في البداية
عزيزي القارئ يجب أن تعرف أن الملوخية أكلة يابانية!

قد تنبهر وتفغر
فاك وأنت تتساءل بصوت الفنان «آسر ياسين» في الكوميك المشهور من فيلم «18 يوم»: «الملوخية
مين؟ الملوخية بتاعتنا؟»

وهنا دعني
أصدمك بأن الملوخية لم تعد «بتاعتنا»، وإنما صارت ضمن تراث «كوكب اليابان الشقيق»،
وذلك بعد أن ربحت اليابان في منافستها لتسجيل الملوخية -مصرية الأصل- كأكلة يابانية،
وذلك بعد إصرار ياباني يكشف لنا عن أن الأكل يمكن أن يكون وجهًا من وجوه التراث
الذي يثير تنافسًا دوليًا حول الهوية، وأصل الأنواع.

آيس كريم بالملوخية!

أثارت الملوخية
منافسة بين مصر واليابان حين أرادت اليابان تسجيل الملوخية كأكلة يابانية لتصبح
الأحق بحقوق ملكيتها، وذلك بالاعتداء على حق مصر في نبتة أثبتت البرديات وحوائط
المعابد نسبتها إلى أرض الفراعنة، واستغلت اليابان في ذلك ضعف السياسات الخارجية
المصرية، و

إهمال المصريين

لتصدير المحاصيل الزراعية، ومنها الملوخية التي كانت أبرز صادرات البلاد
إلى الصين وأوروبا، وكذلك رواج الصادرات الزراعية الإسرائيلية.

استورد
اليابانيون بذور الملوخية، وابتكروا منها عشرات الأصناف، ودخلت في صناعة الكعك
والخبز والمكرونات والآيس كريم والعصائر
و«الشوربة» وأكياس مشروبات كالشاي، وصنعوا منها كبسولات علاجية ومقويات، ومكملات
غذائية، ومستحضرات تجميلية للشعر والبشرة، لذا سعى اليابانيون لتسجيلها كنبتة
يابانية.

وفي عام 2002 نجحوا في ذلك، وامتلكوا حقوق الملكية الفكرية للملوخية واستخدامها كعنصر غذائي أو دوائي، ساعدهم على ذلك تكاسل مصر في السعي لعضوية «اليوبوف»، وهي اتفاقية دولية لحماية الأصناف النباتية، حتى في ظل

تصريح مسئول ملف

الشرق الأوسط بالخارجية اليابانية بأنه عندما زار القاهرة في الثمانينيات لم يكن يعرف الملوخية؛ لأنها غير مشهورة ببلاده «أما الآن، فاليابان تصنع آيس كريم بنكهة الملوخية».

وفي

حواره لجريدة الوطن

قال رئيس لجنة تسجيل البذور بوزارة الزراعة المصرية: إن الكثير من الأصناف الزراعية المحلية -وعلى رأسها الملوخية والحلبة- تمت سرقتها دوليًا؛ لعدم انضمام مصر للـ«يوبوف»، مشيرًا إلى أن تفعيل مشاركة مصر في الاتفاقية بدأ عام 2019، أي بعد نحو 17 عامًا من معركة الملوخية.

ولأن الشيء بالشيء يُذكر فإن الملوخية ليست هي الأكلة المصرية الوحيدة التي سُرقت، فهناك القمح، والقطن طويل التيلة الذي هجّنه الأمريكان، وسجّلوه باسم

القطن المصري الأمريكي

، رغم أن معظم مواصفاته مصرية، وإلى جانب ذلك فقد

سُرقت حقوق مصر

في «كبدة الأوز»، وهي طبق مصري يتجاوز عمره أربعة آلاف عام، لكنه صار طبقًا فرنسيًا باسم «فوا جرا»، وكذلك الجبنة الفيتا، التي أصبحت «جبنة فيتا يوناني» بعد أن حمت اليونان اسمها كدولة منشأ بعد صراع مع الدنمارك على حقوق «الفيتا» التي وُجدت في مقابر فرعونية تعود لأكثر من 2500 عام قبل الميلاد.

الأكل كتراث وهوية للشعوب

أشار مقال بعنوان «

رحلتي من الشكشوكة إلى السانتا روزاليا

» إلى إقرار العديد من الدول لقوانين تساعدها على حماية تراثها ضمن القوانين الدولية التي تحي التراث وكل منتج ثقافي إنساني؛ ليتم ربطه ببلده الأصلي، ومن ضمن ما يمكن توثيقه هو الطعام، سواء بتوثيق وصفة معينة مرتبطة بتراث بلد أو مدينة، أو بتوثيق منتج معين باسم بلد ما، وربما ذلك هو ما يشعل التنافس على هوية الأطعمة ويجعلها صراعًا على الهوية والملكية، وجزءًا من الدفاع عن التراث، ولكن بعض باحثي الغذاء يرفضون أن تُناقش الأطعمة وأصولها

نقاشًا مُسيسًا

يميل إلى التفكير في الطعام بطريقة قومية ضيقة؛ فإذا سلّمنا بانتماء طعام إلى منطقة أو حضارة فهذا لا يعني امتلاك الأطباق.

ومن ناحية أخرى فإنه قد يعد صورة من صور مواجهة «التغريب الغذائي»، إذا جاز التعبير، فوفقًا للشيف المصري العالمي مصطفى الرفاعي، سفير المطبخ المصري في جمعية الطهاة العالميين، فإنه «بسبب كثرة الأكلات المُعدة في مصر، وتعدد أصولها،

فقدنا هويتنا المصرية

، وحدث تغير في الذوق المصري، وأصبحنا نتناول المكرونات والبيتزا والبرجر، وهي أكلات غير مصرية، في حين أن الأكلات المصرية –بحسب الرفاعي- هي البصارة، والفول، والطعمية، والعيش المصري، والكِشك الصعيدي، والملوخية -التي سجّلتها اليابان باسمها- والخميرة، والخس بأنواعه، والهليون (الاسبراجوس) الذي كان يُقدَم قربانًا للآلهة الفرعونية، وكل البقوليات -تقريبًا- مصرية المنشأ، وأشار إلى ذلك القرآن الكريم».

لذلك يؤكد الرفاعي ضرورة معرفة أكلاتنا، والدخيل علينا منها، والذي قمنا بتعديله، فالكشري ليس طعامًا مصريًا شعبيًا كما يُشاع، إنما هو هندي المنشأ، كان يتكون من العدس والأرز جاء به الجنود الهنود لمصر في الحرب العالمية الثانية ثم أضاف المصريون إليه «الدقة والشطة»، كذلك السجق جاء من الإيطاليين، والبسطرمة والكفتة جاءت من الفرس، وقصب السكر لم يكن موجودًا في مصر، فقد كنا نستخدم عسل النحل، وعندما دخل القصب إلى مصر بدأ إنتاج العسل الأسود الذي أصبح جزءًا من ثقافتنا، والفاكهة بكل أنواعها جاء بها محمد علي من الغابات الاستوائية. ويمكن أن نستنتج من ذلك أن الصراع على تسجيل الأطعمة قد يأخذ شكلًا من أشكال الثقافة الوطنية والقومية الضرورية للحفاظ على الهوية وعدم ضياعها.

عولمة الأكل: الطعمية كمثال

ربما يصلح هذا العنوان الفرعي كعنوان لرسالة أكاديمية عن العلاقة بين
الطعام والهوية، وهي علاقة ارتباط ليست بجديدة، فالتاريخ يحفل بذكر الأطعمة
الشعبية لكل الأمم والحضارات والشعوب، كما يرتبط الطعام بطقوس دينية وأحكام شرعية،
وكثيرًا ما تميزت الأمم العريقة في إعداد الطعام، بحيث يتخطى دوره في تاريخها مجرد
إشباع غريزة، ليصبح صنفًا من صنوف الفن (فن إعداد الطعام) والتعبير عن الإبداع
والابتكار والتفاخر بالهوية.

وربما على سبيل تعميق الهويات، لجأ العديد من الكُتّاب والمُهتمين بالغذاء
إلى تسيّيس الأطعمة بطريقة اختلط فيها التراث والوطنية بالمبالغة والتعصب، ضمن توجه
عالمي طال كل مفردات الحياة في ركاب «العولمة»، بالرغم من تشابه الأطعمة بين
العديد من الدول والحضارات، لكن صراع الثقافة وهوية الاطعمة أنتج لنا آلاف الندوات
والمؤتمرات والمؤلفات والمقالات التي صاحبت وأذكت معارك تنافسية تراثية، ومُنحت
على هامشها درجات ماجستير ودكتوراه في «علوم الهوية الغذائية»؛ من أجل استكشاف السمات
المميزة لكل مطبخ، كجزء من هويته وثوابته الوطنية والتراثية، التي تجب الاستماتة
في الدفاع عن ملكيتها، والاعتزاز بها.

جانب آخر فيما يخص هوية وعولمة الطعام توضحه

حكاية سردها

الباحث المصري ممدوح الشيخ، عن صلة الفلافل بصورة العرب في المجتمع الأمريكي؛ حيث انزعجت سيدة أمريكية أثناء حملتها للانتخابات النيابية عندما اكتشفت أن بعض المدارس تقدم الفلافل ضمن وجبة الطعام للطلاب، فطالبت بوقف ذلك؛ لأن مذاقها الشهي يجعل الطلبة يحبونها، وهي تخشى إذا عرفوا أنها عربية الأصل أن تتحسن لديهم الصورة العربية السلبية.

وعلى ذكر الفلافل، فربما كانت الفلافل أو الطعمية إحدى أكثر الأكلات الشرقية الشعبية التي حظت بجدال وصراع حول هويتها، وبلغ الأمر حد اعتبارها

رمزًا تراثيًا مصريًا

للصمود في وجه المحتل الإسرائيلي الذي يسطو على تراث جيرانه وشانئيه العرب، خاصة حينما استخدمتها سلطات الاحتلال في التسويق بصفتها وجبة شعبية إسرائيلية، حيث

التُقطت عدة

صور دعائية لمسئولين إسرائيليين وهم يأكلون الفلافل كوجبة إسرائيلية، وخلال زيارة أوباما إلى إسرائيل عام 2013،

أُعدت له

مأدبة من «الطعام اليهودي» تضمنت الفلافل، وأعلن اليهودي «دانيال شابيرو» سفير أمريكا لدى إسرائيل، عن أنه يحب التجول مع أسرته في شوارع تل أبيب

وهم يأكلون

ساندوتشات الفلافل.

وفيما يخص «عولمة» الفلافل –كمثال على عولمة الطعام- فإنها باتت أكلة
عالمية، يكثر الإقبال عليها في أمريكا وأوروبا، وبين السياح في الدول العربية
وبخاصة دول الخليج، وذلك بعد افتتاح مطاعم وسلاسل مطاعم عالمية تقدم الفلافل كطبق
رئيس على قائمتها أو أحد أشهر أطباقها، وعلى رأسها سلسلة مطاعم «زووبا» و«جست
فلافل»، في ظل الاستفادة من فوائد البقول والأطعمة الغنية بها فيما يخص الصحة،
والحمية الغذائية، وسهولة الأكل، وغنى الطعم بالفوائد والتوابل.

هل الطعام الصحي هو الأغلى؟

سؤال قد يبدو
للوهلة الأولى أنه تسويقي أو تشويقي دعائي، لكننا سنجيب عنه من جانب نفسي، فقد
أكدت

دراسة أجرتها جامعة أوهايو

أننا ربما نقع تحت
تأثير نفسي بأن الطعام باهظ الثمن أكثر صحة أو أن سعر الطعام يؤثر على تصوراتنا
لما هو صحي، وربما نتناول البقول أو نفضّلها عن اللحوم بسبب وقوعنا تحت تأثير نفسي
نابع من اقتناعنا بـ

فوائد البقول

الغنية بالبروتين
والألياف والفيتامينات، ومضادات الأكسدة والأحماض الأمينية، وتساعد على بناء
العضلات، والتخلص من الضعف والإعياء، وتمد الجسم بالزنك والحديد والماغنيسيوم،
وتحمي من الشيخوخة والالتهابات وسرطان المعدة والقولون، وتعمل على تخفيض نسبة الكوليسترول،
فتقلل خطر الإصابة بالنوبات والسكتات القلبية والدماغية، ومشاكل الأوعية الدموية وأمراض
القلب، وتساعد على ضبط مستويات السكر، كما تعطي إحساسًا بالشبع، لذا تُوصف في «الدايت»
كبديل للحوم.

أعتقد أنك بعد قراءتك لتلك الفوائد ربما تقع تحت التأثير النفسي الذي قصدناه، والذي يعد جزءًا رئيسًا من ارتباط الطعام بالهوية؛ إذ إن الطعام المفيد إذا صادف انتماؤه إلى بلدك فإن المطالبة بنسبته إلى بلدك هو أمر يعزز إحساس الهوية لديك.

جانب نفسي «طعامي» آخر يقدمه الدكتور «بريان وانسينك»، عالم النفس الغذائي،
وفقًا لما

قاله لموقع science of people

، حيث وضع ما
يمكن اعتباره «نظريات الطعام النفسية»، من أهمها أن «الطعام متعة»، فهو من دواعي السرور،
ومحفزات الشغف، كما أن «الطعام قصة»؛ فالأطعمة المفضلة لدينا ترتبط بقصة أو موقف عاطفي
يؤثر على أذهاننا ورغباتنا، وبناء على ذلك فإن ارتباط قصة الطعام بالهوية والتراث
هو أمر يجعل من الطعام أيقونة تراثية يجب الاعتزاز بها والدفاع عنها؛ إذ يتضمن ذلك
الاعتزاز بالوطن والدفاع عن هويته وتاريخه المميز.

ربما يكون الإصرار على تحويل الطعام إلى أيقونة تراثية فيه شيء من المبالغة
أو العصبية، واختلاق صراعات تضر بفكرة التراث، وتغذي صدام الحضارات أكثر من تحقيق
مهمة التراث الأساسية بالحفاظ على تميز الشعوب، لكن بحسب

دليل موارد التراث العالمي

فإن التراث مُعرِّف
مهم لهوّية المجتمعات، ويشمل كل ما خلّفته المجتمعات السابقة من شواهد تمنح الشعور
بالانتماء والأمان للمجتمعات الحديثة، ووفقًا لذلك فإن الطعام جزء من التراث،
وبالتالي، فهو يعكس الهوية، حتى إنه يمكننا القول: «قل لي ماذا تأكل، أقل لك من
أنت».