في الإبادة الجماعية فقدت 26 فردًا من أسرتي، استطعنا أن ندفن منهم سبعة أفراد، من بينهم أمي وإخوتي، أما البقية فقد أُبيدوا جميعًا ولم نعثر عليهم، وكان من بينهم طفلي وطفلتي وخالتي





ميكاروا أليس، ناجية من الإبادة الرواندية.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وبداية حركات الاستقلال بدأت دول العالم الثالث على اختلاف ظروفها البدء في تنفيذ خطط طموحة للتنمية الاقتصادية، منها ما نجح في الانتقال إلى مصاف دول العالم الأول، ومنها ما يراوح مكانه منذ خمسينيات القرن الماضي.

يتناول هذا التقرير تجارب ثلاثة نمور اقتصادية، كوريا الجنوبية وسنغافورة بالإضافة إلى نمر إفريقي صاعد هو رواندا، هذه الدول وإن أبعدتها الجغرافيا لكنها جميعا انطلقت من بدايات متشابهة بشكل كبير، واستطاعت في فترة وجيزة من الزمن اللحاق بركب التقدم رغم ما عانته من حروب وانقسامات.


1. رواندا

رواندا عشية 1994

بلد صغير في شمال إفريقيا

تبلغ

مساحته 26.338 ألف كم مربع، يتكون الشعب الرواندي

من

قبيلتين أساسيتين، هما قبيلة الهوتو التي تشكل 84% من السكان، وقبيلة التوتسي التي تشكل 15% من السكان، على مدى عقود قامت وسائل الإعلام بتغذية العنصرية بين القبيلتين اللتين فُرِّق بينهما

بواسطة

المستعمر البلجيكي منذ عام 1934.

في يوم 6 أبريل عام 1994

اندلعت

نيران الإبادة الجماعية في رواندا إثر سقوط طائرة الرئيس الرواندي هابياريمانا، الذي ينتمي لأغلبية الهوتو.

استمرت أعمال الإبادة 100 يوم،

راح

ضحيتها حوالي مليون شخص، واغْتُصِبت ما بين 250 و500 ألف امرأة، أصيب أكثر من 76% منهن بالإيدز. كما خلفت الإبادة حوالي 50 ألف أرملة و75 ألف يتيم.

في شهر يوليو 1994 قامت الجبهة الوطنية الرواندية – التي تنتمي إلى أقلية التوتسي – بقيادة

بول كاغامي

بالسيطرة على رواندا والإطاحة بنظام الهوتو لتنتهي بذلك الإبادة الجماعية مخلفة وراءها نساء أرامل وأطفال أيتام وشوارع مليئة بالجثث.

رواندا الآن

استطاعت رواندا أن تخلع عنها عباءة التخلف، وأن تمضي قدما في طريق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، محققة العديد من الإنجازات التي لفتت أنظار العالم إليها كواحدة من أقوى الاقتصادات الصاعدة في إفريقيا، حتى إن البعض شبهها بالنمور الاقتصادية الآسيوية.

أشادت منظمة الكوميسا في يوليو الماضي بنجاح رواندا الاقتصادي، كون معدل نمو الاقتصاد الرواندي هو

الأعلى

في العالم منذ عام 2005 بنسبة تصل إلى 7.5% في المتوسط. وهو ما انعكس بوضوح في

تقرير

ممارسة أنشطة الأعمال 2017 الصادر عن البنك الدولي، الذي أكد أيضا أن اقتصاد رواندا هو الأكثر تطورا على مستوى العالم منذ عام 2005.

كما قامت الأمم المتحدة بمنح العاصمة الرواندية كيغالي لقب

أجمل

مدينة في إفريقيا عام 2015. وهو ما يثير الدهشة في النفوس، كيف لمدينة كثر فيها القتل وارتوت شوارعها بالدماء وتراكمت فيها الجثث قبل ثلاثة وعشرين سنة من الآن أن تصبح أجمل مدينة في إفريقيا اليوم؟

أما فيما يتعلق بالتنمية الاقتصادية، فقد استطاعت رواندا تخفيض معدلات الفقر من

57%

عام 2005، إلى

39%

عام 2015، أي أن معدلات الفقر في رواندا قد انخفضت بمقدار 18% خلال عشر سنوات فقط. كما تتمتع رواندا بدرجة عالية من المساواة بين الجنسين واحترام حقوق المرأة، يكفينا في هذا الصدد أن نعلم أن النساء

يشكلن

64% من البرلمان الرواندي منذ 2013.

كما تأتي رواندا كثاني أفضل بلد إفريقي من حيث سهولة القيام بالأعمال التجارية في 2016، وذلك بفضل سياسة

الشباك الواحد

التي اعتمدتها الدولة، والتي ضمت جميع الهيئات المنوط بها منح تراخيص البناء والتراخيص التجارية تحت سقف واحد، ومن ثم ضمان الحصول على التراخيص اللازمة في غضون 30 يوم عمل من تاريخ تقديم الطلب.

لا شك أن رواند تمثل معجزة حقيقية، كونها خلعت عن رقبتها طوق التخلف، واستطاعت أن تتجاوز الخلافات العرقية والإثنية، فالمواطن في رواندا الآن ليس هوتو أو توتسي، وإنما رواندي في المقام الأول. وهو ما مكن الحكومة من المضي قدما في خطتها الاقتصادية الطموحة، والتي تستهدف تحويل الاقتصاد من اقتصاد يعتمد على الزراعة بنسبة 90% إلى اقتصاد صناعي خدمي يعتمد على المعرفة والتكنولوجيا بحلول عام 2020.


2. سنغافورة

سنغافورة عشية الانفصال


دولة

صغيرة تقع في جنوب شرق آسيا، تبلغ مساحتها 697 كم مربع، يتكون النسيج الاجتماعي في سنغافورة بشكل أساسي من الصينيين 74%، والملاويين 13%، والهنود 9%، بالإضافة إلى عدد من الأعراق الأخرى يمثلون 3%.

في 9 أغسطس عام 1963

انفصلت

سنغافورة عن ماليزيا، وفي ذكرى الانفصال عام 1965 خرج لي كوان يو رئيس الوزراء

يبكي

بحرقه أمام الشاشات خوفا من مستقبل غامض ينتظره.

الوضع عند الانفصال كان أشبه بأب ألقى ابنه الرضيع في الشارع وتركه بلا مأوى ولا طعام، فمساحة ماليزيا

تبلغ

480 ضعف مساحة سنغافورة، كما أن ماليزيا عامرة بالموارد الطبيعية كالخشب والمطاط، في حين لا تمتلك سنغافورة أي موارد طبيعية على الإطلاق، حتى المياه العذبة غير متوفرة في سنغافورة!

هذا هو خلاصة الوضع عشية الانفصال، شعب غير متجانس، عبارة عن مزيج من الهنود والصينيين والملاويين والقوقازيين، يتحدثون الإنجليزية والصينية والملاوية وعددًا من اللغات المحلية الأخرى، يقطنون العشوئيات ويسبحون ليل نهار في بحور النفايات.

سنغافورة الآن

الوضع الآن في سنغافورة يختلف جذريا عما كان عليه عقب الانفصال مباشرة، 54 عامًا من العمل الدءوب كانت كفيلة بقلب الموازين رأسا على عقب، فقد ارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي

من

428 دولار ًا عام 1960

إلى

53 ألف دولار في 2016، وهو ما يجعل سنغافورة ضمن أغنى عشرة بلدان في العالم.

بعد أن كانت سنغافورة مركزا للعشوائيات في ستينيات القرن الماضي، أصبحت الآن قبلة للسياح من كل مكان

بمعدل

1.5 مليون سائح شهريًّا، وقد

بلغت

عائدات السياحة 18.5 مليار دولار خلال 2016.

كما أنها احتلت المرتبة الثامنة بين الدول الأكثر أمانا وسلامة في العالم، وفقًا

لتقرير

المنتدى الاقتصادي العالمي الصادر في أكتوبر الماضي، والذي شمل 134 دولة، معنى الأمان الذي يقصده التقرير هو انخفاض معدلات العنف والجريمة والإرهاب، ومعنى السلامة أنك بإمكانك أن تشرب أو تأكل في أي مكان بالدولة دون القلق من مصدر الطعام أو من تلوث المياه، كما أن الطرق العامة مصممة وفقًا لمعايير السلامة العالمية، وبإمكانك أن ترسل طفلك إلى المدرسة بمفرده دون أي قلق.

ما حققته سنغافورة من إنجاز ملموس ونهضة اقتصادية غير مسبوقة يرجع في الأساس إلى حكمة لي كوان يو رئيس الوزراء، الذي تسلم دولة فقيرة بمواردها، لكنه أدرك مبكرا أن الإنسان هو الثروة الحقيقية، فاهتمت الحكومة بالتعليم والصحة لبناء نهضة ترتكز على عقول وسواعد أبناء سنغافورة الذين هم ثروتها المتجددة التي لا ينضب معينها.

في الموازنة العامة لعام 2016 قامت الحكومة

بتخصيص

17% من الميزانية للإنفاق على التعليم، هذه الأموال لا تذهب هباءً، وإنما تنعكس على مستوى الطالب السنغافوري وقدرته التنافسية في سوق العمل الدولي، فقد

احتلت

سنغافورة المرتبة الأولى عالميا في البرنامج الدولي “بيزا” الممول من منظمة التعاون والتنمية، والمعني بقياس كفاءة الطلاب في القراءة والرياضيات والعلوم.

كما قامت الدولة بتخصيص 15% من الميزانية للصحة، وهو ما انعكس في

ارتفاع

متوسط عمر الفرد من 59 عامًا في 1957 إلى 85 عامًا في 2016، أي أنها ثالث أعلى دولة في العالم في متوسط عمر الفرد المتوقع عند الميلاد

وفقًا

لمنظمة الصحة العالمية.


3. كوريا الجنوبية

كوريا عشية الاستقلال


خضعت

شبه الجزيرة الكورية للاحتلال الياباني لمدة 35 عامًا منذ 22 أغسطس 1910 حتى انتهي الاحتلال مع هزيمة اليابان على يد الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عام 1945. بعد انتهاء الحرب قُسِّمَت كوريا إلى جزء شمالي يخضع للاتحاد السوفيتي، وجزء جنوبي يخضع لسيطرة الولايات المتحدة الأمريكية.

يوم 25 يونيو 1950 وبعد خمس سنوات من المناوشات الحدودية الدامية بين البلدين،

غزا

الجيش الكوري الشمالي المدرب على يد الاتحاد السوفيتي كوريا الجنوبية، ومن هنا اشتعلت الحرب التي راح ضحيتها

حوالي

1.3 مليون كوري جنوبي.

انتهت الحرب الكورية بعد ثلاث سنوات

مخلفة

وراءها بنية تحتية مهترئة، وقاعدة صناعية مدمرة، فقد تم تدمير 80% من محطات توليد الكهرباء، كما تم تدمير 40% من الوحدات السكنية تدميرا كاملا، بالإضافة إلى تدمير البنية الصناعية.

هكذا كان تاريخ كوريا الجنوبية، احتلال ياباني، ثم حرب دامية استمرت ثلاث سنوات مع شقيقتها الشمالية، بنية تحتية مدمرة بالكامل، وشعب يعاني ويلات الحرب ويكابد آلامها النفسية والجسدية.

كوريا الجنوبية الآن

تعتبر كوريا الجنوبية معجزة اقتصادية بكل المقاييس، كونها قد بدأت في بناء اقتصادها من الصفر عقب انتهاء الحرب مباشرة، حتى أصبح اقتصادها

رقم

13 على مستوى العالم من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي.


استطاعت

كوريا تحقيق معدلات نمو غير مسبوقة وبشكل مستمر خلال فترة طويلة من الزمن، فقد حققت معدل نمو سنوي بلغ 8% في المتوسط منذ 1965 حتى 2004، حتى أطلق عليها معجزة نهر الهان.

ارتفع معدل دخل الفرد في كوريا الجنوبية من

حوالي

155 دولارًا عام 1960

إلى

29,8 ألف دولار في 2017.

رأس المال البشري هو سر نهضة كوريا الجنوبية شأنها في ذلك شأن سنغافورة ورواندا، فقد أولت الحكومة اهتماما بالغا بالعنصر البشري فاستثمرت بكثافة منذ الوهلة الأولى في التعليم بكل أنواعه ومراحله، وذلك حرصا منها على تخريج جيل جديد قادر على حمل راية التنمية،ليس أدل على ذلك من ارتفاع نسبة الإنفاق على التعليم

من

2.5% من ميزانية الدولة عام 1951

لتصل

إلى 41% عام 1999 ثم إلى 30% عام 2012.

كوريا الجنوبية واحدة من أقل دول العالم بطالة، فقد

سجل

معدل البطالة 4% في أبريل الماضي، ولا عجب في ذلك، كون الاقتصاد الكوري اقتصادا صناعيا بامتياز، فالشركات الكورية مثل سامسونج وهيونداي تتصدر المرتبة الأولى عالميا في صناعة الأجهزة المنزلية وبناء السفن

وفقًا

لبيانات شركة “سيوسكو” للبحوث عام 2014.


4 دروس مستفادة: كيف فعلوا ذلك؟

1. الاهتمام بالعنصر البشري، فالإنسان هو العمود الفقري للتنمية، ومن ثم فإن أي استراتيجية للتنمية لا تنطلق من الاهتمام بالتعليم والصحة لن يكتب لها النجاح.

2. القضاء على الفساد وتطبيق القانون على الجميع من أهم ركائز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، على سبيل المثال

سجنت

الحكومة السنغافورية شابًا أمريكيًّا لمدة أربعة أشهر، وجلدته 6 جلدات وغَرَّمته 2300 دولار لقيامه بعدة أعمال تخريبية في سنغافورة، وحاول الرئيس كلينتون نفسه التدخل لإيقاف تنفيذ الحكم، لكن الشعب السنغافوري رفض رفضا قاطعا، فالقانون في سنغافورة يطبق على الجميع، أجانب كانوا أم مواطنين.

3. توحيد الدولة نحو هدف واحد وإعلاء المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، حينما تولي لي كوان يو رئاسة الوزراء كانت لغته الصينية هي لغة الأغلبية في سنغافورة، لكنه تجرد من انتمائه العرقي ورفض تفضيل لغة محلية على أخرى، فجعل الإنجليزية هي اللغة الرسمية للبلاد.

4. الإيمان بخصوصية الظرف التاريخي والجغرافي والسياسي والاجتماعي لكل دولة على حدة، ومن ثم يجب أن ينعكس ذلك على طريقة بناء الاستراتيجية المتبعة للتنمية الاقتصادية، سر نجاح هذه الدول يكمن في عدم استيراد وصفات سريعة وجاهزة للتنمية الاقتصادية، وإنما العمل على تصميم آليات جديدة تراعي خصوصية المرحلة التي تمر بها الدولة.