تبدو القرية المصرية حتى اليوم تربة خصبة للكثير من الحكايات والتفاصيل السردية النادرة، رغم كل ما وصل إليه العالم وما تناوله الكتّاب والأدباء على مر السنوات من أفكار ومواضيع تبعد كثيرًا عن كل ما يمت لعالم القرية والريف بصلة، إلا أن عالم القرية يبدو واعدًا دومًا بالمزيد، سواء كان ذلك من طبيعة تركيبتها المجتمعية وعلاقة أفرادها بالسلطة الحاكمة، أو ما يمكن أن تختزنه وتحويه من أساطير وخرافات وحكايات تشكل حياة الناس وترسم مصائرهم، بل تحدد مستقبلهم.

في روايته الجديدة «الفابريكة» يسعى «أحمد الملواني» إلى استخدام كل عناصر بيئة القرية والاستفادة منها في بناء عالمه الخاص جدًا، والمختلف كليّة عمَّا اعتدنا عليه وألفناه، رغم أنه يقوم بالأساس على جزء كبير من الواقع، ولكنه يضفر الحكايات الخرافية التي تنشأ في هذه القرى والمناطق البعيدة عن عمران المدينة وحضارتها وثقافتها، وينجح إلى حدٍ بعيد في الدمج -ربما لأول مرة- بين الخرافات والأساطير التي نسجها أهل القرية تلك، وبين أفكار الخيال العلمي التي تدور في أذهان كثير من العلماء منذ مئات السنين وحتى يومنا هذا.

أفكار عديدة تدور في الرواية، بدءًا من الاستفادة القصوى من الطاقة الشمسية في توليد قدر كبير من الطاقة القادرة على تشغيل مصنع بأكمله، مرورًا بـ«إكسير الشباب»، ذلك الذي يتيح للمرء أن يبقى حيًا لمدة أطول، وأن يحافظ على شبابه مهما طال به العمر، وصولاً إلى أكثر الأفكار فانتازية وجموحًا، مثل تحويل البشر إلى حيوانات مفترسة!

اقرأ أيضًا:

«خبيئة العارف»: مواجهة الإرهاب بالقوى الناعمة الغائبة

من فرنسا إلى الريف المصري ينتقل الشاب «منصور رينار» حالمًا برسالة غامضة يسعى للكشف عنها وتحقيقها هناك في ذلك البلد الذي عاش فيه جده منذ أيام «الحملة الفرنسية»، مستعيدًا ما وصل إليه جده من اكتشافات واختراعات ظلت مخبوءة في تلك القرية، محاطة بالكثير من الخرافات والأساطير داخل المصنع الذي لم يتعرّف على طبيعته أحد، «الفابريكة» التي تدور حولها الرواية وتتساقط أمامها الحكايات واحدة تلو الأخرى.

هكذا يبدو «منصور» عصفورًا قادمًا من الغرب، بكل ما يحمله من إرث ثقافي وحضاري، ولكنه في الوقت نفسه مشبع لحسن الحظ بالثقافة العربية والإسلامية، يصادف أن يواجه أهل القرية، ويكون احتكاكه بهم مثارًا للكثير من المفارقات وفرصة للكثير من المقابلات بين حضارة الغرب وثقافته وبين ما تغرق فيه القرية من أفكارٍ قديمة بالية رغم التطور التكنولوجي والمعلوماتي الذي وصلت له، إلا أن هناك ذلك العمدة المسيطر والموجه والمهيمن الذي يريد أن تبقى سلطته هي الحاكمة رغم كل شيء.

في قريتنا الحكايات هي السلطة الكبرى، ومنصور مفتاح لحكايات وخرافات وأساطير قادرة على توليد ذاتها إلى ما لا نهاية. هكذا رآه العمدة في تلك اللحظة الحرجة في تاريخ قريتنا، لحظة يعرف أنها قد تهدد سلطته لأعوام، لحظة قد تهدم البناء الاجتماعي للقرية، الذي بناه هو وآباؤه من قبله قطعةً قطعة بحرصٍ وتأنٍ، كطفلٍ نبيه يبني من أوراق اللعبة هرمًا.

مقتل أحد أعيان القرية بتلك الطريقة، حادثةٌ تخفي في المستقبل احتمالات انقلاب النظام الطبقي، وتفتت الأعمدة الراسخة التي تحمل التراتب البشري لقريتنا. لذلك رأى العمدة في منصور طوق نجاة، لا يعرف بأي معجزةٍ أتاه في تلك اللحظة تحديدًا ليكون هو الدعامة التي تستند عليها سلطته فلا تنهار.

استطاع «أحمد الملواني» أن يبني عالم روايته بدقة، وأن ينسج خيوط روايته باقتدارٍ وتمهل، وأن يستفيد كذلك إلى جانب الأساطير والخرافات التي يمكن أن تدور في القرية معتمدة على أفكارٍ وخيالات غير واقعية، أن يستفيد من طرق السرد في كتابة حبكة روائية بوليسية غير تقليدية، لا تسعى للكشف عن جرائم القتل فحسب، ولا حتى إلى الكشف عن أسرار الفابريكة فقط، ولكن تقوم على توليد عدد غير نهائي من الحكايات والأساطير المرتبطة بعالم هذه القرية التي تبدو منجمًا للحكايات والأسرار والأساطير لا ينتهي.

يستكشف القارئ تلك الحكايات تدريجيًا من خلال طريقة السرد المشوقة التي اعتمدها الكاتب، ويبقى على مدى أكثر من 400 صفحة مأخوذًا بتلك الأحداث المتلاحقة.


تقنيات سرديّة جذابة

منذ السطور الأولى في الرواية يستكشف القارئ أنه أمام نمطٍ خاص من السرد، يعتمد على «الحكاية» التي يتم فيها تقديم اسم البطل المحكي عنه بداية كل مقطع؛ لكي يبقي المستمع للحكاية والقارئ هنا على أشد حالات التركيز، تلك الحكاية التي يرويها ذلك الراوي العليم «صديقنا العزيز» الذي يتحدث بضمير الجماعة ويسأل القارئ عن البداية التي يحب لكي يبدأ حكايته، ويتحدث عن القرية فيقول «قريتنا»، و«حكايتنا»، وهو في الوقت نفسه يمتلك مفاتيح القصة كلها، ويعرف متى يقدم حكاية ويؤخر أخرى.

كما أنه ذلك الراوي الاستثنائي الذي يسافر بنا مع البطل إلى فرنسا ويعرف ما دار ويدور فيها، ثم يعود فجأة إلى القرية ليحكي تفاصيل سكانها بنفس الخبرة والدراية، وبين هذا وذاك يجذب القارئ من خلال استخدامه ضمير الحكي والمخاطب مثل «أنصتوا لي وافتحوا عقولكم»، و«قلت لكم»، أو «كما نعلم»، وغيرها من العبارات والطرق التي تلفت انتباه القارئ وتركيزه.

من جهة أخرى ينتقل السارد في حكايته بين عالمين يبدو أنهما على وشك أن يقضي أحدهما على الآخر، عالم العمدة وما يفرضه على أهالي القرية من سيطرة وسلطة من خلال قوته الحاكمة من جهة، ومن خلال تلك الحكايات والأساطير التي نسجها ويؤثر عليهم بها من جهة أخرى، وبين عالم «الأولاد المقدسيين» الذين عاشوا داخل «الفابريكة» التي بدت وكأنها مصنع الحكايات ونسجوا عالمهم حولها أيضًا ويسعون للحياة خارج ذلك الإطار الذي وجدوا أنفسهم فيه، وأن يجدوا لهم فرصة للحياة داخل القرية بكرامتهم بعيدًا عن حياة التسول والقهر الذي يمارس عليهم.

وبدت براعة الراوي في تقمص شخصيات حكايته على الرغم من اختلافهم وتباين ثقافتهم وبيئاتهم، إذ تبدو أنها المرة الأولى التي يواجه فيها العلم الخرافة بالفعل ولكنهما لا يصطدمان، بل يسعى كل منهما لفهم الآخر والاستفادة منه، حتى وإن دار كل ذلك من خلال حكاية خيالية فانتازية، ولكنها صيغت بشكل أدبي منطقي ذكي يدعو للتأمل والتصديق.

الغضب يا خواجة .. الغضب المعجون بروحك .. أنا خلقت من غضب .. شمس صنعتني على هذه الحال، مريم التي أذاقتني حنانها ثم نبذتني، حكيم الذي حرمني من أمي، العمدة مغيّب العقول والقلوب، الأعيان المتغطرسون، لبيب الخنزير وماضيه القذر مع بناتٍ مقدسات في عمر الطفولة، أهالي القرية الجهلاء .. كيف أكون أنا وإخوتي في الدرك الأسفل تحت هؤلاء جميعًا؟ نحن من يستحق الحياة، نحن من يستحق المستقبل .. نعيش في النبذ، وأولئك يعيشون في النعيم؟ هؤلاء الأغبياء ما انتبهوا للموت القادم من تحت أرجلهم .. الموت الذي صنعوه بأيديهم وغضبي يكبر يومًا بعد يوم.

ورغم أن عالم القرية كثيرًا ما يتم استدعاؤه ليكون بيئة رمزية تشير إلى سلطة الحاكم وعلاقته بالمحكومين وتعكس طرق السيطرة عليهم، وهو ما نجد له صدى واضحًا هنا، وما يمكن أن يتحول في سيناريو الرواية إلى «ثورة» هؤلاء الأولاد الصغار على العمدة وأعيان القرية كلهم، إلا أن «أحمد الملواني» لم يشغل نفسه كثيرًا بهذه الأفكار ولم يجعلها المسيطرة على بناء الرواية وتفاصيلها، وإن بقيت الحكاية قابلة للتأويل على مستويات عدة.

لكن بقي أبرز ما فيها هو تلك الحكاية الخاصة بالفابريكة والولاء الشديد لعدد من التفاصيل المدهشة داخلها، وتقديم الحكاية بأسلوبٍ شيق يحذب القارئ ويشد انتباهه إلى تلك التفاصيل الغريبة الخاصة بعالم الفابريكة، والتي ربما لم يجد مثيلاً لها في رواية أو عالم آخر. وهنا تكمن فرادة هذه الرواية وتميزها.

أحمد الملواني روائي مصري، يكتب الرواية والقصة القصيرة، حصل على جائزة المسابقة المركزية لقصور الثقافة في القصة القصيرة عن مجموعته «سيف صدئ وحزام ناسف» عام 2011، كما حصل على المركز الأول في جائزة أخبار الأدب عن روايته «وردية فراولة» عام 2015، وغيرها من الجوائز. صدر له ثلاث روايات، و«الفابريكة» روايته الرابعة صادرة عن الدار المصرية اللبنانية هذا العام.