ازدحام في أحد أزقة وسط مدينة القاهرة، الأغلبية شباب وفتيات في أوائل العشرينات، باب صغير ينفذ بعضهم منه إلى مكان ما، يستوقف هذا المشهد أحد المارة، يقف ويربت على كتفي ثم يسأل: «ايه الزحمة دي يا أستاذ؟»، أخبره أننا ننتظر الدخول للسينما، لمشاهدة أحد أفلام «بانوراما الفيلم الأوروبي»، والبانوراما حدث سينمائي سنوي يعرض من خلاله أفلام أوروبية فائزة في مهرجانات دولية كبرى، أفلام مختلفة لا تعرض عادة في سينمات المولات، «سينما؟ أوروبي!» تظهر عليه أمارات التعجب، ثم يرحل.

كان الإقبال كبيرًا وبشكل مثير للتعجب حتى لمن اعتادوا حضور دورات البانوراما السابقة، بعض العروض تم حجز تذاكرها كاملة قبل ميعادها بأسبوع، وفي أيام أخرى حضر البعض من السابعة صباحا لحجز أماكنهم بمجرد فتح شباك التذاكر.


أعلنت إدارة البانوراما

بعد ختام العروض أن الدورة الحالية سجلت 17 ألف مشاهدة، بفارق 6 آلاف مشاهدة عن فعاليات العام الماضي 2016.

ماذا حدث؟ ومن هؤلاء الشباب الذين يملئون قاعات السينما؟ ماذا يشاهدون؟ هل نشهد ما يمكن اعتباره ثورة شبابية في الذوق السينمائي المصري؟ وهل يمكن اعتبار هذه الثورة السينمائية كرافد جديدة لحراك ثقافي وفني، وبالتالي اجتماعي وسياسي، تشهده مصر في السنين التي تلت ثورة يناير/كانون الثاني؟ أم أن الأمر لا يتعدى كونه موضة شبابية جديدة؟

هذا ما نرصده معكم اليوم في حصاد الدورة العاشرة لبانوراما الفيلم الأوروبي.


ماذا يشاهدون؟ خمسة أفلام يمكنها أن تغير رؤيتك للعالم

بنظرة سريعة على محتوى الأفلام التي حظيت بإقبال كبير وقاعات ممتلئة سنجد أنها اشتركت في عاملين، الأول، هو أهمية القضية التي تناقشها واقترابها من أسئلة إنسانية ذات طابع عالمي، والثاني، أنها أفلام على مستوى فني وجمالي مرتفع، فاز بعضها بجوائز عالمية، وحظي جميعها بإشادة نقدية. هذه أفلام تجمع بين جمالية الشكل وأهمية المضمون حتى لو طغى أحدهما أحياناً على الآخر.

امتلأت القاعات في الفيلم السويدي «The sauare» وهو الفيلم الفائز بجائزة السعفة الذهبية كأفضل فيلم في مهرجان «كان»، وهو فيلم يطرح بأسلوب ساخر أزمة العصر الحالي في فقدان البشر للإيمان بالعلاقات البشرية، وتحولهم شيئًا فشيئا لآلات وحيدة وأنانية. لقد سمعت ضحكات لم أسمعها في صالات العرض المصرية منذ فترة ليست بالقليلة، وها هي تأتي من فيلم سويدي صاحب محتوى عميق للغاية.

اقرأ أيضا:

«The Square»: نقد ساخر لأخلاقيات المجتمع الأوروبي

فيلم آخر فاز في «كان» بجائزة أفضل سيناريو حظي بقاعات عرض كاملة، هو الفيلم الجديد للمخرج اليوناني «يورجوس لانثيموس»، والذي حمل اسم «The Killing Of A Sacred Deer»، الفيلم يمثل تحفة سينمائية على مستوى الشكل، من ناحية جماليات الصورة وتفرد شريط الصوت، وتداخل الموسيقى مع الأحداث، وطريقة صياغة السيناريو وطريقة السرد. أما على مستوى المضمون، فهو معالجة حديثة للتراجيديا الإغريقية «أفجينيا في أوليس» التي تدور حول إشكاليات الشعور بالذنب، والثأر، والانتقام.

ها نحن نشاهد فيلما يناقش معضلات أخلاقية في جو من الدراما النفسية على خلفية موسيقى كلاسيكية لباخ وبرامز، هذا هو ما تسمى لأجله السينما بالفن السابع، أو الفن الذي يمثل حصيلة كل الفنون الأخرى، لكن الأهم أننا نشاهده في قاعة مكتملة الحضور من الجمهور المصري.

اقرأ أيضا:

«The Killing of A Sacred Deer»: تراجيديا لانثيموس المعاصرة

على ذكر الفنون لا يمكننا نسيان الفيلم الذي حظي بإقبال ضخم وقاعات كاملة لدرجة دفعت منظمي البانوراما إلى إعلان إعادة عرضه منفردًا ولمدة أسبوعين في «سينما زاوية» عقب انتهاء البانوراما، الفيلم هو «Loving Vincent»، فيلم الرسوم البولندي الذي يحكي عن الرسام الهولندي الأشهر «فينسنت فان جوخ» من خلال رسوم تم تصميمها على طريقته، مما يعني أننا نشاهد لوحات فان جوخ وهي تتحرك وتعود للحياة طوال أحداث الفيلم، متعة حسية، بصرية وسمعية، ترافقنا طوال أحداث الفيلم، وسيناريو يدفعنا للتفكر في أحلامنا، وفي الحدود الفاصلة بين واقعنا وأهدافنا، كما يدفعنا للتساؤل عن مفهوم البشر الذي يتطور شيئا فشيئاً عن العقل وسلامته.

اقرأ أيضا:

فيلم «Loving Vincent»: مرثيّة فنية تليق بفان جوخ

فيلم آخر لعب على تيمة الدراما النفسية وهو الفيلم الفائز بجائزتي أفضل ممثل وأفضل سيناريو -مناصفة- في مهرجان كان، فيلم «You Were Never Really Here» للمخرجة الاسكتلندية «ليني رامسي»، عن رحلة قاتل مأجور في إنقاذ فتاة صغيرة من عالم تجارة الجنس، يصطحبنا الفيلم في رحلة بين الواقع والخيالات والذكريات المتداخلة في عقل من يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة PTSD، كل هذا من خلال مونتاج مبهر يتميز بقطعات حادة وسريعة، من هنا نتعلم كيف تستخدم حرفية الصنعة لتؤثر في طريقة سرد الحكاية. زوايا الكاميرا وطريقة المونتاج ليست أمرا ثانويا كما اعتادنا في السينما التجارية المصرية وحتى الأمريكية.

اقرأ أيضا:

«You Were Never Really Here»: قاتل مأجور يحمينا جميعًا

في المساحة المتداخلة بين الواقع والأحلام ظهر أيضا الفيلم المجري الفائز بأربع جوائز من مهرجان برلين، من بينها جائزة أفضل فيلم، «

On Body And Soul

» للمخرجة «الديكو إينيدي»، مرة أخرى نعود لنعاين أزمة إيمان البشر في علاقاتهم المشتركة، هذه المرة من خلال حكاية تلعب فيها الأحلام دورها في التنفيس عن أفكارنا غير المحققة، فيلم ملهم على المستوى الفكري، ممتع على المستوى الحسي.


من هؤلاء: الثورة في السينما

كان زحام وسط مدينة القاهرة ،أو ما يطلق عليه «وسط البلد»، معتادا أيام ثورة يناير/كانون الثاني وما تلاها من سنين في ظل حركات الاحتجاج المتتالية، حتى تغيرت معادلة القوى وتم العمل على إعادة غلق كل المساحات العامة لأي تجمع شبابي، زامن ذلك تضييقات عنيفة على كافة محاولات الإبداع والتفكير والتعبير في المجتمع المصري.

عاد ثوار يناير/كانون الثاني الشباب -من نجا منهم- عقب احباطات متتالية إلى دوائرهم ومساحاتهم الشخصية، بعقول وأرواح متغيرة، واحتياجات متغيرة أيضا. تلاهم أجيال صغيرة شاهدت ثورة يناير/كانون الثاني، أو سمعت حكاياتها وتأثرت بها وبجيلها القريب، كبر هؤلاء في ظل أجواء انفتاح ما بعد يناير/كانون الثاني وخرجوا بذوق مختلف أيضا.

أصبح شباب اليوم مهتمين بالكتب والأفلام بشكل مغاير تماما لما كان يحدث على الأقل خلال العقد الأخير لحكم مبارك. شهدت صناعة الأدب طفرة هائلة في السنين الأخيرة، يمكن قياس هذا بسهولة من خلال رصد عدد الكتب والروايات التي تنشر بشكل مستمر ومتزايد، كما يمكن متابعة ذلك أيضا من خلال فاعليات تجمعات القراء بدءا من نوادي الكتاب الصغيرة وحلقات استعارة الكتب في المدارس والكليات، وصولا للأعداد الضخمة التي تزور معرض القاهرة للكتاب في بداية كل عام.

يقابل هذا رواجا مشابها على مستوى السينما، يمكن متابعة ذلك من خلال عدد المتفاعلين يوميا على صفحات ومجموعات فيسبوكية مهتمة بالسينما، كما يمكن رصد ذلك من خلال عدد الأفلام الهائل الذي يشغل مساحات كبيرة على حواسب شباب هذا الجيل، نعم ساهم في هذا فراغ إلكتروني في بلد لا يعترف بحقوق الملكية والنسخ، أصبحت الأفلام متاحة بطرق عدة، زاد اهتمامهم بها كما زاد احتياجهم لمتابعة شيء جديد، وبالتالي زادت مشاهدات الجميع.

صحيح أن هذا الرواج بدأ بكتب وأفلام تجارية ذات مضمون استهلاكي، ولكن هكذا تبدأ مسيرة التطور دائما، شيئا فشيئاً يصل الناس -بعضهم على الأقل- للرغبة في اختبار متعة ما هو أعمق، بحر يغري كل من يدخله للغوص فيه.

هذا هو ما شهدناه في بانوراما الفيلم الأوروبي هذا العام، شباب وفتيات يشاهدون حكايات من مختلف دول العالم، حديث دون رقابة عن كل المسلمات، عن الرؤى السياسة والهويات الجنسية والمعتقدات الدينية واللادينية، عن رؤيتنا للعالم ولأنفسنا، عن الأخلاق والرغبة، عن الجسد والروح.

شباب مختلفون في المستوى الثقافي والمعرفي، بينهم من تفوق معرفته معظم العاملين بالوسط السينمائي المصري، وآخرون أتوا برفقة أصدقائهم لقضاء سهرة مختلفة، أو حتى للتواجد في حدث شبابي يمكنهم من خلاله التقاط صورة ونشرها على حساباتهم الإلكترونية، يشاهد كل هؤلاء سينما مختلفة لا تقدم إجابات واضحة ولكنها تقدم الكثير من الأسئلة.

عندما التقيت المخرج المصري الكبير «داوود عبد السيد»، أخبرني أن حبه للسينما بدأ حينما شاهد أفلاما أوروبية مختلفة، تذكرت هذا في وسط الزحام اليومي في قاعات عرض البانوراما، 17 ألف مشاهدة من الأكيد سيخرج منها محبون جدد للسينما. تكررت كلمة «مختلفة» كثيرا في السطور الماضية، هذه الكلمة المعبرة عن تغير الحال تذكرنا بأن الثورة في أحد تعريفاتها هي الخروج على الوضع الراهن وتغييره، باندفاع يحركه عدم الرضا، أو التطلع للأفضل، وبتطبيق ذلك على جمهور بانوراما الفيلم الأوروبي هذا العام، يمكن وصفهم -ودون مبالغة- كثوار.