«حروب الجيل الرابع» مصطلح له رونقه الخاص. فاستعمالك لهذا المصطلح يضعك في كفة الخبراء الاستراتيجيين المخضرمين. ولو قفزت للمستقبل واستعملت مصطلحات من عينة حروب الجيل الخامس والسادس فأنت إذن خبيرٌ لا يشق له الغبار.

دع الخبراء الاستراتيجيين جانبًا ولنركز سويًا بعض الشيء. كما نعلم فالأكاديميون الأمريكيون مولعون بتقسيم كل شيء إلى أجيال؛ المقاتلات أجيال، والدبابات أجيال، والمفاعلات النووية أجيال، والحروب أجيال.

نحن الآن في زمن مقاتلات الجيل الرابع++ والجيل الخامس، ودبابات الجيل الثالث، ومفاعلات الجيل الرابع، وحروب الجيل الـ …


ويليام ليند صاحب الفكرة وصديق ترامب

سياسي أمريكي، من المحافظين الذين يروجون لاستعادة الجمهورية عن طريق إحياء العادات والتقاليد القديمة، نفس فكرة old is gold. نشر ليند في 1989م مقالة بعنوان «

The Changing Face of War: Into the Fourth Generation

» في مجلة «The Marine Corps Gazette»، قام بتقسيم الحروب إلى أربعة أجيال.

الجيل الأول: وهو الذي بدأ بعد صلح ويستفاليا 1648م ونشأة الدولة القومية الحديثة. اعتمدت الدول في تلك الفترة على البندقية الملساء والصفوف المتقاربة، وانتهي هذا الجيل من الحروب بعد الاعتماد بصورة واسعة على البندقية المحلزنة والمدفع الرشاش. وتعتبر الحروب النابليونية هي أبرز أمثلة حروب الجيل الأول.

حروب نابليون, الجيل الأول, حروب, معارك

الصفوف المتقاربة والبندقية الملساء من أهم خصائص حروب الجيل الأول

الجيل الثاني: حيث الجيوش المتحاربة بالبندقية المحلزنة والمدافع الرشاشة والأجيال الجديدة من المدافع العملاقة ذات المديات الكبيرة. تنتشر الجيوش في خطوط دفاعية وهجومية متوازية، وأبرز الأمثلة تركزت في معارك الحرب العالمية الأولى.

الحرب العالمية الأولى, دبابة, مدافع حربية

البنادق المحلزنة والمدافع الرشاشة ضمن عتاد حروب الجيل الثاني

الجيل الثالث من الحروب في القلب منه السرعة، عن طريق استعمال الألوية المدرعة والطائرات لنقل القوات لمسافات بعيدة في قلب العدو. وأبرز أمثلتها بالطبع تكتيكات الفيرماخت في الحرب العالمية الثانية.

الألوية المدرعة -الحركة السريعة في ميدان المعركة من أهم خصائص الجيل الثالث من الحرب


حروب الجيل الرابع ومعضلة الإرهاب

دبابة بانزر, الحرب العالمية الثانية, الجيل الثالث

دبابة بانزر, الحرب العالمية الثانية, الجيل الثالث

يعترف الكاتب أنه يبحث عن تعريف لشيء صعب التعريف، وحتى حينما نقرأ ما يقول فإننا لا نفهمه تمامًا، وهذا منطقي فهو نفسه لا يعلم تحديدًا ما يريد قوله، فهو يتحدث عن العديد من التحديات، والتي تمتاز في رأيه بالآتي:

1. معقدة وطويلة المدى.

2. تستعمل العوامل النفسية بكثافة.

3. لامركزية شديدة.

4. تستعمل الاقتصاد والإعلام بقوة للتأثير على الدول الأخرى.

5. الميليشيات ضد الدول.

6. الإرهاب.

قال ليند إن ظهور أسلحة جديدة ذات قدرات تدميرية عالية مثل أسلحة الطاقة الموجهة «Directed Energy Weapons» إضافةً إلى التوسع في استعمال الأنظمة الموجهة عن بعد وأعمال التجسس الإلكتروني يستلزم البحث عن تكتيكات جديدة غير تلك التي استعملها الألمان منذ أواخر الحرب العالمية الأولى.

ثم ضرب الكاتب قنبلته الأهم قائلًا: «الغرب لا يتحكم في العالم حاليًا، لذا يمكن أن تبدأ أحد حروب الجيل الرابع من دولة غير غربية كدولة إسلامية أو آسيوية، وحقيقة أن الدول الإسلامية ليست بقوة الدول الغربية من حيث التكنولوجيا تجعل أطروحة شن حرب جيل رابع مدفوعة أيديولوجيًا لا تكنولوجيًا هي الاحتمالية الأرجح».

وقال الكاتب إن أوضح مثال لحروب الجيل الرابع المدفوعة أيديولوجيًا هي الإرهاب، لكنه تراجع قليلًا للوراء فقال: «لا أعني أن الإرهاب أحد صور حروب الجيل الرابع، لكنه يستعمل بعضًا من خصائصها». فالتنظيمات الإرهابية تمتاز بلا مركزية شديدة وتنتشر عبر مساحات واسعة من الأراضي باستخدام عدد قليل من الأفراد، كما أنهم يعملون على تحطيم العدو من الداخل أي مهاجمته من الخلف بدلًا من الأمام.

يتميز الإرهاب باستعماله مميزات العدو لضربه ويقصد الكاتب بمميزات العدو «بالطبع العدو هنا هو المجتمعات الغربية»، كالديموقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير وسيادة القانون، فهو يستطيع القيام بعملية قتل كبيرة وسيجد من يدافع عنه!

اقرأ أيضًا:

الجيش الرشيق: تجهيزات أمريكا لحروب المستقبل

كما أن الرجل ذكر نقطة مهمة في نهاية بحثه، فبالنسبة له الإرهاب والتنظيمات الإرهابية ليست بلا ميزات. بل إنه يرى أن الإرهاب قدم حلًا لمشاكل عسكرية مزمنة لم يواجهها أحد، ألا وهي فك الارتباط الذي قام بين ميدان المعركة والثقافة العسكرية التقليدية، والتي تحتم وجود رتب عسكرية وأزياء عسكرية وتحية عسكرية وكل تلك الأشياء -برأي الكاتب- غير مهمة لميدان المعركة الحالي، الذي يشتمل إلى حد كبير جميع مناحي الحياة.

لم يحز هذا البحث اهتمامًا كبيرًا أو أي شهرة حتى جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001 وما تلاها. حيث قام الكولونيل المتقاعد «توماس هامز» من قوات المارينز بنشر كتاب حمل اسم «The sling and the stone: 21

st

century»K قام فيه بإعادة توصيف حروب الجيل الرابع بأنها الحروب ضد المجموعات المسلحة -وليس الدول- أو بالتعبير الأمريكي الدارج وقتها «insurgents».

تتبني تلك المجموعات أيديولوجيات عرقية أو دينية في الغالب، واعتبر أنها هي العدو الأخير، ويجب البحث عن طرق جديدة لهزيمتها عن طريق هزيمة قادتها الفكرية روحيًا. تحدث الكاتب بصراحة بأن المقصود بهذا هو تنظيم القاعدة وقائده أسامة بن لادن، ووصفه بـ «جالوت» الأخير، فهل وجد «داود» المقلاع المناسب له؟

واعتبر الكاتب أن الضابط الإنجليزي الشهير «توماس إدوارد لورانس» قائد ما يسمى بالثورة العربية الكبرى في الحرب العالمية الأولى ضد الدولة العثمانية قام بشرح كامل ومفصل لحرب الجيل الرابع في كتابه «أعمدة الحكمة السبعة»، حتى إن لم يسمها كذلك. كما أن الكاتب قال إن تلك التنظيمات المسلحة لا تسعى للنصر بل تسعى للمواصلة والاستمرار فقط، وتعتبر استمرارها نصرًا، لذا فالنصر هو أن نمنعها من القدرة على الاستمرار.

وفي 2005

نشر الخبير الاستراتيجي

الدكتور «أنطوليو إتشفاريا»، مدير معهد الدراسات الاستراتيجية، بحثًا انتقد فيه بحث «ليند» بخصوص حروب الجيل الرابع، معتبرًا أنه لم يفعل شيئًا سوى توصيف حالة موجودة -ليند نفسه لم ينكر هذا بالمناسبة- كما أنه اعتبر أن ليند ومن بعده هامز قد اكتفيا بالتنظير، ولم يستطيعا تقديم وصف دقيق للواقع، وكل كلامهما يحتمل التأويل ولا يمت للواقع بصلة حقيقية.

اعتبر إتشفاريا أن ما فعله ليند مجرد تنظير، وأن معظم الحروب الحديثة كانت دمجًا بين توصيف ليند جيل ثانٍ وثالث ورابع، بل إنه سخر من ليند حينما وصف حروب الجيل الرابع بأنها محاولة لتغيير الإرادة السياسية للخصم، وقال إتشفاريا إنه لا توجد حرب في التاريخ لم يحاول فيها الطرفان تغيير الإرادة السياسية لبعضهما!

اقرأ أيضًا:

حرب الأفيون: كيف أذل الكيف شعبًا كاملًا

بقي بالطبع أن نقول إن ويليام ليند ينتمي لمن يسمون بالـمحافظين القدامى، وهم جيل جديد من المحافظين الأمريكيين الذين يريدون تحديد طغيان الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني على حياة الأفراد الأمريكيين. وهو من أشد أعداء الهجرة والمهاجرين والحركات النسوية والتجارة الحرة، إضافةً إلى تأييده انسحاب الولايات المتحدة من أي التزامات خارجية عسكرية أو مادية أو بيئية. من أهم رموز هؤلاء المحافظين حاليًا «ستيف بانون» المستشار الاستراتيجي للرئيس الأمريكي دونالد ترامب.