واشنطن 1968، ريتشارد نيكسون، المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة، يفوز بصعوبة على منافسه الديمقراطي هيوبرت همفري في انتخابات الرئاسة الأمريكية. يدرك نيكسون لذلك أن انتخابات الولاية الثانية لن تكون سلسةً، لذا لا بد من اللجوء إلى طريقة أخرى لتساعده على إنجاز الأمر. قرّر نيكسون

التنصت على محادثات

مقر الحزب الديمقراطي في مبنى «ووترجيت»، باستخدام أجهزة تسجيل مموهة تُلصق في مكاتب أعضاء الحزب.

واشنطن 2017، صار التجسس بالأجهزة المموهة تاريخًا، وأصبح اختراق البريد الإلكتروني أسهل وأسرع. في البداية، بدت المنافسة بين دونالد ترامب، المرشح الجمهوري لرئاسة الولايات المتحدة، ومنافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، محسومةً لصالح الأخيرة. لكن رسائل البريد الإلكتروني لهيلاري باتت فجأة في يد مكتب التحقيقات الفيدرالي.

يخبرنا هيجل أن الأحداث التاريخية الكبرى تُعيد نفسها مرتين.

يعقّب كارل ماركس

على هذه المقولة مؤكدًا إياها، ومضيفًا أن المرة الأولى للحدث تكون مأساةً، بينما تكون الثانية مهزلةً. ونحن الآن على أعتاب تصديق تاريخي على صدق الاثنين. يفصلنا عن الحدثين، المأساة والمهزلة، أربعة وأربعون عامًا وثمانية رؤساء.

رغم اختلاف الطريقتين، فإنهما حققتا المرجو منهما. نيكسون حصد فوزه المرجو على الديمقراطي جورج ماكجفرن. وترامب يجلس خلف المكتب البيضاوي الآن.


البداية


تبدأ نهاية نيكسون في 17 يونيو/حزيران 1972، حيث تم

القبض على 5 أفراد

داخل مبنى ووترجيت. البداية من شريط لاصق يضعه المتسللون على أقفال الأبواب لمنع إغلاقها، حين أزال الحارس الشريط اللاصق مرةً تلو الأخرى شك في أن هنالك شيئًا مشبوهًا يدور.

وصلت الشرطة على إثر بلاغ حارس الأمن لتُلقي القبض على الأفراد الخمسة، كانوا يزرعون أجهزة تنصت في مكاتب أعضاء الحزب الديمقراطي. ثم في 15 سبتمبر/أيلول 1972، وُجِّه الاتهام إليهم رسميًا مع شخصيْن آخريْن بالسرقة والتجسس والاقتحام. ثم في يناير/كانون الثاني 1973، صدرت الأحكام ضدهم.

الشكوك تحوم حول تورط نيكسون شخصيًا في المسألة لكن دون إثبات. لكن بعد شهرين من صدور الأحكام أطلق جيمس مكورد رصاصة اليقين على تلك الشكوك، إذ أرسل رسالة إلى القاضي يخبره بتورط جهات حكومية كبرى في القضية. تزامن ذلك مع نشر صحيفة واشنطن بوست لوثائق تؤكد ما أرسله مكورد. حصلت الصحيفة على تلك الوثائق من مصدر يُسمى ديب ثُروت Deep Throat (الحنجرة العميقة)، عُرف في 2005 أنه كان نائب مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي مارك فلت.

في يناير/ كانون الثاني 2017، قبل أن يبدأ ترامب مهام منصبه الجديد، قام مكتب مدير الاستخبارات الوطنية بإعداد تقرير يؤكد أن ثمة تدخلًا روسيًا حدث في الانتخابات عبر التأثير على الرأي العام، ثم عبر اختراق رسائل البريد الإلكتروني لحملة هيلاري كلينتون. تبعته تأكيدات من وزارة الأمن الداخلي بأن ذلك قد حدث. فلم يعد السؤال هل حدث أم لا؟ بل صار هل كان ترامب على علم به أم لا؟ وهل رتب بنفسه ذلك أم لا؟

اقرأ أيضًا:

ترامب يرقص العرضة السعودية، والبيت الأبيض يبحث إجراءات عزله


تقشير البصل

تتبع الحسابات المالية للمُدانين السبعة أفضى إلى علاقة تربطهم مع ممولي حملة إعادة انتخاب نيكسون. هذا التتبع البطيء، لكن المثمر، جعل آرشيبولد كوكس، المحقق الخاص في القضية، يتوسع ولا يقف عند حد إدانة المقبوض عليهم. توصلت تحقيقاته إلى وجود نظام لتسجيل المكالمات في البيت الأبيض وضعه نيكسون، طالبت لجنة التحقيق به.


رفض الرئيس

في البداية مستخدمًا سلطته التنفيذية، لكن مع الضغط اُضطر البيت الأبيض إلى تسليمها. تم التسليم بعد حذف مقاطع منها، وحجب وكالة الاستخبارات لأجزاء أخرى. ثم في 30 يوليو/ تموز 1973، تم الكشف عن محتوى الأشرطة كاملًا بعد أن أصدرت المحكمة العليا قرارها بعدم أحقية البيت الأبيض في حذف أو عرقلة تسليم الأشرطة.


يمكن وصف آلية عمل المحققين بأنها آلية تقشير البصل، تبدأ من الخارج طبقةً تلو طبقة وصولًا إلى المركز. هي ذاتها السياسة التي اتبعها كوكس منذ 44 عامًا، واتبعها روبرت مولر، المحقق الخاص في التدخل الروسي، بعد 44 عامًا. ليصل مولر إلى ترامب، اضطر إلى المرور عبر أكثر من

23 مسئولًا حيويًا

، والعديد من الشخصيات الثانوية.

بدأ بجيف سيشنز، المدعي العام والمشارك في حملة ترامب الانتخابية،

واستطاع مولر

إثبات أنه التقى مسئولين روس مرتين على الأقل مع السفير الروسي أثناء الحملة. ثم حقّق مع جيمس كومي مستغلًا خلافه مع ترامب، ومن بعده تحدث مع مايكل فلين، مستشار الأمن القومي، الذي ثبت كذبه على مكتب التحقيقات الفيدرالي بعد عام. ثم انتقل إلى طبقة أشد خطورة

بتحقيقه مع جاريد كوشنر

، صهر ترامب ورسوله إلى الشرق الأوسط.

بعدها دخل شون سبايسر، المسئول الصحفي في البيت الأبيض، على خط التحقيقات، ثم جورج بابادوبولوس، مستشار السياسة الخارجية، الذي ثبت كذبه في التحقيقات. وأخيرًا عثرَ على جورج نادر الذي ربط به بين الإمارات وروسيا، ثم بين الاثنين والانتخابات الأمريكية، ما مكنّ مولر من عزل نادر عن ترامب.

اقرأ أيضًا:

شهادة كومي: ترامب قد يلقى مصيره لكن هناك ثغرة تحميه من العزل

كما نالت مخالب مولر العديد من

أعضاء هيئة الدفاع

عن ترامب، ما اضطرهم إلى الإدلاء بشهاداتهم أو الاستقالة من هيئة الدفاع والتنحي جانبًا. إلا أن الضرية القاضية أتت من مايكل كوهين، محامي ترامب، بعد أن أخضعه مولر للتحقيق بتهمة التهرب الضريبي وانتهاك قانون الحملات الانتخابية. ثبتت إدانته في تلك التهم، فتعاقد مع مولر للحصول على أحكام مخففة في هذه القضايا شريطة أن يُدلي بكل ما يعرف عن ترامب، وكوهين يعرف الكثير.

نجحت الاستراتيجية في الحالتين بالوصول إلى المركز عاريًا من أي خطوط دفاع. الرئيس والمحقق وجهًا لوجه، لا يمتلك الرئيس أي شيء، بينما يمتلك المحقق سيف الشهادات الموثقة، والأدلة التي حصل عليها عبر تتبع شبكات متداخلة من العلاقات. وفي حالة ترامب، فقد جعلت معاملته الباردة لرفاق حملته ومستشاريه الأمرَ سهلًا بشدة على مولر، فترامب لا يدين بالفضل لأحد، لذا لا أحد يدين له بالولاء.


مذبحة ليلة السبت

بعد قرابة العام من التحقيقات قرر نيكسون في 20 أكتوبر/ تشرين الثاني 1973

إقالة المحقق الخاص

. كان تدخلًا غير مسبوق من رئيس أمريكي في تحقيق جارٍ، لذا أعلن إيليوت ريتشاردسون، وزير العدل حينها، ونائبه بيل راكلشاوس، استقالتهما على الفوز احتجاجًا على هذا التدخل. هذه الاستقالات المتتابعة جعلت الإعلام يُطلق على ما حدث «مذبحة يوم السبت».

10 مايو/آيار 2017، تتكرر المذبحة، إذ قرّر ترامب إقالة مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي جيمس كومي. كان الدافع هو رغبة كومي في مزيد من التقصي وراء علاقة ترامب بالمسئولين الروس. لكن مذبحة ترامب لم تكن ليلة السبت فحسب، بل بدأ ترامب مذبحة الإقالات منذ الأسابيع الأولى لتوليه الحكم ولم تتوقف حتى الآن. نالت تلك المجزرة مناصب عديدة ومتنوعة. لكنه تلقّى إشارات حمراء كثيرة تحذره أن يُقدم على ما فعله نيكسون بإقاله المحقق الخاص.

الحدث تكرر كما قال هيجل، فأين المأساة والمهزلة كما قال ماركس. المأساة أن مجزرة ليلة السبت كانت نوعًا من الاعتراض من قبل وزير العدل على تغول سلطة نيكسون، وتمدد سلطته فوق السلطات الأخرى. أما المهزلة فهي أن جيف سيشنز، وزير العدل الحالي ونائبه هما من

قدّما مذكرة

أوضحا فيها الأسباب التي من أجلها أُقيل كومي, ولم يُعلم حتى الآن هل كانت تلك المذكرة التي ظهرت فور إقالة كومي تبريرًا من وزير العدل ونائبه للإقالة، أم أنها كانت الدافع الأصلي وراءها.


النهاية

بعد ذلك بعدة أشهر، في 28 يناير/ كانون الثاني 1974

يُدان نيكسون

رسميًا بتهمة الكذب على مكتب التحقيقات الفيدرالي. وتتم الإشارة إليه في الحكم النهائي الصادر في مارس/آذار 1974 على المدانين السبعة، كمشارك في القضية، ما دفع الكونجرس إلى البدء في إجراءات عزله مع ارتفاع الأصوات المؤيدة لذلك. لذا لم يجد نيكسون بدًا من الاستقالة لينهي التحقيقات مبكرًا، ففائدة الشك في أنه شارك أو لم يشارك أحفظ للكرامة من الإثبات أنه شارك. في أغسطس/ آب 1974، تولى مكانه نائبه جيرالد فورد الذي أصدر عفوًا شاملًا عن نيكسون قائلًا إنه قد عانى بما يكفي.

أما في النسخة الحديثة من الحدث، فقد وعد ترامب أنه سوف يعفو عن نفسه حال ثبتت إدانته. ثم تطور الأمر مع اقتراب النهاية لتهديد صريح بانهيار أسواق المال والاقتصاد إذا عُزِلَ من منصبه، وسوف ينتهي المطاف بالشعب الأمريكي فقيرًا. ليس من المتوقع أن يستقيل ترامب سريعًا، بل سيبقى حتى الرمق الأخير. هذا الإصرار يُصعّب مهمة العفو الرئاسي عنه من نائبه مايك بنس حال توليه. وإذا استطاع ترامب المناورة حتى انتهاء ولايته الأولى، فليس من المرجح أن يصل إلى ولاية ثانية.