النفس كظاهرة منبثقة

إن منزلة علم الأعصاب من علم النفس كمنزلة علم الكيمياء من علم الأحياء، فإذا قمت باختزال الخلية الحية إلى مركبات كيميائية غير عابئ بالعمليات الحيوية التي تحدث بداخلها؛ فأنت بذلك قد أهملت الشطر الأكبر من خصائصها التي تجعلها على ما هي عليه.

كذلك النفس البشرية، إذا تم اختزالها في إشارات كهروكيميائية وأهملت ظواهرها السلوكية وتجربتها الذاتية؛ فأنت بذلك تصف إنسانًا آليًا مصنوعًا من أنسجة عضوية مستبعدًا العنصر الإنساني بالكامل من المعادلة. إذن فالمكونات العصبية هي بمثابة بنية تحتية لازمة لانبثاق السلوك الإنساني، لكنها لا تستطيع تفسيره بالكامل. هذا لا يعني أن الجمع بين العلوم النفسية والعصبية لا طائل من ورائه، بل يساعد على فهم أكثر دقة للوظائف العقلية.


كنا قد تكلمنا في

المقال السابق

عن المعوقات التقنية التي واجهت «فرويد» في سبيل التعبير عن العمليات النفسية باستخدام طب الأعصاب، مما دفعه لإنشاء علم التحليل النفسي، ولكن في العصر الحالي تم التغلب على هذه المعوقات نتيجة التقدم التقني الهائل.


وسنحاول من خلال هذا المقال شرح بعض ما توصل إليه «مارك سولمز» أستاذ ورئيس قسم علم النفس العصبي بجامعة كيب تاون ورفاقه من المهتمين بالجمع بين التحليل النفسي وعلم الأعصاب، فيما يعرف بعلم التحليل النفسي العصبي، وسنلاحظ كيف تستطيع الأبحاث الجديدة تغيير بعض المفاهيم التي ترسخت في أذهان المحللين النفسيين.

الـ«هو»

في البداية نحب أن نشرح بعض المصطلحات النفسية التي صاغها «فرويد» حتى يفهم القارئ ما توصل إليه «سولمز» من خلال الأبحاث التي تجمعت لديه. من منا لم يسمع بمصطلح الـ«Ego» أو الـ«أنا» من قبل؟ هذا المصطلح الذي أصبح جزءًا من القاموس اليومي للكثيرين. فالـ«Ego» هي لفظة لاتينية اختارها مترجم أعمال «فرويد» كترجمة لكلمة «Ich» الألمانية بمعنى «أنا».

إن النفس عند «فرويد» تتكون من ثلاثة عناصر كبرى، وهي الـ«هو» والـ«أنا» و الـ«أنا الأعلى». سنستخدم هنا مثالًا لشرح معنى الـ«هو» والـ«أنا».

تخيل معي أنك رضيعٌ لم يكمل شهرين من العمر بعد، فأنت لم تتكون لديك بعد أي خبرة عن العالم الخارجي، كل ما هنالك هي مجموعة من الاحتياجات الغريزية لديك التي يجب تلبيتها مثل الجوع لكي يبقى نظامك الحيوي مستقرًا، وأي اضطرابات تخل بهذا الاستقرار هي محفزات تصدر توترًا ما، ووظيفة الـ«هو» هي تفريغ ذلك التوتر ليعود النظام الحيوي إلى استقراره.

هذه المحفزات إما أن تكون داخلية مثل انخفاض مستوى السكر بالدم الذي يفرز بدوره توترًا بداخلك وهو الجوع، فتبدأ بالبكاء أو خارجية مثل ضوء ساطع الذي يسبب انقباضًا في قزحية العين لتسمح بمرور كمية أقل من الضوء حتى لا تحترق الشبكية. إذن فالـ«هو» في أبسط أشكاله هو جهاز يخفف من التوتر باستخدام ردود الفعل الانعكاسية «Reflexes» بدون أخذ العالم الخارجي وظروفه في الحسبان.

الـ«أنا»

كتب مؤلف كتاب «A primer of Freudian Psychology – تمهيدي في علم النفس الفرويدي» يقول:

«لو كان من الممكن تفريغ كل التوترات التي تحدث بداخل الكائن الحي عن طريق رد الفعل الانعكاسي، لما كان ثمة حاجة لأي نمو سيكولوجي يتجاوز الـ«هو»، فكما نعلم لا يوجد رد فعل ينتج طعامًا أو يأتي بشريك جنسي، فعندما تظهر انقباضات الجوع بمعدة الطفل، هذه الانقباضات لا تنتج الطعام تلقائيًا، بل تنتج القلق والبكاء.. ولهذا فردود الفعل الانعكاسية لا تكفي لتحقيق الأهداف التطورية الكبرى من بقاء وتكاثر».

من وجهة نظره فعلى الفرد أن ينهض ويضرب في الأرض بحثًا عن الطعام وعن ذلك الشريك ليستمر النوع البشري؛ من أجل ذلك تنبثق الـ«أنا» إلى الوجود.

إن الـ«أنا» تعمل كالرجل الناضج الذي يحاول ترويض طفل مندفع لكي لا يتهور، والـ«هو» مثل الطفل الذي يبدأ بالصياح والبكاء حتى تتحقق أمنيته غير عابئ بأي ظروف تحيط به، فمبدأ اللذة يحكمه. أما الـ«أنا» محكومة بمبدأ الواقع، فهي تأخذ في الحسبان الملابسات والظروف المحيطة وتحاول الوصول إلى ما يخفف التوترات الموجودة، عن طريق اكتشاف أو إنتاج الواقع عبر خطة تم تطويرها بالفكر والمنطق فيما يعرف بالعملية الثانوية.

الـ«هو» على سبيل المثال يريد أن يخفف من التوتر الجنسي عبر ممارسة العملية الجنسية، لكن الـ«أنا» تتحمل هذا التوتر وتضع خطة ما لإيجاد الشريك المناسب حتى لا يقع عقاب ما على الفرد جراء تفريغ ذلك التوتر في غير محله، فهي تعمل كوسيط بين الـ«هو» والعالم الخارجي. بقي لنا أن ننبه أن الـ«هو» عند «فرويد» يكمن في اللاوعي، أما الـ«أنا» وعملياتها فتقبع في العقل الواعي لدى الإنسان.

الـ«أنا جسدية»

يوجد على سطح الجسد العديد من المستقبلات الحسية التي تحول المحفزات المختلفة من حرارة ولمس وضغط وخلافه إلى إشارات كهربائية تسافر عبر ألياف عصبية إلى منطقة متخصصة بالقشرة المخية تعرف بالقشرة الحسية، وكل رقعة في هذه المنطقة موكلة بمعالجة الإشارات الصادرة من منطقة معينة ليتم إدراك هذه الأحاسيس المختلفة، لكن مساحة الرقعة الدماغية المسئولة عن الشعور في منطقة ما على سطح الجسد لا يتناسب حجمها بالضرورة مع حجم تلك المنطقة، فعدد المستقبلات الحسية هو الذي يحدد حجم تلك المساحة.



رأى «فرويد» أن الصورة التي تكونها القشرة الحسية الأولية وفي الدماغ بالاشتراك مع مناطق أخرى، تمثل صورتك الذاتية عن نفسك أو الـ«أنا»!

ولهذا نجد أن المناطق الموجودة بالقشرة الحسية المسئولة عن الشعور في اللسان أو اليد أو العضو التناسلي كبيرة بالمقارنة مع تلك المناطق المسئولة عن الشعور في الظهر؛ لأن تلك الأعضاء تحتوي على عدد أكبر من المستقبلات.

القشرة الحسية «Sensory Cortex»

القشرة الحسية «Sensory Cortex»

ولتوضيح ذلك قام علماء الأعصاب باستخدام كائن يعرف بـ«

homonculus

» -وهي لفظة لاتينية تعني الإنسان الصغير أو الأُنيسان. ظن الخيميائيون في بدايات القرون الوسطى أن من الممكن خلقه باستخدام منيّ الإنسان وبعض المكونات الحيوانية- لتوضيح حجم المناطق التي تمثل أجزاء الجسم في القشرة الحسية، فنجد أن جسد هذا الكائن غير متناسق البتة، فلسانه وشفتاه ويداه شديدو الضخامة مقارنة بجذعه؛ لأن المناطق التي تمثل اليدين واللسان والشفتين في المخ أكبر من تلك التي تمثل الجذع.

الأُنيسان القشري «Sensory Homunculus»

لقد رأى «فرويد» أن الصورة التي تكونها القشرة الحسية الأولية وفي الدماغ بالاشتراك مع مناطق أخرى، تمثل صورتك الذاتية عن نفسك أو الـ«أنا»! حيث كتب في الـ«أنا» و الـ«هو» يقول: «إن الـ«أنا» هي في المقام الأول «أنا جسدية».. إذا رغبنا أن نجد تشبيهًا تشريحيًا لها يمكننا أن نطابقها على أحسن وجه مع «الأنيسان القشري» لدى علماء التشريح»، إذن فصورة الجسد الخارجي تمثل الـ«أنا» عند «فرويد».

ماذا عن السطح الداخلي للجسم المتمثل في حالة أعضائه وفي توازنه الحيوي و تلك الأحاسيس التي تعكس الحالة الداخلية للجسد مثل الخوف والجوع والقلق الوثيقة الصِّلة بغرائز الإنسان؟ ما هو التكوين العضوي الذي يمثل هذا السطح الداخلي كما تمثل القشرة المخية السطح الخارج؟ إنه جذع المخ. و اذا استخدمنا لغة التحليل النفسي فالصورة الداخلية للجسد تمثل الـ«هو».

مصدر الوعي


إن التصنيف الذي اتخذه «فرويد» لوصف مكونات النفس الإنسانية تم إعادة استخدامه من قبل علماء الأعصاب لكن تحت مسميات مختلفة، فلقد قسم عالم الأعصاب «جاك بانكسب» الوعي في كتابه «The archaeology of mind – حفريات العقل» إلى وعي إدراكي يصدر من القشرة المخية –الـ«أنا» عند «فرويد»- ووعي وجداني يصدر من تحتها أي من جذع المخ –الـ«هو»-.



استنتج «سولمز» أن الفكرة السائدة التي تقول إن القشرة المخية هي مصدر الوعي هي ببساطة فكرة خاطئة؛ وهذا بدوره يؤدي إلى قلب ما توصل إليه «فرويد» رأسًا على عقب.

وإذا صح قول «فرويد» بأن الـ«أنا» هي مصدر الوعي والـ«هو» في ذاتها غير واعية، تكون القشرة المخية هي مصدر الوعي، ولكن الملاحظات التي تجمعت لدى «سولمز» تشير إلى عكس ذلك.

توجد حالة في علم الأعصاب تعرف بالـ«Hydranencephaly – موه استسقاء المخ»، وفيها تموت أجزاء من المخ أثناء الحمل وتُمتص القشرة المخية ليحل محلها السائل الشوكي، ولكن الملاحظات توضح أنه بالرغم من انعدام القشرة المخية، إلا أن هؤلاء الأفراد يعبرون عن السرور بالابتسام والضحك، وعن النفور بالاهتياج و تقويس الظهر والبكاء.

بل ويمكنهم تعلم بعض الأشياء عن طريق الربط بين أفعالهم والتأثيرات الناجمة عنها، كما أشار الباحثون في ورقة بحثية بعنوان: «Consciousness without a cerebral cortex: A challenge for neuroscience and medicine – وعي بدون قشرة مخية: تحد لعلم الأعصاب و الطب»، هذا يعني أنه بالرغم من غياب القشرة المخية فإن هؤلاء الأفراد لديهم شكل ما من أشكال الوعي.

مما سبق استنتج «سولمز» استنتاجًا خطيرًا قام ببلورته في ورقة بحثية بعنوان: «The conscious ID – الـ(هو) الواعية»، وهو أن الفكرة السائدة التي تقول إن القشرة المخية هي مصدر الوعي هي ببساطة فكرة خاطئة؛ وهذا بدوره يؤدي إلى قلب ما توصل إليه «فرويد» رأسًا على عقب، فلقد تبين أن الـ«هو» بحد ذاتها واعية، وأن الـ«أنا» ليست كذلك!

هذا يوصلنا إلى استنتاج «سولمز» التالي، و هو أن الوعي ليس إدراكيًا في صلبه، هو في الأصل شعوري؛ أي كما ذكرنا آنفًا، فالحالات الشعورية الصادرة من جذع المخ هي المادة الخام للوعي، وليس التمثلات الإدراكية الصادرة من القشرة المخية، وهذا المفهوم يعتبر ثورة في علوم الأعصاب.

تؤيد أبحاث عالم الأعصاب «جاك بانكسب» ما ذهب إليه «سولمز»، فلقد وجد «بانكسب» أن ثمة مجموعة من الأحاسيس الغريزية البدائية تشترك فيها جميع الثدييات، فإذا تم تنشيط الموقع الصحيح تشريحيًا يمكن استدعاء ميول شعورية متطابقة في جميع الثدييات، بما في ذلك البشر -على حد قوله- وهذه الأحاسيس هي: البحث، الشبق، الخوف، الغضب، الاعتناء، الأسى واللعب. هذا يُبين حضور الوعي لدى الثدييات التي تمتلك قشرة مخية أقل تطورًا من نظيراتها في الرئيسيات خاصة في الإنسان.

نأمل أن نكون نجحنا في توضيح الأسباب التي أدت إلى نشوء هذا الفرع الجديد من المعرفة المسمى بعلم التحليل النفسي العصبي، وبعض نتائج هذا العلم التي يمكنها تغيير بعض المفاهيم الأساسية في التحليل النفسي.

في الختام نحب أن نذكّر بما قاله عالم النفس البريطاني «بيتر فوناجي»: أن ما يستطيع البحث العلمي المشترك بين مختلف التخصصات مثل علم الأعصاب والتحليل النفسي فعله هو شرح وتفصيل الآليات العقلية التي تعمل على إنتاج الظواهر التي تصفها كتابات التحليل النفسي؛ أي رؤية الظواهر النفسية في مرآة علم الأعصاب.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.