في البدء كانت الدراما مصرية

سيطرت الدراما المصرية على المجتمعات العربية منذ بداية التلفزيون المصري في ستينيات القرن الماضي وحتى مطلع التسعينيات منه، حتى أن اللهجة المصرية كانت لهجة الحوار العربى الموحد، فقد كانت الثقافة المصرية بحق هي القوة الناعمة التي تغلغلت برفق إلى هذه المجتمعات ومثلت غزوًا ثقافيًا مصريًا حقيقيًا، فأصبح المواطن العربي محيطًا بكل تفاصيل الحياة الاجتماعية في مصر، وكما كان حفل «أم كلثوم» الغنائي هو جامع العرب ليلة الخميس الأول من كل شهر حول الراديو من الخليح إلى المحيط، كانت المسلسلات المصرية مثل «ليالي الحلمية» و«رأفت الهجان» تجمعهم أيضًا أمام التلفزيون في ليالي رمضان بطول البلاد وعرضها.

و بينما كانت الدراما العربية في الثمانينات تمثل وحدة مصغرة للعالم العربي فهي تنتج من قبل شركات سعودية وتصور في أستديوهات عجمان بالإمارات، وتصنع بأيدٍ مصرية، فعناصر العمل الإبداعية كاملة كانت مصرية؛ من نص وتمثيل وتصوير وإخراج، وعلى الرغم من ذلك إلا أن التوجهات السياسية كان لها شأن آخر مع الدراما المصرية العربية.


تدخلات السياسة ومحاولة إزاحة الدراما المصرية من المشهد

في بداية الألفية الجديدة، أشار الشيخ «كامل صالح» مؤسس راديو وتلفزيون العرب «ART» في حديث تلفزيوني إلى أنه أسس شركة «MBC» بالشراكة مع الشيخ «وليد الإبراهيم» بناء على أمر ملكي من خادم الحرمين الشريفين الملك «فهد بن عبد العزيز» الذي صرح لهما أنه يريد أن يتغلغل الإعلام السعودي بكل البيوت العربية مثل الإعلام المصري، وأن مستشاريه نصحوه بضرورة الاهتمام بالإعلام عمومًا والدراما خصوصًا لما لهما من تأثير كبير بوصفهما القوة الناعمة التي تنساب لعقل ووجدان المواطن العربي، وبناءً عليه أسّسا سويًا تلفزيون «MBC»، التي سرعان ما انفصل عنه الشيخ صالح مؤسسًا تلفزيون ART بقنواته المتعددة، ثم تم تصفية بعض قنواته الموسيقية والفنية، وبيع البعض الآخر لتلفزيون «الجزيرة» القطري مثل باقة «ART Sport»، بينما توسعت «MBC» وأصبحت تحتوي على قنوات متخصصة في الدراما العربية والأفلام الأمريكية، وقناة للبرامج والمسلسلات الأمريكية، وأخيرًا قناة للدراما الهندية.

ولما كانت السعودية غير قادرة على إنتاج أعمال درامية سعودية خالصة نظرًا لأيدولوجيتها الدينية التي تحرم تمثيل المرأة، فقد استعانت القناتان السعوديتان ببدائل للدراما المصرية متمثلة في الدراما السورية التي كانت قد أصّلت لنفسها ووجدت لها صدى في البلاد المتحدثة باللهجات الشامية بل ولدى الجمهور المصري الذي يتصل وجدانيًا بسوريا ولهجتها منذ أيام الوحدة السياسية معها، ولكن الدراما السورية على جودتها كيفًا، فهي قليلة كمًّا ولا تستطيع أن تغطي ساعات البث المفتوحة؛ ولذلك كانت الاستعانة بالدراما الأجنبية ضرورة حتمية لتسلية المشاهد وتغطية ساعات البث الطويلة، والإقلال من استحواذ الدراما المصرية على انتباه المشاهد العربي.


من الدراما اللاتينية إلى الدراما التركية

كانت الدراما الأجنبية تقدم كمادة منوعات، وتقتصر على بث حلقة واحدة في اليوم، غالبًا ما تكون دراما أمريكية وأحيانًا إنجليزية، وحتى التلفزيون المصري كان حريصًا على إذاعة الدراما الأمريكية والتي كان أشهرها مسلسل «the bold and the beauty» والذي استمر عرضه لسنوات، ووقتها نافست قناة «ART» التلفزيون المصري وحاولت التفوق عليه، فعلى الرغم من أن التلفزيون المصري قد بدأ إذاعة أجزاء المسلسل الأمريكي أولًا، إلا أن «ART» حرصت على أن تبث أجزاء أحدث قبل أن يذيعها التلفزيون المصري، ومن المفارقات الطريفة أن هذا المسلسل ما زال مستمرًا حتى الآن، بعد أكثر من 29 عامًا على بدايته، وهو من إنتاج شبكة «CBS» الأمريكية، ويعرض حاليًا على قناة «دبي الأولى».

أما الفضائيات ففي بداية التسعينات طرحت «MBC» المسلسل المكسيكي المدبلج كمنافس للدراما المصرية، واشتهرت مسلسلات مثل «ميامار» الذي عرض في عام 1995 وكان من أوائل المسلسلات اللاتينية التي حققت نجاحًا جماهيريًا مدوّيًا هو ومسلسل «كاسيندرا». ونتيجة هذا النجاح قلدت قنوات عربية أخرى «MBC» فعرضت المسلسلات المكسيكية مثل قناة «LBC» اللبنانية.

وفي العام 2008 وجهت قناة «MBC» دفة ذوق الجماهير صوب الدراما التركية فعرضت المسلسل التركي «سنوات الضياع» تبعه مسلسل «نور» في نفس العام، وقد حازا على إعجاب منقطع النظير، واستطاعا أن يخطفا حتى المشاهد المصري من شاشته المصرية، وقد تميزت الدراما التركية بالرومانسية، وجمال الممثلين والمناظر الطبيعية، والعلاقات المتشابكة، فهي وقفت في منطقة وسط بين الدراما اللاتينية والدراما المصرية؛ فخفتت جرأة الأولى وأعطت المشاهد الصورة الجميلة والقصة البعيدة عن مشاكل الحياة الواقعية، فهي تحكي عن عالم يبدو قريبًا ولكنه مختلف.

وقد جاءت الدراما التركية مدبلجة باللهجة السورية فاستطاعت أن تخترق سيطرة اللهجة المصرية على الذاكرة الجمعية العربية، فضلاً عن دخول الدراما المصرية في منافسة جديدة مع الدراما التاريخية التي كانت تتربع مصر على عرش إنتاجها في العالم العربى حتى وقت بث مسلسل «القرن العظيم» المعروف باسمه العربي «حريم السلطان»، وقد حاز هذا المسلسل نجاحًا باهرًا نظرا لجمال ديكوراته وحبكة قصته المعقدة المتشابكة؛ الأمر الذي دفع القنوات المصرية مثل «الحياة»، القناة الأكثر متابعة في مصر، لتخصيص أعلى الساعات مشاهدة لعرض هذا المسلسل، كما عرض على قنوات خليجية مهمة مثل قناة «دبي الأولى». وقد حاولت «MBC» استنساخه عربيًا فلم تجد غير التاريخ المصرى الثري، فأنتجت مسلسلًا ضخم إنتاجيًا ضعيف فنيًا وهو مسلسل «سرايا عابدين» الذي لم يلاقِ نجاحًا في مصر بل على العكس قابل هجومًا كبيرًا لتشويهه بعض الحقائق التاريخية.


من الدراما التركية إلى الهندية وأخيرًا الكورية

في عام 2013 وجهت السياسة دفة الفن لاتجاه آخر، فقد توترت العلاقات السعودية التركية نتيجة تنامي طموحات الحكومة التركية في تزعم العالم الإسلامي، فتوجهت صوب الدراما الهندية، وقد لاقت هذه الدراما إقبالاً جماهيريًا كبيرًا من الجمهور العربي؛ الأمر الذي دفع قنوات «MBC» إلى تخصيص قناة للدراما الهندية، ولكن الدراما الهندية لم تلقَ نفس نجاح الدراما التركية في الشارع المصري بينما تفوقت في الشارع العربي.

وفي هذه الأثناء كانت قد تسللت إلى شاشة التلفزيون المصري نفسه دراما من نوع جديد وهي الدراما الكورية التي أذاعها التلفزيون المصري على قناته الثانية مدبلجة باللهجة السورية و لاقت نجاحًا جماهيريًا كبيرًا، بينما خَفَت تأثير اللهجة المصرية على المجتمعات العربية، وساهم إغراق المسلسلات المصرية في مناقشة مشكلات المجتمع المصري الداخلية، فضلاً عن الإفراط في مشاهد العنف والبلطجة، ومناقشة الأمور السياسية المحبطة، في انصراف المشاهد العربي عنها، الذي لا يريد في لحظات راحته أمام شاشة التلفزيون التورط في مشكلات مجتمع آخر ولكن يريد التسلية ما بين مكائد الحريم التركية، ونعومة وكوميدية المسلسلات الكورية، وجاذبية الموسيقى وثراء الألوان الهندية.



مقالات الرأي والتدوينات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر هيئة التحرير.