هذا المقال يُنشّر ضمن

مسابقة «إضاءات»

وأسبوع العلوم المصري للمقال العلمي/التقني.


على غير العادة وقف رئيس القسم بعد نهاية محاضرته ليضع قبعته على رأسه متأنقًا ثم أخبرنا: «بعد قليل نحن على موعد مع محاضر فريد من نوعه، إنه عالم يبحث في أسباب مرضه، لا يفوتكم حضورها». كنت أنا على موعد هام لا يسمح لي بحضورها لكن بينما أسير في ممرات القسم متوجهًا للخارج أتيح لي رؤيته، دكتور فرانسس سيمث.

في مكان آخر وأمام طابور انتظار لشراء المثلجات تقف راكيل جارميلو وهي تحاول أن تتدارك بكاء ابنها عندما رأى فتاة صغيرة يحمل وجهها ندبات وملامح مختلفة عن باقي الأطفال ولم يستطع هذا الطفل سوى البكاء كفطرة طبيعية لما رآه. تحاول الأم إبعاد ابنها بشكل لائق لكن ينكشف تصرفها بوقوع المثلجات ومشاهدة الجميع. شعرت بتأنيب كبير يومها فأخذت تستمع راكيل لعبارات أغنية «أعجوبة» لنتاليا ميرشنت وهي تقول: «من مدن بعيدة أتى الأطباء لرؤيتي، بجوار سريري وقفوا غير مصدقين، قالوا مؤكد أني من عجائب الإله». على وقعها دأبت راكيل لتأليف رواية أصبحت ذائعة الصيت حملت نفس اسم الأغنية وترجمت أعمالها إلى فيلم بدأ عرضه منذ فترة تتجسد فيه الممثلة جوليا روبرتس كــأحد أبطاله.[4،3،2،1]

لا أجد وصفًا أفضل من هذا، فحقًا يجب أن يطلق على أمثال الدكتور فرانسيس وهذه الفتاة الصغيرة «الأعجوبة». فقد أتى لعالمنا مثل هذه الطفلة الصغيرة بلا أذن وبلا عظام وجه وفك مكتملة، بل وغير قادر على التنفس. أضف إلى ذلك تخلي أسرته عنه وعرضه للتبني. أجريت له العديد من الجراحات رغم الشكوك في قدرته على البقاء حيًا، ولكن في نهاية المطاف مكنته من استكمال حياته ليصبح حاليًا ما هو عليه؛ باحثًا بارزًا في مرضه وصوتًا قويًا لرفاقه أمام العالم.[6،5]

فرانسيس سميث, تقدم في العمر

لقطات للتغييرات التي مر بها وجه فرانسيس خلال مراحل عمره

بداية تعرفنا على هذا المرض جاءت من دراسة طبيب العيون الإنجليزي أديسون تريتشر لجماجم الأطفال في المتحف التشريحي التابع لإحدى المستشفيات بلندن. أبدى اهتمامًا لأمراض العين وتوارثها في تاريخ عائلات بعينها وساعد بحثه على التعرف على متلازمة معينة من الأعراض تصيب عظام الوجه والفكين والأذن والعين. تكرر توارث هذه الأعراض في أجيال عائلات محددة فأطلق على هذه المتلازمة «متلازمة تريتشر كولينز» نسبة إليه[9،8،7]. وجد بعد ذلك أن المرض قد يكون وراثيًا وقد ينشأ أيضًا تلقائيًا بدون تاريخ سابق في العائلة وهو ما يمثل أكثر من 60 في المائة من الحالات.[10]

إدوارد كولينز, فرانسيس سميث, جراح, عظام

رسمة توضح مشاكل عظام رأس فرانسيس سميث (يمين)، والطبيب «إدوارد تريتشر كولينز – Edward Treacher Collins» التي رسمها.

نتيجة لمرضه وبعد أكثر من 20 عملية جراحية وجلسات تأهيلية وأجهزة سمعية، عرف سميث أين ستكون وجهته. ركز اهتماماته بالتشريح والأحياء ورغب في أن يمارس الجراحة للمصابين بمثل حالته مستلهمًا ذلك من فرق الجراحة التي مر عليها، ثم يتذكر أثناء دراسته في المرحلة الثانوية عن تلقيه أخبارًا عن اكتشاف البروفيسور مايكل ديكسون للجين TCOF1 كأحد أبرز الجينات المسؤولة عن المرض فأضاف لاهتماماته دراسات الجينات.[5، 11]

الأم: أنت لست قبيحًا ومن يهتم لأمرك حقًا سيرى ذلك.

الطفل: فقط تقولين ذلك لأنك أمي.

الأم: لأنني أمك هذا أعظم ما يمكن أخذه في الاعتبار؛ لأنني أعرفك جيدًا.

لعل هذا المشهد من الفيلم يلخص جزءًا من الظروف التي مر بها فرانسيس وكيف تغلب عليها بصنع دائرة من أحبائه وأسرته، فتمر الأيام ويجتهد الطفل رغم ما واجهه من سخرية وتنمر ويكافأ على كفاحه بالسفر إلى لندن لكن هذه المرة كطالب جامعي ليتعلم ويشارك في أبحاث الأمراض المسببة لتشوهات الوجه والفكين وحظي أيضًا بفرصة للقاء البرفسور ديكسون مكتشف الجين الذي سمع عنه.[5]

في نفس الوقت تسارعت الأبحاث المتلاحقة عن المرض بعد ذلك خاصة بعد التطورات في مجال الوراثة وعلوم بيولوجيا التطور سعيًا لاكتشاف أسبابه وبالتأكيد علاجه. تخيل معي الشكل المعتاد للجنين في مراحله الأولى وبالتحديد ما بين الأسبوع الخامس والثامن، في هذه المرحلة تهاجر مجموعة كبيرة من الخلايا تسمى خلايا العرف العصبي من المنطقة التي ستشكل الجهاز العصبي المركزي في المستقبل إلى مناطق متفرقة منها منطقة الوجه لتبدأ في تكوينه وبنائه.

تشبه هذه الخلايا في هجرتها تساقط أوراق الشجر في مجموعات نحو وجهة معينة. ما توصل إليه العلماء أن المرض يحدث غالبًا نتيجة لطفرات في النوع الدماغي لهذه الخلايا أو ما يعرف باسم العرف العصبي القحفي (بالإنجليزية: cranial Neural crest cells). في داخل هذه الخلايا تحدث الطفرات في مجموعة الجيناتTCOF1 ،POLR1C POLR1D وهي من الجينات الخدمية؛ أي المسئولة عن توفير الوظائف الأساسية لأي خلية.

تؤدي هذه الطفرات إلى خلل في أنزيم يسمى DDX21، وأيضًا تعمل على تدمير أجزاء من الحمض النووي وكلاهما ضروريان لتكوين الريبوسوم أحد أهم عضيات الخلية واللازم لتخليق البروتينات لكي تمارس الخلية وظيفتها وتحافظ على بقائها. في النهاية يدفع ذلك الخلايا المصابة بالطفرات لتفعيل مسار للتدمير الذاتي (Apoptosis) خاص بها دونًا عن باقي خلايا الجنين وذلك عن طريق بروتين يسمى P53، وبتدمير هذه الخلايا ينتج وجه غير مكتمل النمو يحمل كل هذه الندبات.[13،12،10]

رسوم طبية, طب, رأس الجنين

بدأ فرانسيس في شق طريقه البحثي وركز على دراسة جينات الأجنة لبعض الحيوانات والآلية التي يحدث بسببها نقص أو تدمير لتلك الخلايا المهاجرة.

تحدث بشغف في إحدى محاضراته عن مسعاه للمشاركة في تطوير علاجات وطرق للوقاية من أمراض تشوهات الوجه والفكين. تعقد آمال كبيرة كما يوضح د. فرانسيس على إمكانية الوقاية والعلاج التجديدي باستخدام الخلايا الجذعية لهذا المرض، بالإضافة إلى تطورات جديدة على مستوى التعديلات الجراحية[16،15،14]. يشارك أيضًا في التعريف بموسوعة شاملة جاري العمل عليها وتسمى Facebase، والتي ستكون منجمًا لكل البيانات البحثية عن الرأس والجمجمة لتكوين صورة شاملة والإسراع من وتيرة الأبحاث المتعلقة بها [18،17]. بالإضافة إلى ذلك يشارك في كثير من الفعاليات والأنشطة العامة لنقل تجارب أقرانه ونشر التوعية نحو حياة حقيقية رغم كل التحديات التي يتحملونها بخلاف الأشخاص العاديين. [5]

حتى لو لم يكن يملك وجها مكتملاً، لم يكتفِ د. فرانسيس بحياة مألوفة ومنعزلة أو أخرى يملؤها مجرد إلقاء محاضرات تحفيزية عما يحارب من أجله يوميًا ليكون فقط في نظر الناس شخصًا طبيعيًا، بل من العجب أنه أراد أن يشارك فعلاً بشكل فعال على كافة المستويات لإضافة أثر ملموس لكل من يعاني من مشاكل هذه الأمراض.

بإمكانك أن تتابع نشاطه وشغفه الذي لا ينضب من خلال عموده «مع فرانسيس سميث من المختبر» على مدونة خاصة بمؤسسة تدعى CSS للأطفال المرضى بتشوهات الوجه والفكين. بل أيضًا بإمكانك أن تستمع لإحدى مقطوعاته الموسيقية على البيانو وتقرأ مشاركته في كتابة افتتاحية رواية «أعجوبة».[6]

ختامًا، في أحد لقاءات الدكتور فرانسيس، حيث يجلس في مختبره فتسأله المحاورة: هل سألت من قبل لماذا أنا؟

فأجاب بصوته الذي يسعى جاهدًا لإيضاحه: ربما فكرت في ذلك في الماضي، لكني الآن أدرك أني هنا لغاية.[19]


المراجع




  1. ‘Wonder’ What It’s Like To Have Kids Stare At You?

  2. Wonder

  3. Children’s Middle Grade

  4. أعجوبة

  5. Dental medicine fellow changing image of craniofacial disorders through research and actions

  6. From the Bench with Francis: My Work

  7. EDWARD TREACHER COLLINS 1862-1932

  8. The History of Treacher Collins Syndrome

  9. Treacher Collins syndrome

  10. Treacher Collins syndrome

  11. Positional cloning of a gene involved in the pathogenesis of Treacher Collins syndrome

  12. المورثات الخدميّة Housekeeping Genes

  13. How Treacher-Collins Syndrome Facial Malformations Arise
  14. From the Bench with Francis:Metabolic Stress and Cell Death in Treacher Collins Syndrome

  15. Research gives hope to those with head and facial deformities

  16. From the Bench with Francis: Seattle Children’s New Technology for TCS

  17. My Life with Treacher Collins Syndrome and its connection to my research

  18. Comprehensive craniofacial data and resources

  19. Scientist At CU School Of Dental Medicine Is A “Wonder”