بعد عملها الروائي المميز «شجرة اللبخ»، تستمر الكاتبة «عزة رشاد» في انحيازها للأنثى، في مجموعتها القصصية الجديدة «حائط غاندي»، ولكن المرأة في نصوصها ليست معنية فقط بمشاكلها وقضاياها الخاصة، بل هي تتصدر البطولة في مشاهد شديدة الإنسانية، وتبوح وتتحمل قسوة ومرارة الواقع، سواء بالتحايل عليه أو بالهروب منه أو بتجميله في أحيانٍ أخرى.

اعتمدت رشاد في مجموعتها الصادرة مؤخرا عن دار «كيان» للنشر والتوزيع، على عدة تيمات، منها استدعاء الماضي، سواء أكان هذا الماضي تاريخا أوشخصيات، أو حتى أعمالا فنية أو روائية قديمة، فنجد «شجرة الدر» تتجول بين نصوصها، ونصوص أخرى تداعب مخلاة «المهاتما غاندي» وقلبه، وبوسطجي «يحيى حقي» ما يزال يمارس رغبته في تسرية الوقت بفض أسرار رسائله، وكرامات خوذة «روميل»، بينما تلهم لوحة «العشاء الأخير» لليوناردو دافنشي أحدهم لارتكاب جريمة انتقام، كما جاء في عدة نصوص، منها: «رسائل بظهر الغيب»، و«غبار»، و«حكاية لوحة»، و«خوذة روميل»، والقصة التي تحمل المجموعة اسمها «حائط غاندي».

لا تكتفي رشاد بالاستدعاء «السلبي» للماضي، بل أعادت رسم ملامحه، كما لو أن شخوصه خضعت لحتميات الواقع الحالي وتشوهاته. فغاندي يفتح مخلاته ويطيّر حمامة، ظلت شريدة سنوات قبل أن تجد من يستقبل رسالتها، صار هو خلال هذه الفترة مريضا بالفشل الكُلوي والهزال، لإضرابه عن الطعام بعدما فشل العصيان المدني أن يؤتي ثماره. في قصة «رسائل بظهر الغيب».

وأتاحت لشخصيات الماضي الفرصة لعرض وجهات نظرهم، والتي حملت في طياتها انتقاداً لاذعاً للواقع، فشجرة الدر التي تظهر فجأة في نصها «غبار» لتخبرنا؛ «لا تصدق. فمن قتلني هو كل رجل استكثر عليّ حكمتي وبراعتي في الحكم، وإدارة شئون الرعية»، بل إنها تؤكد أن التاريخ يعيد نفسه، ولكن من المعتبر؟

هذه شوارعكم، زمنكم، وهو نفس ما حدث في زمني. أصحاب المصالح، والمولعون بالسلطة أتوا بالعبيد والغلمان والمساجين وزعموا أنها تظاهرات شعبية





وكأن صوت الحاكم واحد في كل الأزمنة.

أجادت صاحبة «بنات أفكاري» استنطاق الجماد، وجعلته بطلاً كاشفاً لعورة الواقع وفضح أسراره، فأصبحت الحقيبة باباً مفتوحاً على طبائع وخفايا أصحابها، سواء أكانت مجرد «بقجة دمور» لمتسولة، تشبه مخلاة غاندي، أو حقيبة بيضاء بها العديد من الجيوب والثنيات، بالإضافة لجيب سري يكفي لشريط الحبوب، أو حينما أصبح الحذاء متحدثاً لبقاً ولكنه زائف عن حالة التحضر والتمدن في قصة «رسالة علياء»، وفي نصها «قبعة وبدائل أخرى» حينما عددت السيدة المريضة بالسرطان لنفسها فوائد القبعة التي تختارها بديلاً عن شعرها الذي سيتساقط جراء جلسات الكيماوي، مستدعية ذكريات الماضي القريب والبعيد:

سيعود الشعر، أكدوا لكِ، ولكن حتى لو.. لو لم يعد «حدثتِ نفسكِ» فيكفي الارتباك الذي سيصيب المخبر لدى رؤيته للقبعة، ويده التي ستتجمد قبلها، لأن نزع غطاء رأس امرأة يعتبر من الكبائر في بلادنا، ما سيعطيكِ الفرصة للمبادرة لتسديد لكمة قوية له ثم تولين هاربة، أما في حال حدوث ما يمنعك من المشاركة بالتظاهرة فستقوم قبعتك بتنبيهك لكي تفتحي عينيكِ، وتتابعا «أنتِ وهي» سير التظاهرة من شاشة العرض الكبيرة بالمستشفى.. الشاشة التي تشبه الحياة تماماً.

رسمت رشاد من خلال نصوص المجموعة القصصية لوحات إنسانية غاية في الجمال، رغم آلام شخوصها ورغبتهم اللحوحة في التمرد على الواقع المعيب بقسوته، وفشلهم في الأغلب، واختارت لذلك زاوية للرؤية غير اعتيادية، أضافت لأفكارها ونصوصها طزاجة وشاعرية، مثل التواطؤ الذي حدث بين «ليوناردو دافنشي» وبطلة قصة «حكاية لوحة» في انتقامها ممن أحبوها وكانوا في الوقت ذاته سببا لتعاستها رغم نواياهم الحسنة.

ومثل التلصص على مواقع التواصل الاجتماعي خلف اسم مستعار في قصة «تلصص على أنقاض»، وأيضا حزن المرأة في قصة «هذا البرام الفخاري القديم بالذات» على ضياعه والذي يكشف تباعا حزنها لحب وزمن وذكريات مفقودة مضت.

أستدعي الصبر وأحاول أفهمها مجدداً أن ما تقول عليه «مايسواش» هو عندي أغلى من الذهب والفضة، فيه رائحة الحبايب وأغلى الأيام، وكنت أرسله لأمهم بأحلى أكلة كل جمعة وهي مريضة، لأني أعرف إهمالهم عيالها، وحتى بعد وفاتها صرت أرسله لأبيهم بالأصناف التي يشتهيها، ولمّا مرض وعجز عن أن يؤكّل نفسه صرت أؤكله بيدي.. كل يوم.





من قصة «هذا البرام الفخاري القديم بالذات».

بدا كثير من القصص وكأنها تحمل ريح البكاء على الماضي، من خلال استخدام مفردات وذكريات وتفاصيل خاصة به، كقصص «هذا البرام الفخاري القديم بالذات»، الذي يحمل ريح غزة، و«السن الذهبية»، التي ينتصر فيها الواقع ببهرجته على الماضي، فتغيب «شادية» عن توديع خالتها التي عاشت في كنف خدمتها لمرضها عشر سنوات، بالفرجة على الفتارين بالمول الفخيم بالجانب الآخر من المدينة! بينما يحمل الماضي أحيانا ندبة في القلب والجسد، كالانتهاك الذي حصل لبطلة قصة «قطار» فاستدعته حينما تكرر المشهد أمامها، وكأن القطار كان يسير للخلف.

ولا يقتصر التنافس بين الماضي والحاضر فقط في قصص المجموعة، بل يمتد أيضا إلى تنافس الرغبات والأمنيات، وأحلام البشر التي تطلع للحصول على جسد «كلوديا كاردينالي»، وعقل «أينشتين»، وقلب «المهاتما غاندي» في قصة «حائط غاندي»، ثم يأتي الواقع مرة أخرى وتخيب الظنون فيتم التنازل تباعا عن الجسد والعقل، في حين ينتصر القلب. ومثل الرغبة التي تملكت بطلة قصة «عنوة» في الحصول على ساعة أو يوما إضافيا لعمرها، لإعادة ترتيب أعضائها، ولتعيد فيه ترتيب أولوياتها.

يوم آخر يلزمني لكي أنتف بقايا تفل اليقين من رموش أعين فاجأها المشيب قبل الأوان وسطا على سوادها، ولكي أرتدي جسدا آخر أعتق فيه المتع التي حرموني من ارتشافها حتى رعشتها القصوى. سأقتنص نفسا آخر، ميلادا آخر، قصيدة تزدري كل ما قيل من شعر.

استطاعت رشاد من خلال نصوصها تشريح الواقع، وتوصيفه، بمرارته وعنفه، ودهسه للبراءة والنفوس، كما عنيت رشاد أيضا برسم آلام البسطاء، في نصوصها، بشكل واضح، ومباشر، أحيانا ومغلفا بالسخرية في نصوص مثل «عفاريت النزلة»، التي اختارت لها رشاد تيمة فيها من الفانتازيا، ما تشير فيه إلى أضرار كثرة أبراج الهواتف المحمولة وسط المنطقة الشعبية في تضاد واضح بين الحالتين، حتى اكتشف الجميع الميزة الجديدة للواد روقة، والذي أصبح مثل قطبي الكهرباء ولديه قدرة على تشغيل الأجهزة الكهربية بمجرد لمسه، وكذلك في نصوص «جلد سلخته الشمس»، و«رسائل بظهر الغيب»، حتى تنمرهم على الأضعف فيما بينهم حاضر أيضا.

من الأفكار الرئيسية لنصوص المجموعة؛ العنف، والتطرف، والرغبة في الثورة، وممارسات إجهاضها، الثلاثي الذي تعاني منه مجتمعاتنا، في العديد من القصص مثل «رسائل علياء»، و«رسائل بظهر الغيب»، و«الشارع»، و«سويتر جلد بني»، و«رسم بقلم رصاص»، فنجد في قصة «سويتر جلد بني» أحد أحراز قضية «قسم شرطة شرق»، السويتر المثقوب بأكثر من 20 ثقباً لطلقات نارية، وهو المشهد الذي يصيب إحدى الأمهات بالشك في ابنها الشاب فتسارع للاتصال به وتسأله عنه، بينما هو الشك الذي يتكرر أيضا لدى آخرين، فلم نعد نعرف هل السويتر المثقوب هو ملك للضحية أم القاتل، ولمَ أصبح الكل في دائرة الشك؟

يحدثها ويلاحظ دهشة عيني صديقيه لدى ذكر السويتر الجلد البني. ينظر إلى اليمين فيلمح عابرا مرتديا نفس السويتر، ينظر يسارا فلا يتسنى له سوى طرف السويتر. ينظر إلى أسفل، إلى أعلى

بجدارة نجحت رشاد في رسم خريطة إنسانية من خلال مجموعتها القصصية، كل قصة عالم متسع، حتى أنها اعتمدت أسلوبا أضاف غموضا إلى بعض نصوصها، وتطلب قراءة متأنية وثانية لنصوصها، وهو أسلوب أقرب للكتابة السردية الروائية، حيث اتساع رقعة المشاهد المتقطعة، والمتقاطعة زمنيا، بالعودة حينا للماضي، القريب أو البعيد ثم الحاضر، بالإضافة لتعدد وجوه شخصيات القصة الواحدة، فتصبح الأحداث كبطاقات البازل، التي على القارئ أن يعيد ترتيبها أحيانا، زمنيا أو على مستوى الشخصيات.