فجرت الحرب المباغتة على قطاع غزة في (2008-2009) أزمة قطرية-خليجية على إثر دعوة الدوحة إلى قمة عربية طارئة تبحث العدوان الإسرائيلي. فقد سارع العاهل السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز إلى الاجتماع مع حسني مبارك للخروج بجبهة رافضة لقمة الدوحة، ودعا إلى قمة خليجية طارئة استبقت قمة غزة بيوم واحد فقط لسحب البساط من تحت أقدام الدوحة. ساعات قلائل وإذ بوزير الخارجية القطري الأسبق حمد بن جاسم، يكشف مفاجأة من العيار الثقيل، حيث صرّح عن الضغوط السعودية-المصرية التي تعرض لها محمود عباس لإجباره على مقاطعة قمة غزة حين نقل في مؤتمر صحفي عن عباس قوله بأنه تم تهديده بـ «الذبح من الوريد إلى الوريد» إذا لم يتغيب عن القمة.

منذ تلك اللحظة؛ رسم الموقف القطري أوضح نقاط الافتراق عن المواقف الخليجية المسيَّرة سعوديًا بشأن الملف الفلسطيني، فالدولة الخليجية التي بقيت حتى عام 2009 تتمتع بعلاقات علنية مع إسرائيل على عكس علاقات ما تحت الطاولة لنظيراتها في الخليج، تمايزت مواقفها عن ما كان يُعرف بمعسكر الاعتدال العربي، وأصرّت على عقد قمة غزة الطارئة بمن حضر من الدول، وقد ضمّنت بيانها الختامي دعوات إلى تجميد المبادرة العربية للسلام وتعهدات مالية بإعادة الإعمار، وردّت على تغيب الرئيس الفلسطيني بإعطاء المجال لخالد مشعل ليلقي كلمة ضمن القمة في سابقة هي الأولى من نوعها.


تاريخ من التمايز

منذ حكم الأمير الوالد حمد بن خليفة، صنعت قطر سياساتها الخارجية على مبدأ اجتراح دور طموح يفوق قيود التاريخ والجغرافيا السياسية، وهيأت نفسها للعب دور الضامن والوسيط في العديد من النزاعات الإقليمية، وانتهجت الانفتاح الحذر على جميع الأطراف المتضادة في المنطقة، وعلى هذا النسق نظرت للقضية الفلسطينية من منظار مغاير لسياسات الرياض، فقد انفتحت باكرًا على الراحل ياسر عرفات بعد أن عاقبه الخليجيون طويلاً على موقفه المؤيد لصدام حسين إبان غزو الكويت، فزاره الشيخ حمد في قطاع غزة عام 1999 في أول زيارة لزعيم عربي للقطاع منذ عام 1967، وفي العام ذاته استقبلت قطر عددًا من قيادات حماس المبعدين من الأردن.

خرجت الدوحة عن الحشد الأمريكي المناهض لفوز حماس بانتخابات عام 2006، فانتقدت شروط الرباعية الدولية (هي بالأصل شروط أمريكية-إسرائيلية)، في وقت ذهبت فيه الرياض والقاهرة بعيدًا نحو تبني شروط الرباعية كأساس للمصالحة الفلسطينية وفك الحصار الخانق عن قطاع غزة. وعلى مدار سنوات الحصار، ساهمت الدوحة في إحداث انفراجات نسبية على الوضع الإنساني عبر تغطية عجز السلطة عن دفع رواتب الموظفين، وتقديم منح لتشغيل محطة كهرباء غزة وتشييد آلاف الوحدات السكنية فيها.

وبعد الثورات العربية، استقبلت قطر قيادة حماس التي اضطرت لمغادرة دمشق أواخر عام 2011، كما استقبلت قياديين آخرين عام 2015 بعد أن اضطروا لمغادرة تركيا عقب انطلاق مفاوضات تطبيع العلاقات بين أنقرة وتل أبيب، وكانت قطر تقدم على مثل هذه الخطوات في الوقت الذي اعتقلت فيه السعودية عددًا من الشخصيات الفلسطينية التي يُعتقد أنها على اتصال مع المكتب السياسي لحماس بين عامي 2014-2015، إلى جانب الكشف مؤخرًا عن اعتقال أحد عناصر المكتب السياسي لحماس خلال زيارته للمملكة بهدف تأدية مناسك الحج العام الماضي.


الإخوان أم حماس؟

تبدو عملية صناعة القرار السياسي وصفة غامضة في ممالك وإمارات الخليج التي يحكمها المنطق القبلي ومغامرات الرجال المتنفذين عوضًا عن تراتبية المؤسسات، لذا لا يمكن الجزم على وجه اليقين بالسبب المباشر الذي فجّر الحملة ضد قطر في هذا التوقيت. لكنّ تصريحات وزير الخارجية السعودي، عادل الجبير، التي قال فيها إن «الكيل قد طفح، وأن على قطر وقف دعمها للجماعات الإرهابية مثل حماس والإخوان»، ثم تصدّر أحمد المسماري الناطق باسم جيش حفتر المدعوم إماراتيًا، لاتهام حماس وكتائب القسام بالتورط في «أعمال إرهابية» في ليبيا، أكّد الكثير من الشكوك حول سبب رئيس من أسباب الحملة على قطر عنوانه حماس والإخوان.

وبالنظر لحال حركة الإخوان المأزوم منذ الانقلاب على مرسي، وانشقاق شرعية الحركة الأم في مصر إلى تيارين متصارعين، وانتقال عدوى الخلاف إلى إخوان الأردن، واضطرار الإخوان المغاربة إلى الانحناء أمام عاصفة الثورة المضادة والتخويف من الاستئصال، يتضح بجلاء أن الجماعة بظروفها الراهنة لم تكن لتشكل الهاجس الرئيس للسعودية والإمارات، وأن المقصود الأول بمثل هذا التحريض هو حركة حماس.

ويدعم هذا الافتراض ما كشفته رسائل البريد المسربة للسفير الإماراتي من سعيه لعرقلة إصدار وثيقة حماس الأخيرة التي قدمت صيغًا أكثر براغماتية واعتدالاً، إلى جانب وصف ترمب للحركة بالإرهاب وقرنها بجماعات مثل داعش والقاعدة خلال القمة الإسلامية-الأمريكية. والحقيقة أن استهداف قطر من بوابة دعمها لحماس، لا يكمن جوابه في حماس بحد ذاتها، إنما برؤية مهندس هذه الهجمة، الحاكم الفعلي لدولة الإمارات محمد بن زايد، وحليفه صاحب الحظوة داخل القصر السعودي محمد بن سلمان الذي يطمع بحملة علاقات عامة التي يسوّقها له ابن زايد لتحقيق طموحات تنصيبه ملكاً بعد والده.


الإمارات شرطي للمنطقة

محمد بن زايد

الشيخ محمد بن زايد آل نهيان

يرى محمد بن زايد أن الرديف لتقوية حكمه الواقع بين قوتين لا يُستهان بهما (السعودية وإيران) يكمن في الرعاية الخارجية الصلبة، وقد سوّقت الإمارات نفسها في العقدين الأخيرين كقاعدة متقدمة للولايات المتحدة في الحرب ضد صدام حسين وضد إيران، لكن مع حلول عام 2011 صار بن زايد يراقب بقلق ذبول الجاذبية التي تشكّلها بلاده للراعي الأمريكي بعد خفوت اهتمامه بالعراق واتجاهه نحو المفاوضات مع طهران، ليتبدّل اهتمامه لاحقًا باتجاه محاربة داعش والتركيز أكثر على الصين، تاركًا الحلفاء في المنطقة وحدهم في مواجهة «فوضى الربيع العربي» كما حصل مع القذافي وحسني مبارك.

أمام هذا الهاجس أرادت الإمارات إعادة إنتاج جاذبيتها من جديد عبر الدخول القوي من بوابة محاربة الإرهاب والتحول إلى شرطي يراقب ويعاقب خصومه السياسيين وفقًا لهذه التهمة، إلى جانب تسويق نفسها كعرّابة أمنية قادرة على تهيئة الأجواء لحل عقدة الشرق الأوسط العصية على الحل، وقد أدى انتخاب ترامب إلى تسريع هذه الطموحات فطار بن زايد إلى نيويورك بإيعاز من ترامب في ديسمبر الماضي بصورة غير معلنة ودون إذن إدارة أوباما، للتباحث مع كل من كوشنر وفلين وبانون حول مسائل المنطقة، ثم عاد وزار ترامب في البيت الأبيض منتصف مايو/أيار الماضي.

ومن الواضح هنا أن طموحات بن زايد في لعب دور أمني بالقضية الفلسطينية قد التقت مع أحلام ترامب باحراز إنجاز في هذا الملف مدفوعًا بالأفكار الصهيونية التي يعتنقها فريقه المهتم بالشرق الأوسط، لا سيما الثلاثي بانون-كوشنر-وفريدمان، الذين يعتنقون أفكارًا مطابقة لما يؤمن به اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل.

ومن أجل القيام بدور الشرطي الجديد في ملف الشرق الأوسط، ركزت الحملة السعودية-الإماراتية على مهاجمة قطر من بوابة دعمها للمقاومة الفلسطينية مختزلة في حركة حماس، وعمدت الحملة إلى شيطنة الحركة، والدفع باتجاه تجريدها من الدعم القطري وربما إخراجها إلى بلد آخر يسهل على إسرائيل فيه المساس بقياداتها إما بالتصفية المباشرة (في ساحات مكشوفة أمنيًا مثل لبنان أو ماليزيا)، أو عبر التصفية المعنوية (في حال توجههم إلى إيران).

كما ركزت الهجمة ضد قطر على مهاجمة الجزيرة والشبكات الإعلامية المدعومة قطريًا، بغرض فرض حالة من التعتيم وكي الوعي إزاء العديد من الملفات الخليجية أو تلك المتعلقة بفلسطين لا سيما في حال اتخاذ خطوات عدوانية ضد المقاومة، أو إزاء فرض صفقة سلام وتطبيع إقليمية بين العرب وإسرائيل صارت مقدماتها بارزة للعيان، إذ اتضح أن ترامب يشاطر الإسرائيليين الرغبة بأن يبدأ تحقيق السلام من الدائرة الواسعة (مع الدول العربية) ثم نحو الدائرة الأضيق (مع الفلسطينيين).

وبدا أن الرياض وأبوظبي تعمّدتا رفع سقف هجومهما ومقاومة سيناريو الوساطة بغرض إخضاع الدوحة وإجبارها على تقديم تنازلات فعلية في الملفات مثار الخلاف ومن بينها الموقف من حماس وفلسطين بالعموم، وبالتالي تفكيك حائط صد مهم إزاء أية نوايا لتصفية القضية الفلسطينية أو فرض سيناريوهات للترانسفير أو التوطين أو الاعتراف بالدولة اليهودية الكبرى ضمن صفقة سلام إقليمي، ولا شك هنا أن قطر كانت البداية التي قد يعقبها استهداف آخر لتركيا وإيران لتحييدهما عن هذا الدور.

ولسخرية الأحداث، فإن كليشيه «تحرير فلسطين يمر من دمشق» الذي عبّر عن استغلال إيران ونظام الأسد للقضية الفلسطينية، تلبّسته اليوم بعض أنظمة الخليج العربي التي باتت ترى أن ضمانة بقائها على العرش يمر من اللعب في مصير القضية الفلسطينية.