر انقطاعات مستمرة للكهرباء، أعلنت بعدها وزارة الكهرباء المصرية قيامها بقطع الكهرباء عن مختلف مناطق الجمهورية بدعوى تخفيف الأعباء، وألقت وزارة الكهرباء بالمسؤولية على وزارة البترول بدعوى أن الأخيرة قللت كمية الغاز التي تحصل عليها لتشغيل محطات التوليد، إضافة إلى سوء حالة المازوت، مما اضطر وزارة الكهرباء لإجراء عمليات التخفيف.

يرجع الخلاف بين الوزارتين لعام 2004، بسبب توسع وزارة البترول في تصدير الغاز بمتوسط سعرى أقل بكثير من متوسط أسعار استيراد المازوت لمحطات الكهرباء. واستمرت هذه الأزمة حتى أنها كانت سببًا في الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي، وبالرغم من وعود الحكومات التي تعاقبت بعد محمد مرسي بعدم تعرض البلاد لمثل هذه الأزمات مرة أخرى إلا أن المشكلة لا تزال في حدتها، فصعيد مصر يكاد في ظلام مستمر وفي الفترة الراهنة تناقلت وسائل الإعلام أنباءً تفيد بأن وزارة البترول المصرية تنوي إعادة شراء 1.4 مليار متر مكعب من الغار الطبيعي الذي صدرته إلى إسرائيل، لكي تشغل توربينات محطات توليد الكهرباء، ولفهم هذه المعضلة الاقتصادية والاجتماعية لابد من تناول النقاط التالية.


النكسة الاقتصادية بعد اتفاقية 2005

في أغسطس/آب 2004 شب حريق في آبار حقل غاز تمساح وظلت النيران مشتعلة لمدة 38 يوم، حتى انهارت منصة الموقع البحري بالكامل، وانهار معها الحفار «أدرياتك»، ومن بعد هذا الحادث بعام واحد قامت الحكومة المصرية بتوقيع اتفاقية تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل عام 2005 بحضور وزير البترول الأسبق سامح فهمي، تقضي بتصدير 1.7 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الطبيعي لمدة تتراوح ما بين 15 إلى 20 عامًا، بثمن يتراوح بين 70 سنتاً و1.5 دولار للمليون وحدة حرارية، بينما يصل سعر التكلفة في الأصل إلى 2.65 دولار، كما حصلت شركة الغاز الإسرائيلية على إعفاء ضريبي من الحكومة المصرية لمدة 3 سنوات من عام 2005 إلى عام 2008.

وعلى إثر هذا الاتفاق، فقد طلب الوزير السابق سامح فهمي من الشركات المصرية ضخ كل إنتاجها من الغاز الطبيعي إلى الشبكة القومية للكهرباء؛ لمواجهة الموقف الاقتصادي شديد الصعوبة، وكانت هذه الشركات تجهل أن هذا الغاز ذاهب في الحقيقة إلى إسرائيل مباشرة. الإجراء الذي اتخذه فهمي وضع هذه الشركات، في أزمة كبيرة، خاصة أنها تحتاج لكميات من الغاز في عملية إنتاج الزيت الخام، وخلال 3 أشهر تقريبًا تعطل إنتاج الزيت في كثير من الحقول المصرية. وكانت تبعات هذه الاتفاقية وخيمة على الاقتصاد المصري وتمثلت الخسائر الوطنية بسبب هذه الاتفاقية في:




لقد كتب على الاقتصاد الوطني خسارة سنوية تتعدى المليارين من الدولارات وكذلك حرمان الاقتصاد من المكاسب التي كان من الطبيعي تحقيقها إذا ما صدر الغاز بشكل طبيعي، خاصة بعد أن نشرت منظمة الدول العربية المصدرة للنفط (الأوبك) بيانًا تقول فيه إن السعر العالمي للغاز في ذلك الوقت يقدر بنحو 6 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية، ويتراوح السعر العالمي في الوقت الحالي ما بين 12 و16 دولارًا للمليون وحدة حرارية بريطانية.




لقد كان ضخ الغاز الطبيعي لإسرائيل على حساب محطات توليد الكهرباء، والتي تعطل إنتاجها؛ لتظهر في مصر ظاهرة انقطاع الكهرباء، خاصة في شهر الصيف، بحجة تخفيف الأحمال، والتي تتزايد حتى الآن.

ومن أجل توفير وقود بديل لمحطات توليد الكهرباء، دون المساس بالغاز المصري المتدفق إلى الأراضي الإسرائيلية، بدأ سامح في استيراد السولار والمازوت من الجزائر بالسعر العالمي المضر بالاقتصاد المصري، فقد بلغ سعر المليون وحدة حرارية من السولار والمازوت المستورد 3 أضعاف سعر الغاز المصدر لإسرائيل، بخلاف الضرر البيئي والصحي الناتج عن استخدام المازوت والسولار؛ إضافة إلى التأثير السلبي على محطات التوليد المصممة للعمل بالغاز الطبيعي كوقود أساسي. ومن أجل معالجة كل هذا الخلل لجأ سامح فهمي لاقتراض 28 مليار دولار من مؤسسة التمويل الدولية «مورجان ستانلي»، بضمان الهيئة العامة للبترول وقام وفد من المؤسسة بزيارات تفقدية واستقصائية لشركات الهيئة، ومنها شركات السويس وجابكو ورشيد.

وبدأت وزارة المالية في تحمل مسؤولية دفع أقساط وفوائد قرض «مورجان ستانلي» عن طريق البنك الأهلي المصري، ولكنها لم تتمكن من توفير مستحقات الشركاء الأجانب في شركات البترول، نظير حصصهم من الزيت الخام، وتراكمت الديون على الهيئة العامة للبترول، التي اضطرت للسماح للشركاء الأجانب بتصدير حصصهم من الزيت؛ ترضية لهم، حتى لا يسحبوا استثماراتهم، ونتج عن ذلك عجز في المنتجات البترولية يوازي الكميات المصدرة من الخام.

واضطرت وزارة البترول إلى تعويض تلك الكميات باستيراد السولار والبنزين بالسعر العالمي، مضافًا إليها تكلفة النقل والتكرير، بالرغم من وجود 8 معامل تكرير مصرية توقف معظمها عن العمل بطاقتها الكلية.

وأدت كل هذه الخطوات المتوالية إلى سقوط قطاع البترول في بئر من الديون بدأ بقرض «مورجان ستانلي»؛ لينتهي حاليًّا إلى 300 مليار دولار لصالح الشركاء الأجانب وشركات الهيئة نفسها وتفاقم أزمة الوقود الحالية.


حسين سالم وتوريط الاقتصاد المصري

وبعد ارتفاع الأصوات المناهضة لهذه الاتفاقية، طالبت الحكومة المصرية في عام 2009 برفع سعر التصدير، مستندة إلى عدم تناسبه مع الأسعار العالمية، وهو ما قوبل برفض إسرائيلي كبير، ووقتها نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية مقالًا تعبر فيه عن دهشتها من ذلك الأمر، على اعتبار أن «مصر منحتها أسعارًا مخفضة جدًا عند توقيع الاتفاق دون النظر لأسعار الغاز العالمية وقتها». كما اعترضت الغرفة التجارية الإسرائيلية بشدة على زيادة السعر، وأرسلت تقريرًا إلى الحكومة المصرية، تقول فيه إن طلبها برفع التسعيرة غير مقبول وأنه مخالف للقانون الإسرائيلي، مؤكدة أنها ستدفع 1.5 دولار فقط للمليون وحدة حرارية بريطانية على أي كميات إضافية.

وعلى الرغم من محاولات مصر آنذاك لرفع سعر الغاز، وأثناء المناوشات بين الحكومة المصرية والكيان الصهيوني، فقد ضرب رجل الأعمال المصري حسين سالم كل شيء، حين تعاقد مع شركات صناعية في تل أبيب، خلال 2010، على 3 صفقات جديدة لتصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، بسعر 3 دولارات للمليون وحدة حرارية بريطانية، في ظل وصول السعر العالمي إلى 12 دولارًا، ولمدة 18 سنة من تاريخ الاتفاق، بالتوازي مع التعاقد القديم المبرم في 2005، مخالفًا بذلك المجلس الأعلى للطاقة في مصر الذي قد اتخذ قرارًا في 2008 بعدم توقيع أي تعاقدات جديدة لتصدير الغاز حتى نهاية 2010.

وبموجب الاتفاقات الثلاث الجديدة، تصدر مصر لإسرائيل 1.7 مليار متر مكعب إضافية من الغاز، ليصل بذلك إجمالي ما تصدره مصر سنويًا إلى الكيان الصهيوني إلى 3.4 مليار، أي ضعف الكمية المنصوص عليها في عقد 2005.


الثورة على اتفاقيات الغاز

وفي 13 أبريل/نيسان 2011 تقدم رئيس الوزراء المصري عصام شرف بطلب لإعادة دراسة عقود الغاز التي أبرمتها مصر مع جميع الدول بما فيها الأردن وإسرائيل، لبيعه بأسعار مجزية تحقق أعلى فائدة لمصر. وبعد تفجير خط الأنابيب في الجزء الواصل للأردن وإسرائيل للمرة الثانية في نهاية أبريل/نيسان 2011، رفضت مصر استئناف ضخ الغاز الطبيعي الذي كانت تمد به المملكة الأردنية، قبل التوقيع على اتفاق جديد يتم خلاله رفع أسعار الغاز المصري. وأوضح مسؤول أردني، أن الأردن يجري مفاوضات مع مصر التي تطالب بزيادة أسعار الغاز الذي كانت تحصل عليه المملكة بأسعار تفضيلية وفقًا لعقد أبرم بين الطرفين عام 2002 ويستمر لـ14 سنة. وبحسب المسؤول الذي شارك في إبرام العقد، أشار إلى أنه يتضمن إعادة التفاوض على السعر الجديد بعد انقضاء الفترة المذكورة وتطبيقه اعتبارا من عام 2019.

وكان الأردن يحصل على سعر مخفض يبلغ نحو ثلاثة دولارات لكل مليون وحدة حرارية بينما كانت تباع في السوق العالمية بسعر ستة إلى سبعة دولارات. بالمقابل، طالب الأردن باحترام العقد المبرم وبأن يتم رفع الأسعار فقط على الكميات الإضافية التي يطلبها الأردن. وقدمت مصر طلب لإعادة دراسة عقود الغاز التي أبرمتها مصر مع جميع الدول بما فيها الأردن وإسرائيل، لبيعه بأسعار مجزية تحقق أعلى فائدة لمصر.

في 31 مايو/آيار 2011، هددت شركة «أمپال» ببدء عملية تحكيم دولي ضد الحكومة المصرية بعد توقف صادرات الغاز الطبيعي المصرية إلى إسرائيل. وأضافت الشركة أن عملية التحكيم ستتم بموجب معاهدة مصرية أمريكية لحماية الاستثمار. وأوضحت أمبال أنها تحالفت مع شركاء دوليين لها في شركة غاز شرق المتوسط، منهم شركة «پي تي تي إنترناشونال» الدولية، في عملية التحكيم.

وفي 28 أغسطس/آب من نفس العام، أعلن وزير الطاقة الأردني أن بلاده ستوقع اتفاقية مع مصر في سبتمبر/أيلول 2011 لاستئناف صادرات الغاز المصرية، وأن الاتفاقية الجديدة تتضمن دفع سعر أعلى للغاز، لكنه رفض الكشف عن أرقام. وقال إن الهجمات هذا العام على خط الغاز المصري بسيناء الذي يزود إسرائيل وبلاده بالغاز قد تدفع بالأردن إلى التفكير في بدائل أخرى. لكنه أشار إلى أن بلاده سوف تسعى حاليا إلى استخدام الغاز المصري لسد احتياجاتها.


عودة الغاز المصري من إسرائيل بالأسعار العالمية

وفي الخامس والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2015 أعلنت الشركات الشريكة في استخراج الغاز من حقل «ليفياتان» في البحر المتوسط، أنها وقعت على وثيقة مع شركة «دولفينوس» لتصدير الغاز إلى مصر بواسطة أنبوب الغاز الموجود والذي تشغله شركة EMG. وقالت صحيفة «غلويس» الاقتصادية المسائية، إن المفاوضات شملت عدة نقاط، بينها تقدير حجم كمية الغاز التي ستصدر إلى مصر لا تزيد عن أربعة مليارات متر مكعب في السنة، ولمدة تتراوح ما بين 10 إلى 15 عاما.

ووفقًا لإعلان شركات «ليفياتان»، فإنه جرى تحديد سعر الغاز المصدر إلى مصر بحيث يكون مشابها لأسعار الغاز التي تحددت في اتفاقيات أخرى لتصدير الغاز من إسرائيل إلى أسواق إقليمية وبعد أن كانت مصر تعطيهم الغاز بخسارة تصل إلى مليارات الدولارات الأن تتفق إسرائيل على تصدير الغاز لمصر بالأسعار العالمية. والجدير بالذكر أن شركة «دولفينوس» وقعت مع الشركات الإسرائيلية التي تستخرج الغاز من حقل آخر، هو حقل «تمار»، وبلغت قيمة هذه الصفقة خمسة مليارات شيكل، وبموجبها يتم تزويد مصر بخمسة مليارات متر مكعب لمدة ثلاث سنوات.

وفي ظل ما تتعرض له مصر من ضربات اقتصادية قد تطيح بالاقتصاد الوطني الذي يعيش على القروض وودائع الدول لديه، فاجئت إسرائيل مصر بضربة اقتصادية هي المعضلة أمام القيادة الحالية حين قالت شركة الكهرباء الحكومية الإسرائيلية إن محكمين دوليين ألزموا الهيئة العامة المصرية للبترول والشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية (إيغاس) بدفع تعويض لها قيمته 1.76 مليار دولار بسبب تعليق إمدادها بالغاز الطبيعي. وفي نهاية المطاف كانت اتفاقية الغاز مع اسرائيل وبالًا على الاقتصاد المصري منذ الوهلة الأولى ومازال الاقتصاد المصري يعاني منها حتى الأن.