نستطيع اعتبار «الحرية» القيمة الأساس التي يتمحور حولها عمل إيريك فروم بأكلمه، هذه القيمة التي كانت تحضر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي كأعظم تجسيد لـ«تناقض المظهر والواقع» كسمة من سمات المجتمعات الحديثة.

فرغم الحديث المعلن والظاهري والدائم عن هذه القيمة كأحد أهم مكاسب الأزمنة الحديثة، فقد كانت هذه القيمة هي الأكثر غيابًا عن واقع مجتمعات هذه الأزمنة. لذا فكما يرى آلن هاو بحق، فإن استبصار رواد فرانكفورت كان رائعًا حين أطلقوا على وضع هذه القيمة في المجتمعات الحديثة سمة السلب.

فنحن ووفقًا لهم نعيش في عصر «غياب الحرية» وليس عصر الاستبداد أو التقييد أو الاضطهاد؛ هذا لأن تلك المفاهيم كنقيض واضح للحرية لا تكفي للتعبير عن مظاهر الاستعباد الحديثة التي لا تني تتخفى وتتمظهر بالتحرر، فـ«من الممكن الآن لنقيض الحرية أن يسود دون أن يعلن عن نفسه»[1].

في هذا السياق تشكلت كتابات الفيلسوف وعالم النفس الألماني الأمريكي إيريك فروم، وكانت المهمة المنوط بها كأحد أعمدة الجيل الأول لمدرسة فرانكفورت، هي تقديم تفسير لعادات الامتثال تجاه «غياب الحرية» الحديث بطريقة «تتجاوز العادة الماركسية بالتعامل مع البشر كذوات مدركة عاقلة تستطيع حساب مصالحها الاقتصادية، وتتحرك انطلاقًا منها دون اعتبار لدور شعور الناس ومخاوفهم وحاجاتهم العاطفية في تحركهم»[2].

كل هذا عبر تقديم تحليل نفسي فردي وجماعي للمجتمعات الأوروبية في انتقالها من العصور الوسيطة للحداثة، وتحليل أثر تحلل البنى الوسطوية مثل العائلة والأسرة والكنيسة على الإنسان الحديث، وكيف كان لهذا التحلل وديناماكياته أثر كبير في نزوع الإنسان في العصر الحديث للامتثال لغياب الحرية بل لـ«الهروب من الحرية» وإطفاء قلقه الشديد جراء ذوبان هذه المرجعيات بالارتماء في أحضان الفاشيات والشموليات وحكم الخبراء ووسائل الأعلام وصناعة الثقافة كحل نهائي! أي «تقديم نظرية نفسية جماعية في الامتثال».

لكن الأهم والذي يميز اشتغال فروم في نقده للمجتمعات الحديثة ومحاولته الدفاع عن الحرية وإنقاذ الإنسان من التشيؤ وأنماط العيش التلقفية والاستهلاكية التي تشيع في هذه المجتمعات؛ هو الدور الذي يمنحه فروم للدين في محاولته تلك، ففروم لا يقيم تصوره لمسيرة التحرر الإنساني على أنها مسيرة تحرر من «الدين» كما كان يتصورها كثير من أركان الحداثة، بل يعتبر أن الدين هو أحد أساسات هذه المسيرة، بل وكذلك يقوم بتأويلات شديدة الجدة لفلاسفة طالما تمت قراءتهم وبصورة نهائية على أنهم لا ينظرون للدين إلا كعائق أمام التحرر والرشد.

تأويلات مؤداها كونهم لم يعترضوا على الدين بل على أحد صوره أي «الدين التسلطي» كما يعبر في «الدين والتحليل النفسي»، وهو الدين القائم على «الاستسلام لقوة تعلو على الإنسان، وفضيلته الأساسية الطاعة وخطيئته الكبرى العصيان، ويتصور الإنسان على أساس كونه عاجزًا وتافه الشأن»[3]، فعلى هذه الصورة فحسب من الدين انصب نقد الفلاسفة الإنسانيين وفقًا لفروم.

ما نحاول القيام به في هذا المقال هو بحث الدور الذي يعطيه فروم للدين في دفاعه الدائم عن الحرية وكيف يكون الدين دعامة أساسية في هذا الدفاع، وسنركز اشتغالنا هنا بصورة كبيرة على كتابه «أن تصيروا آلهة»، وهذا لسبيين:

الأول: أن هذا الكتاب يعد أشمل كتب فروم في التعبير عن رأيه في الدين وتصوره له.

الثاني: أن فروم في هذا الكتاب يقدم تطبيقًا لهذه الرؤية عبر قراءة تأويلية «إشعاعية» كما يسميها للعهد القديم، تعرض مسيرة الشعب العبراني اللاهوتية كمسيرة تحرر تتجلى في مجمل أبعاد هذا الدين، في تصوراته «إله غير مسمى» وفي قصصه «الفصح» وفي طقوسه «يوم السبت»، مما يجعله دينًا مطبوعًا بميسم الحرية.


«الحرية» عند إريك فروم

لكن ربما وقبل التعرض لهذا الكتاب ولرؤية فروم للدين وتفسيره لمسيرة الشعب العبراني كمسيرة تحرر، فإن علينا أولاً تناول مفهوم فروم عن «الحرية»، لنفهم لماذا ومن الأساس يعتبر فروم أن الحرية لا تزال قيمة ينبغي الدفاع عنها رغم كل الحديث عن وصول إنسان هذا العصر لأعلى درجات الحرية بعد تحرره من البنى الوسطوية التي كانت تقيده وتشل فعاليته، وتصوره لها بدلاً عن هذا على أنها قيمة «لا تزال تنتظر التحقيق» كما نفهم من كلماته في تقدمه «أن تصيروا آلهة».

لفهم هذا علينا التنبه لكون فروم يفرق بين نوعين من الحرية، «الحرية من» و«الحرية إلى»، فـ«الحرية من» هي حرية منشغلة بالتحرر من روابط يُنظر إليها كأساس للاستعباد واستلاب الإنسان وقتل استقلاله وفعاليته، وفعل التحرر هذا قد يتم دون السؤال عن «الحرية إلى»؛ أي دون سؤال عن اتجاه وأفق هذا التحرر.

هذا النوع من الحرية يتحول لنقيضه وفقًا لفروم، حيث إنه بالتحلل من الروابط التي تقيده لا تفقد فحسب تسلطها، بل كذلك تفقد الأمان والمعنى الذي توفره هذه الروابط والمرجعيات كنظام للفكر حيث «تصبح الحرية عبئًا لا يطاق، متماثلة مع الشك، مع نوع حياة يفقتد المعنى والاتجاه»[4]، ولا يمكن علاج هذا إلا عبر اللجوء لمرجعيات جديدة تتفاوت وضوحًا وخفاءً «تعد بتخفيف هذه الزعزعة ولو حرمت الإنسان من حريته».

عبر هذا الجدل بين الحرية ونقيضها يفسر فروم مسيرة الحرية في العالم الحديث على أنها «تحرر من»، أو بتعبيراته على أنها تاريخ ازدياد الهوة بين «الحرية من» و«الحرية إلى»، فهي تحرر من التقليد ومن السلطة ومن العائلة البطريركية ومن الخبرة البشرية ومن المؤسسات الدينية التي تدير الإيمان، لكن دون أفق لهذا التحرير، ودون أن يكون ثمة آفاق جديدة قادرة على تحقيق المعنى والأمان كأحد المحددات الجوهرية لعيش الإنسان في العالم.

رؤية فروم هذه تتجلى بوضوح في رؤيته المغايرة للإصلاح الديني اللوثري والكالفني، حيث لا يعطيه فروم هذا الإجلال الذي طالما أعطي له في التأريخ الكلاسيكي للتنوير كفاتحة لعصر «الحرية»، بل إن فروم يعتبر أن هذا الإصلاح مسؤولاً بصورة كبيرة عن «الهروب الحديث من الحرية»، وممثلاً لهذا الجدل بين «الحرية من» ونقيض الحرية.

فحين تم التخلص من «طقس الاعتراف» كوسيط كنسي بين الله والإنسان يهدئ من شعوره بالذنب في حضرة إله جليل أصبح الإنسان منفردًا أمام سلطة آلهية غير مفهومة، ولم يكن من الممكن تجاوز هذا اللقاء العنيف وما يتولد عنه من قلق إلا عبر الاتضاع الشديد والتسليم لمرجعيات دينية وغير دينية، فـ«بينما لوثر قد حرر الناس من سلطة الكنيسة، جعلهم يخضعون لسلطة أشد طغيانًا ألا وهي سلطة إله يصر على خضوع الإنسان الكامل وفناء الذات الفردية كشرط ضروري لخلاصه»، وهو وكما يقول فروم «حل مشابه في الكثير مع مبدأ الخضوع الفرد التام للدولة و «الزعيم»[5] كتجليات لخوف حديث من حرية صارت عبئًا مع غياب الأفق.[6]

هذا التفسير للحرية الحديثة كـ«حرية من» ولمآلات هذه الحرية مرتبط بتصور فروم للأنماط التي يقدمها العالم الحديث للإنسان كي يشكل من خلالها المعنى ويحقق عبرها الأمان، فهذه الأنماط مجتمعة تحت عنوان كبير هو ما يسميه فروم «نمط التملك»، فالحب والجنس والدين واللغة والثقافة والأمومة والأبوة ومجمل العلاقات البشرية أصبحت تدار وفقًا لهذا النمط الذي يقضي على قلق الإنسان عبر تعليمه «التلقف الدائم» و«الاستهلاك» و«التسويق» و«الإدارة الادخارية» الحصيفة لكل شيء حتى المشاعر البشرية.

ولكن التلقف والاستهلاك والتشيؤ وكل هذه الأنماط لا تستطيع إنهاء قلق الإنسان الجذري؛ لأنها تعتمد بالأساس على قوى خارجة عن الإنسان تعيد هي وباستمرار تشكيل حاجاته ورغباته واستعمارها عبر صناعة الإعلام والثقافة، مما يحول الإنسان «لرضيع أبدي»[7]، لذا لا يبقى سوى الاتضاع كحل أخير لتجاوز هذا القلق «المفضي للجنون» بصورة نهائية.

نستطيع أن نقول الآن ومبدئيًا وانطلاقًا من تصورات فروم عن الحرية وجدلها وأنماط تحقيق المعنى في العالم الحديث إن ما يريده فروم من الدين في مسيرة التحرير هذه هي نقل فعل التحرر من كونه «تحرر من» إلى كونه «تحرر إلى» وهذا عن طريق قدرة الدين كـ«نظام للفكر وإطار للتوجه»[8] على توفير أنماط «الكينونة» كآفاق تتحقق فيها الذات ويتخلق المعنى والأمان بصورة تعمل على إنماء الذات «وتراعي قوانين بناء الوجود الإنساني التي تحكم النمو الإنساني الأمثل»[9].


أن تصيروا آلهة

يصف فروم رؤيته «للدين» في كتابه «أن تصيروا آلهة» برؤية منطلقة من «إنسانية راديكالية»، والإنسانية الراديكالية فلسفة عالمية تنطلق من كون العيش وفقًا لنمط الكينونة -كنمط يتأسس على حرية الإنسان واستقلاله ويوفر أفقًا للمعنى ولتخلق الذات عبر إنمائها الدائم- هو الهدف الرئيس والمعنى الجوهري لحياة الإنسان، وأن هذه الأهداف هي الأهداف الجوهرية للأديان سواء تحدثنا عن الأديان التوحيدية أو كذلك عن أديان الشرق الأقصى وأيضًا تعاليم الحكماء والفلسفات الإنسانية الكبرى، هذه الرؤية الإنسانية الراديكالية هي التي تحكم تفسير فروم للكتاب المقدس كأولى التعبيرات المكتملة عن الديانات التوحيدية.

وكما يتضح من كون «الإنسانية الراديكالية» هي المنظور الذي يشكل فروم من خلاله نظرته للدين وللدين العبراني كموضوع لكتابه، فإن مفاهيم «الله» و«الإنسان» و«التاريخ» و«الطريق» ومعانيها في العهد القديم تصبح هي المفاهيم الرئيسة التي تدور حولها وحول العلاقة بينها قراءة فروم للعهد القديم كمسيرة تحرر.

يرى فروم أن مفهوم «الله» في العهد القديم هو مفهوم محرر للإنسان، وهذا من جهتين، الجهة الأولى تطور هذا المفهوم ومعه تطور «العهد» الإلهي مع الإنسان، والجهة الثانية «فكرة الإله اللا مسمى».

فإله العهد القديم وفقًا لفروم قطع على نفسه ثلاثة عهود متعاقبة مع الإنسان؛ العهد الأول هو العهد مع آدم، والعهد الثاني مع إبراهيم، والعهد الثالث مع موسى والشعب العبراني. وهذه العهود تسير في اتجاه استقلال الإنسان عن الله وتحرير قدراته، فبينما كان العهد الأول عهد إله غيور متأهب دومًا للتدخل في الكون وللانتقام عند زيادة الشرور، إلا أن العهد مع إبراهيم تبدل بعد «جدل» إبراهيم مع ربه حول تدمير «سدوم» و«عمورة»، فقد أصبح حكم الله للإنسان قائمًا على مبادئ الرحمة والعدل ومحددًا بها كوعد إلهي، ثم مع موسى يصبح الله المتكلم إلهًا للتاريخ لا إلهًا للطبيعة؛ أي أنه إله يتكشف عبر التاريخ كميدان لفعل الإنسان الذي أضحى “صورة الله” اللامحدود.

ومن الحاسم في هذه المسيرة هو الاسم الذي أعطاه الله لنفسه، فليست القضية هي «اختيار اسم مفارق «يهوه» بل كذلك إحاطة ذكر هذا الاسم بالمحاذير عبر تشريع عدم ذكر اسم الرب عبثًا»[10] كأحد الوصايا العشرة. يقول فروم إن عدم التسمية هدفها نفي التشيؤ تمامًا عن الله، ليصبح الله هو «اللامتشيئ اللا مسمى»، كمقابل لكل مسمى وكل متشيئ، وليست الوثنية من منظور كهذا سوى تشيؤ، «سوى تأليه الأشياء، وخضوع الإنسان لها»[11]، وعبادة أحد إمكانيات الإنسان بعد تجسيدها واكتمالها.

لذا كان لابد للتوحيد العبراني كدين يتحدد عبر مواجهة «الوثنية» أن يجعل اسم إلهه مخفيًا وقليل الذكر «يمكن الحديث لله في الصلاة لكن لا يمكن الحديث عنه» لينفي عنه أي تحديد، وهي رؤية في التنزيه تطورت حتى وصلت ذروتها في اللاهوت السلبي مع ابن ميمون وفقًا لفروم.

هذان المعلمان في مسيرة التوحيد العبراني «تطور العهد وظهور الإنسان كصورة الله» و«التحذير من ذكر اسم الله» يعتبران في رأي فروم من أهم الإمكانات لهذا الكتاب في مسيرة التحرر من «العبودية»، العبودية بمعناها الأعم والذي يرتبط بالتوثين والتشيؤ والصنمية كما ذكرنا. وإذا كان «تيليش» يعتبر أن مسيرة الدين هي مقاومة دائمة للتوثين أي لـ«خلق مواضيع هم أقصى زائفة»، فإن فروم يعتبر أن هذه المقاومة هي محور تاريخ الإنسان كإنسان.

فهذا التاريخ وفي طموحه للاستقلال والحرية والحياة يقاوم كل محاولة لخضوع الإنسان للأشياء أو لتثبيت إمكانات الإنسان عند نقطة ما، عصر ما، قوة ما، تفسير ما، في كلمة واحدة، يقاوم «خضوع الإنسان للميت»، وإنسان التوحيدية في مسيرته يقاوم كل هذا عبر إيمانه بإله حي دائمًا ومفارق لكل منتهٍ ومكتمل، إله يند دومًا عن كل تحديد، بلغة مستعارة من تيليش فإن رب التوحيدية هو «رب يعلو فوق الرب»، وهذا الإنسان الذي خُلق على صورته، يقلد أعماله بأن ينطلق دومًا في اتجاه الحياة لا الموت.

من خلال هذه التصورات كأساس للمعتقد العبراني في «الله» و«الإنسان» و«التاريخ» فإن فروم يقدّم تفسيرًا شديد الجدة والطرافة للتقليد العبراني عن «راحة السبت»، فبعدما يشير فروم لاستغراب أولي قد ينتابنا تجاه هذه الأهمية المعطاة لـ«راحة السبت» وذكْرها في الوصايا العشر كشعيرة مركزية بل وربطها «براحة الله»، فإنه يبدد هذا الاستغراب عبر تفسير هذه الأهمية عن طريق ربط «الراحة يوم السبت» بـ«نمط الكيونة» كنمط متولد من رفض الصنمية والفشتية والتملك، ومؤسس للانطلاق الدائم لتحقيق الذات عبر ما يحييها، عبر (الحب والخلق والانفتاح) لا ما يميتها (التلقف والقنص).

فلأن العمل الرئيس للشعب العبراني كان الصيد والقنص من البحر، كان لابد من يوم للراحة، يوم لا تقوم فيه العلاقة مع الطبيعة على القنص والتملك، بل على الكينونة، على الانفتاح والتفهم والمتعة والحياة كنمط محرر للذات، من هنا كان لـ«راحة السبت» كل هذه الأهمية، وأصبحت وصية وشعيرة مركزية في اليهودية، إذ هي تحيين دائم لعمق هذا الدين، مقاومته للتشيؤ والتوثين والموت.

من نفس المنطلق يفسر فروم طقوس يوم الفصح، مثل «خيمة الاجتماع» وأكل «خبز الملة»، إذ يعتبر أن هذه الطقوس هي تحيين دائم لحدث الخروج من مصر، لإبراز عمقه باعتباره لا حدث؛ إذ هو خروج تاريخي حدث مرة وانتهى، بل حدث خروج روحي، دائم ومستمر؛ فهو «هجرة روحية دائمة» من الوثنية أنى وكيف تمظهرت، فالخيمة والخبز الجاف يذكرون اليهودي بأنه المهاجر الأبدي الذي «قطع الحبل السري بالأرض»[12] تجاه إله هو اللامحدود.

فالسمة المركزية للعهد القديم وللعبادات العبرانية وفقًا لفروم هي هذا التقابل الذي تصنعه بين الوثنية والتوحيد، بين الموت والحياة، بين إنسان خاضع للطبيعة ولما صعنت يداه وبين إنسان خُلق على صورة إله حي ولا محدود، بذا تصبح قيم هذا الكتاب ومبادئه دعامة أساسية للتحرر في عالم أضحى وكما يصفه فروم «متمحورًا حول الأشياء»[13] أي حول الموت وفقدان الذات وارتهان الأنسان للعماء واللا عقل.


مبادئ تأويلية فروم

لتأويلات فروم التي ذكرناها للعهد القديم ولمسيرة الشعب العبراني كثير من المزايا في الحقيقة؛ أولها أنها تأويلات ورغم انطلاقها من تحليل لمفاهيم «الله» و«الإنسان» و«العهد» و«التاريخ» من داخل النصوص التوراتية، إلا أنها لا تهدر العلاقة بين النصوص وبين الشعائر، التي تعد هي العيش لهذه المفاهيم، وهذا انطلاقًا من رؤية فروم للتدين العبراني كتدين لا يقوم على تصور الله بل على تقليده[14] باعتبار أن الإنسان هو صورة الله، وظننا أن هذا ينسحب على العمل الديني في كل دين.

فتصورات دين لا توجد إلا معاشة، وتصبح الطقوس طريق طبع هذه التصورات على «الجسد العبادي» ليعاد صرفها في «الجسد اليومي» بتعبيرات الزاهي لطبع كل الحياة بقيم الدين المركزية، هذا وإن كان حديث فروم عن «تقليد الله» وارتباطه بكون الإنسان «صورة الله» يعطي لهذا المبدأ العام في ربط المعتقد بالشعيرة والذي تجمله مقولة كايو «الطقس هو المقدس معيشًا» دلالة أخص.

كذلك فمن مزايا قراءة فروم أنها قراءة لا تهدر وحدة النص التوارتي، فرغم أن الحديث هنا عن نصوص كتبت لقرون متتالية، لكن مع هذا فإن فروم يقرؤها كوحدة واحدة ويعتبر أن المركز الرئيس للنص التوراتي كان دائمًا ما يشد بقية محاور النصوص مهما ازدادات أو تنوعت مصادرها؛ لذا فإن كل كلمة داخل هذا النص الكبير تأخذ دلالتها من خلال علاقتها مع بقية النص، وفروم يضرب لهذا مثلاً بمبدأ «تحريم التصوير»، فهذا التشريع ربما كان أصله عادة ما لأحد القبائل السامية تمنع صنع صورة للإله، لكنه داخل النص العبراني أصبح له دلالة خاصة، هي نفي التصوير والشيئية عن الله والتأكيد على إطلاقيته.

هذا المبدأ المنهجي «أي وحدة النص» شديد الأهمية في ظننا في قراءة النص التوحيدي، حيث إن المفاهيم العقدية الجوهرية للتوحيدية تظل حاسمة ومفتاحية دومًا في فهم نصوصها، وهذا انطلاقًا من كون التوحيدية بالأساس «تمييزية» كما يشير يان إسمان، وهو ما نفهمه بمعنى أن مضمونها السلبي بنفي ما لا يتفق معها أهم وأسبق على جانبها الإيجابي؛ مما يجعل للنص التوحيدي دومًا القدرة على ضم أطرافه تجاه مركز تمثله أهم مفاهيمه «التمييزية».

بالطبع فإن هذه القراءة من فروم تظل قراءة شديدة الأهمية لا فقط من حيث مضمونها وتصورها لتحريرية الدين التوحيدي الدائمة، لكن أيضًا وخصوصًا من حيث المبادئ التأويلية التي تتحرك بها لقراءة العهد القديم، إلا أن ثمة نقطة رئيسة في تصور فروم للدين لا نراها وجيهة بالقدر الكافي، وهي نقطة ممكن التقاطها بوضوح في معظم كتبه عن الدين –بل حتى عن غير الدين[15]-، وهي أن فروم يحذف تمامًا من تصوره للدين المحرر عناصر الخشية والرهبة والحيرة والتبعية، حيث يربطها بـ«التأويل التسلطي» للدين كمقابل لـ«لتأويل الإشعاعي» له أو «الدين التسلطي» في مقابل «الدين الإنساني».

فهذه العناصر وفقًا لفروم تقف سدًا أمام حرية الإنسان وانفتاحه وسعادته ومجمل مبادئ وأهداف «الإنسانية الراديكالية». ونحن لا نوافق فروم على هذه الرؤية في الحقيقة، وظننا أنها رؤية تحمل خلطًا بين عناصر الدين وبين أنماط التدين اللي يواجهها فروم، ونحن نستطيع فك هذا الاشتباك عن طريق اللجوء لتفريق بارع وضعه تيليش بين «مقدس الوجوب» و«مقدس الوجود»[16].

فما يعترض عليه فروم هو غالبًا ما ينتمي لـ«مقدس الوجوب»؛ أي تمظهر المقدس كآمر تقوم العلاقة معه على «الطاعة والخطيئة والعصيان والذوبان في سلطة غير مفهومة» وفرض قوانين على الإنسان من خارج طبيعته، وهي الرؤية التي طالما اعتبرها فروم جوهرًا للبروتستانتية وصب عليها نقده الدائم وحملها الكثير من اختلالات العصر الحديث.

لكن هذه السمة لا تستوعب تمامًا حضور عناصر الخشية والرهبة في الدين؛ لأن هذه الشعورات ترتبط وبصورة أكبر بـ«مقدس الوجود»؛ أي بما للاختلاف الأنطولوجي بين الإنسان والله من طابع جذري، وهو مفهوم مركزي في الشعور الديني تجاه تجلي الألوهة، لذا فقد شكّل هذا المفهوم جانبًا رئيسًا في كثير من تعريفات الدين، مثل تعريفات شلايماخر وهواتيهد وستيس، وأولاه أوتو في تقصي القدسي أهمية كبيرة، لذا فقد اعتبر سمة «المهيب» سمة أساسية في تجلي المطلق كـ«سر» تمامًا مثل سمة «الخلاب»، مما يجعل شعور «المهابة» شعورًا أصليًا في التجربة الدينية إلى جوار «الجذب» والغبطة التي يحتفي بها فروم كثيرًا.

وعلى خلاف فروم فنحن لا نرى أن شعور الخوف والرهبة تجاه موضوع الإيمان كسِرّ مهيب وجذاب شعورًا ارتكاسيًا أو عائقًا أمام حرية الإنسان واستقلاله وإنماء ذاته، فهذا الشعور لا يعني الهلع الذي يشل الفعالية بل هو شعور أقرب للتوقير، خصوصًا لو كان حديثنا عن المقدس التوحيدي المحذوفة منه عناصر الشيطنة والتدمير والمتماهي مع العدل والخير والجلال كما يشير تيليش[17].

ونظن أن لطبيعة الألوهة كـ«سر» «كآخر تمامًا»-بهيبته وجذبه- طابع تحريري، إذ تعمل لا على إلجام العقل بل على تحريره من التشيؤ ومن الأداتية ومن التوثين عبر وصل العقل بالمخيلة وتحفيز خلق العوالم السردية التي تزيد الإنسان فهمًا لذاته ولآفاق من الكون لا يكفي العقل المنطقي «وقواعد التفكير الجاهزة والمكتملة» لسبر أغوارها لانفتاحها على عالم «الأزل» الذي يتعطل فيه عمل قوانين «الزمان»[18]، هذا الذي يجد فيه الإنسان بدء وجوده ومرجعه وأفق حريته.



[1]

آلن هاو، النظرية النقدية، ص18.


[2]

نفسه، ص57.


[3]

إيريك فروم، الدين والتحليل النفسي، ص36.


[4]

إيريك فروم، الخوف من الحرية، ص37.


[5]

نفسه، ص73.


[6]

لعل هذا التفسير من فروم يذكرنا بتفسيرات أخرى مشابهة، مثل تفسيرات لاش وأدورنو لتأثير انهيار العائلة البطريركية على تهيئة البنية النفسية لتقبل الفاشيات ونشأة “النرجسية الزائفة”.


[7]

الإنسان بين الجوهر والمظهر، ص39.


[8]

إيريك فروم، الإنسان بين الجوهر والمظهر، ص127.


[9]

نفسه، ص72.


[10]

إيريك فروم، أن تصيروا آلهة، ص38.


[11]

إيريك فروم، “الدين والتحليل النفسي”، ص106.


[12]

أن تصيروا آلهة،ص77.


[13]

الإنسان بين الجوهر والمظهر، ص33.


[14]

أن تصيروا آلهة، ص58.


[15]

حذف عناصر الرهبة والعتمة والمجهول غير مقتصر على قراءة فروم الدين، بل إن هذا يصدق أيضًا على قراءة فروم لفرويد، حيث يعيد فروم تأويله كأحد دعاة الإنسانية الراديكالية والمؤمنين بالحب والانفتاح والعقل والإنسان، وهي قراءة تحذف الكثير من العناصر في عالم فرويد، مثل ارتهان العقل للاوعي ومثل اعتباره الموت كغريزة أساسية إلى جانب غريزة الحياة كمبادئ فوق مبدأ اللذة.


[16]

بول تيليش، بواعث الإيمان، ص68.


[17]

بواعث المقدس، 22.


[18]

إشارة إلى التفريق الشهير الذي وضعه الفيلسوف الإنجليزي ولتر ستيس بين “عالم الزمن” الذي يخضع لقوانين الزمان والمكان والعلية وانفصال الذات عن الموضوع و”عالم الأزل” الذي تغيب فيه هذه القوانين، وهو العالم الذي تتحدث عنه تجارب الأنبياء والمتصوفة.