لم يحدث أبدًا أن كانت إيطاليا واحدة من دول الصف الأول أوروبيًا. صحيح أن تضحياتها البشرية والمادية في الحرب العالمية الأولى حجزت لها مقعدًا على الطاولة الرئيسية «طاولة الأربعة الكبار» في باريس 1919، لكن «فيتوريا إيمانويل»، رئيس وزرائها آن ذاك، لم يكن باللياقة الكافية ليناطح ممثلي فرنسا، وبريطانيا، وأمريكا.

كان حضوره صوريًا بينهم. مغامرات موسوليني الاستعمارية وتبعيته الكاملة لهتلر نجحت في أخذ إيطاليا على محمل الجد، لكنها لم تلبث أن فُضحت في الحرب العالمية الثانية. لم يكن منشأ «نيكولو مكيافيلي» بحاجة لساسة جيدين بقدر ما كان بحاجة لقائد يعرف ما تحتاجه بلاده. يرسم لها الطريق. ولأن هذا القائد لم يأتِ إلا في لحظات خاطفة من التاريخ الإيطالي، بقيت إيطاليا أقرب لجمهوريات أمريكا اللاتينية المتعثرة دائمًا.

حاولت إيطاليا مناطحة فرنسا وألمانيا وبريطانيا أوروبيًا، فكانت أكثر حرصًا على وحدة أوروبا، والمشاركة في المؤسسات الفوق قومية. ويمكن إرجاع هذه السياسة الإيطالية لعلم الساسة الطليان بحجم دولتهم ماليًا وعسكريًا. هؤلاء الساسة جعلوا الأهداف والمؤسسات الأوروبية في القلب من مصالحهم القومية، لأنه بقوة هذه المؤسسات تحفظ إيطاليا أمنها ورخاء شعبها. ومع تجذر بعض المشكلات في إيطاليا بدأت أصوات معادية للمؤسسة الأوروبية تتعالى، وكانت الانتخابات البرلمانية الحالية، التي أقيمت الأحد الماضي الرابع من مارس/ آذار، خير شاهدٍ على هذا التحول.

قبل ما يزيد على عام أنذرت ريح اليمين المتطرف العاتية قبل هبوبها. وكان استفتاء ديسمبر/ كانون الثاني لعام 2016 نذيرًا بأن اليمين المتطرف الإيطالي بات قاب قوسين أو أدنى من السلطة. تزعّمت حركة «5 نجوم»، الشعبوية، معسكر «لا» للتعديلات الدستورية المقترحة من حكومة «ماتيو رينزي»، رئيس الوزراء الإيطالي السابق. وانتهى الاستفتاء بفوز معسكرهم. رُفضت التعديلات الدستورية ورحل معها رينزي عن السلطة.

اقرأ أيضًا:

استفتاء إيطاليا: هل يؤدي إلى خروجها من الاتحاد الأوروبي؟

اليوم، يعيد اليمين المتطرف والشعبويون الكرّة على أصحاب معسكر الوسط، من اليمين واليسار. يحقق الأفضلية في الانتخابات التشريعية، التي أقيمت أول أمس الأحد، ويرحل «رينزي» هذه المرة كقائد للحزب الديمقراطي، داعيًا حزبه للمُضي قدمًا في فتح صفحة جديدة.


المعركة المحسومة سلفًا

«ماتيو رينزي» رئيس الوزراء الإيطالي السابق، وزعيم الحزب الديمقراطي المسيحي المستقيل حديثًا.

وُضع لإيطاليا دستورها الأول عام 1948، بعدما انقضت مغامرات موسوليني بانتهاء الحرب العالمية الثانية. وينص الدستور على أن تتشكل الحكومة من حزب الأغلبية البرلمانية. كما أن النظام التشريعي المتبع هو نظام التشريع الثنائي.

يضطلع مجلسا النواب والشورى بالمهام ذاتها. وهي الثنائية التي حاول رينزي إضعافها في استفتاء 2016، رغبةً منه في خفض النفقات الحكومية وإنجاز التشريعات في مدد زمنية قصيرة، مما يسهل عمل حكومته المتعثرة. لكنه على أي حال فشل في إقناع الناخب الإيطالي واستقال.

شكلت قضايا الهجرة جوهر الصراع الانتخابي. ذلك أن

إيطاليا وصلها منذ العام 2014

ما يزيد على 400 ألف لاجئ ومهاجر. وتصعّد أحزاب اليمين المتطرف والأحزاب الشعبوية من لهجتها العدائية للمهاجرين وسياسات بروكسل. وكما في أغلب الدول الأوروبية تعاني إيطاليا أزمة مالية خانقة. بالتأكيد ليس المهاجرون من تسببوا فيها، لكنهم وفرّوا الحُجة السهلة. تعلق أحزاب اليمين المتطرف إخفاقات الحكومات المتعاقبة عليها. وللأسف فإن أحزاب الوسط، المتعاقبة على الحكم،

ساهمت هي الأخرى

في قولبة المشاكل الإيطالية، وتصديرها للمواطن الإيطالي على أنها مشاكل أوروبية عابرة للأنظمة القومية.

لا يبحث المواطن العادي في الصورة المركبة لأي أزمة. يبحث عن أسباب مباشرة، ولا ينظر مدى صدقيتها ومطابقتها للواقع المعقد، وكلاهما أحزاب الوسط والشعبويين صدروا الخطاب نفسه. أحدهما لتبرئة النفس والآخر لتعبئة النفوس.سجلت إيطاليا

معدلًا متزايدًا من البطالة

الشهر الماضي، وصل إلى 11.1 بالمائة، وبشكل عام فإيطاليا منذ الأزمة الاقتصادية في 2008، وهي تعاني معدلات مرتفعة جدًا من البطالة. في ظل تعداد سكاني مرتفع نسبيًا مقارنةً بالمعدل السكاني الأوروبي. و

جدير بالذكر

أن إيطاليا عام 2013 كانت ثاني أكبر المدينين بمنطقة اليورو، وخامس أكبر المدينين على مستوى العالم. في ظل هذا المشهد المركب نما الخطاب الشعبوي واليميني المتطرف حتى صار في الصدارة.


«برلسكوني»: الرهان الخطأ

صوّت ما يزيد على 50% من الناخبين الإيطاليين لأحزاب لا تؤمن ببرامج بروكسل المتجاوزة للحدود. تصدرت حركة «خمس نجوم»

نتائج الانتخابات البرلمانية

بـ 32.22%. وتمثل هذه الحركة بقيادة لويجي دي مايو، الذي تولى زعامة الحركة نهاية العام الماضي خلفًا لمؤسسها الكوميديان بيبي جوريللو، الشعبوية الإيطالية. تصف الحركة نفسها بالشعبوية وترفض الاتصاف بأيديولوجية تقليدية، يمين أو يسار.

تأسست عام 2009، بُعيد الأزمة الاقتصادية العالمية، وكانت الأجواء ملائمة لصعودها السريع. فازت في 2016 بانتخابات بلدية روما، بينما

تربعت على عرش البرلمانيات

الحالية كأعلى نسبة تأييد يحصل عليها حزب/حركة منفردًا. وتكون بهذه النتيجة قد كسرت ثنائية الوسط، المهيمنة على السياسة الإيطالية منذ الحرب العالمية الثانية.

ثمة تحالف ضم أحزابًا من يمين الوسط والمتطرف قد حاز الأغلبية دون المطلقة بـ37% من إجمالي الأصوات. يضم التحالف مزيجًا عجيبًا من الأحزاب. يزول العجب حين يُعرف أن «المهرّج» سلفيو برلسكوني هو المهندس لهذا التحالف. ضمن هذا التحالف حصلت رابطة الشمال، وهو حزب معاد للتوجهات الأوروبية، على أغلبية مريحة بـ 17.69%.

تبعه حزب برلسكوني «فورزا إيطاليا» – «إلى الأمام يا إيطاليا» وهو حزب يميني. وحزب «أشقاء إيطاليا» اليميني حصل على 4.35%.كان التحالف اليميني محاولة ذكية من بروكسل لاحتواء اليمين المتطرف، المتمثل في رابطة الشمال، وتقويض الحركة الشعبوية المسماة بـ «5 نجوم». لكن جاءت نتائج الانتخابات على غير هوى بروكسل. وليس من قبيل المبالغة أن تكون القدرية الإيطالية قاسية هذه المرة، بتصدر رابطة الشمال لنتائج التحالف الأكثر تصويتًا، يحق لزعيمها رئاسة الوزراء وفق

الأسس التي بُني عليها التحالف

.

وبهذا تكون ضريبة القضاء على الحركة الشعبوية «5 نجوم» الإتيان باليمين المتطرف، وكلاهما يعادي المؤسسة ويرفض قوانين الهجرة الحالية. وللمفارقة فإنه لن تتشكل أي حكومة دون التحالف مع أي من الحزبين الناقمين على بروكسل، حركة «5 نجوم» وحزب رابطة الشمال.

«سلفيو برلسكوني» أو «الجد برلسكوني» كما

أطلقت عليه الصحف الإيطالية

مؤخرًا. كان رهانًا صعبًا. سمعته شديدة السوء. ولولا أنه تولى رئاسة الوزراء في ثلاث مناسبات متفرقة لتعرّض للتوقيف، حتى في ظل نظام قضائي عليل كالنظام الإيطالي. خالف البروتوكول في أكثر من مناسبة.

استقبل في إحداهن رئيس الوزراء البريطاني بثياب غير رسمية ومنديل أشبه بمناديل القراصنة. تصدر حينها الصحف العالمية باعتبار أن المشهد لا ينم إلا عن قلة ذوق صاحبه أو سوء تقديره على أخف التوصيفات. رغم كل ما ذكرناه، لم يجد النظام الأوروبي غير حزب برلسكوني «فورزا إيطاليا» ليقود الحكومة إذا ما فاز بأغلبية الأصوات ضمن تحالفه سالف الذكر. مع التذكير بأن «برلسكوني» شخصيًا

ممنوع من تولي

أي منصب حكومي حتى 2019، لإدانته في قضية تهرب ضريبي عام 2013.

وجدير بالتذكر أيضًا أن الفساد السياسي في إيطاليا سمة غالبة، لم يبرأ منها أي حزب، حتى أنه عام 1992 توقفت الحياة السياسية تمامًا وأجرى القضاء الإيطالي مذبحة

«الأيادي النظيفة – Clean Hands»

لم ينجُ منها أحدٌ من السياسيين تقريبًا، جميعهم كانوا غارقين في الفساد، فأوقفوا وتأسست أحزاب جديدة على أنقاض القديمة. ويطلق البعض على هذه العملية، التأسيس الثاني للجمهورية الإيطالية.


سيناريوهات سوداء وحكومة معلقة

ماتيو رينزي, إيطاليا

ماتيو رينزي, إيطاليا

ماتيو سالفيني, إيطاليا, الرابطة الشمالية

«ماتيو سالفيني» زعيم الرابطة الشمالية – اليمينية المتطرفة.

الآن، يعرض «ماتيو سالفيني» اليميني المتطرف نفسه كرئيس محتمل لمجلس وزراء إيطاليا، بعدما حاز تحالف اليمين الأغلبية، وتصدرت «الرابطة» بين أحزاب التحالف. لكنه لن يحكم منفردًا بـ17.7%، ويحتاج للدخول في تحالف متجاوز للتحالف الانتخابي «تحالف اليمين»، الذي لم يحصد إلا 37%.

متابعون

يرون إمكانية عقد صفقة

بين اليمين المتطرف والحركة الشعبوية «5 نجوم»، ويمكن شأن هذا النوع من التحالف أن يُحدث هزة أوروبية عنيفة. فإيطاليا وإن كانت من دول الصف الثاني وتواجه العديد من الأزمات إلا أنها لا تزال الاقتصاد الثالث أوروبيًا. ترد اليوم الجبهة الوطنية الفرنسية الصفعة للاتحاد الأوروبي بفوز الحزب القريب منها «رابطة الشمال»، ضمن تحالف كان يفترض أن ينقذ البلاد من براثن الشعبويين. يبدو أن رهانات بروكسل فشلت لذاتها، أو لاعتمادها على «برلسكوني» كشخص سيئ السمعة لن يقوى حزبه على قياد.

الخاسر الأكبر في هذه الانتخابات كان الحزب الديمقراطي الحاكم. ولفهم توجهات الحزب، فهو كان نتاجًا لعددٍ من الانشقاقات الحزبية المتتابعة، بدأت مع انهيار الشيوعية السوفيتية 1991، التي كان لها بالغ الأثر على تفكك حزب المعارضة الأول في إيطاليا «الحزب الشيوعي الإيطالي» إلى حزبين؛ حزب شيوعي متطرف وحزب اليسار الديمقراطي «PDS».

أوائل القرن الحالي، تجمع عدد من أحزاب اليسار تحت راية واحدة، «الحزب الديمقراطي»، تركز موقعها في يسار الوسط. نزحت شعبية الحزب في السنوات القليلة الماضية، وخسر الأغلبية، وحل تاليًا كثاني أكبر الأحزاب المستقلة حيازة للتأييد الشعبي بنسبة 18.9%، واستقال زعيمه «ماتيو رينزي»، كاتبًا السطر الأخير من سجلّه السياسي.

يمكن للحزب أن يدخل في ائتلاف موسّع مع تحالف اليمين لتشكيل الحكومة، وهو خيار صعب، تبعاته كارثية في المستقبل، إذ ستخلو المعاضة للحركة الشعبوية المتنامية في إيطاليا. لكنه تحالف ضروري لطمأنة رأس المال واستقرار السوق الإيطالية. وهناك احتمال شبه مستحيل لأن يتحالف الاثنان الكبار «الحزب الديمقراطي» وحركة «5 نجوم»، لكن نائب الرئيس الأسبق للحزب أكّد أن حزبه أبدًا لن يساعد الشعبويين لتشكيل الحكومة. وأضاف أن الفرصة الوحيدة لهم، أن يتحالفوا مع سالفيني.

هذا السيناريو (تحالف خمس نجوم مع رابطة الشمال) يتطلب مرونة أكبر من الطرفين؛ الحركة تتغلب على تيار واسع من أعضائها القريبين من اليسار والحزب اليميني المتطرف يتخلى عن التحالف الذي خاض ضمنه الانتخابات، وهي ثنائية تبدو صعبة جدًا، لم يتهيأ لها الطرفان.

ويبقى الحل الأخير، إذا ما لم تتشكل أغلبية دستورية أن يدعو الرئيس الإيطالي «سيرجيو ماتاريللا» الحكومة الحالية للبقاء المؤقت ويدعو لانتخابات جديدة، لكن ذلك لن يكون قبل انعقاد البرلمان الأول في الثالث والعشرين من مارس/آذار الحالي.