إذا كان القرن الثامن عشر قد طرح سؤالًا أثار انتباه عددٍ من مفّكري عصره ومثقّفيه ومنهم كانط الذي نهتمّ به في هذا السياق، أعني سؤال «ما هي الأنوار؟»، فسؤال القرن العشرين حول الفلسفة الحديثة، بحسب فوكو، يمكن الإجابة عنه بأنّها «الفلسفة التي حاولت، وبكلّ حذرٍ منذ قرنين، أن تجاوب على سؤال: ما هي الأنوار؟». وهكذا منذ البداية، وفي نصّه الأساس الذي كتبه تحت العنوان نفسه الذي حمله نصّ كانط، أعني «ما هي الأنوار؟»، يحدّد فوكو الفلسفة الحديثة برمّتها بأنّها الفلسفة الساعية لتحديد هذا «الحدث الذي يسمّونه الأنوار»، كما يقول فوكو نفسه.



هناك فارق بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين: ففي حين أنّ الأوّل بشّر، وجاوبَ، ووعدَ بأنّنا سنكون أسيادًا، فإنّ الثاني سيثبت العكس.

لكنّ الأمر في نهاية المطاف أجوبة للقرن الثامن عشر، في حين أنّها أسئلة القرن العشرين. إنّ نصّ كانط إجابةً على هذا السؤال الذي أجاب عنه ضمن عددٍ من مثقّفي عصره هو جواب حول هذا السؤال، بيد أنّ نص فوكو الذي كتبه في القرن العشرين هو طرح أسئلة واستشكال بشكلٍ أو بآخر. وهنا يكمن بالتحديد الفرق بين القرن الثامن عشر والقرن العشرين: ففي حين أنّ الأوّل بشّر، وجاوبَ، ووعدَ بأنّنا سنكون أسيادًا، فإنّ الثاني سيثبت العكس. إذ كما يقول فوكو: «لا أعتقد بأنّنا سنكون أسيادًا، فكثير من الأشياء في تجربتنا تُقنعنا بأنّ الحدث التاريخيّ للأنوار لم يجعل منّا أسيادًا».

لقد عرّف كانط في نصّه الشهير هذه الأنوار باعتبارها «خروجًا من القصور»، وبما هي «جرأة استعمال العقل»، مميّزًا ما بين الاستعمال الخصوصيّ للعقل والاستعمال العموميّ له. ويعرّف كانط الاستعمال الخصوصيّ بأنّه الاستعمال الذي يكون فيه العقل مُرتهَنًا في وظيفة، مؤسّسة، جهازٍ ما. ويقول كانط بأنّ العقل يجب أن يكون طائعًا في استعماله الخصوصيّ، في حين يجب أن يكون حرًّا في استعماله العموميّ. هذه المفارقة يوضّحها فوكو في نصّه بقوله إنّ: «كانط لا يطلب القيام بطاعة عمياء دون تفكير، ولكن يطلب استعمالًا للعقل يكون متكيّفًا مع هذه الأوضاع المحدّدة، وفي هذه الحالة نجد أنّ العقل يكون خاضعًا لتلك الغايات المعيّنة، فلا يكون هناك إذن استعمال حرّ للعقل. وبخلاف ذلك، عندما نفكّر فقط من أجل استعمال فكرنا، عندما نفكر ككائنات مفكِّرة (وليس كأداةٍ في جهاز)، عندما نفكر كجزءٍ ينتمي للإنسانيّة المفكّرة، فإنّ استعمال العقل يجب أن يكون حرًّا وعموميًّا. والأنوار ليست فقط حدثًا يضمن من خلاله الأفراد حريّتهم الخاصّة في التفكير، بل تتحقّق الأنوار عندما يكون هناك تطابق للاستعمال الكوني، والحرّ مع الاستعمال العمومي للعقل».

يربط فوكو تصوّر كانط حول الأنوار بمؤلّفاته الثلاثة حول النّقد؛ إذ إنّ الأنوار هي اللحظة، أو لنقل «الحدث» بتعبير فوكو، التي حاول فيها الأفراد أن يفكّروا نقديًّا دون الخضوع لأيّ سيطرةٍ كما حدّدها كانط، ومن ثمّ يغدو النّقد ضروريًّا، حيث إنّ النّقد هو الذي يحدّد الشروط المشروعة لاستعمال العقل لكي يحدّد ما يمكن معرفته (وهو سؤال الجزء الأوّل من الثلاثيّة، أعني كتاب «نقد العقل المحض»)، وما يمكن عمله (وهو سؤال الجزء الثاني من الثلاثيّة، أعني كتاب «نقد العقل العمليّ»)، وما يمكن انتظار وقوعه أو ما يمكن رجاؤه (وهو سؤال الجزء الثالث منها، أعني كتاب «نقد ملكة الحكم»). إذن، «أصبحت الأنوار هي عصر النّقد»، كما يقول فوكو.



ليست الأنوار عصرًا للعالم ننتمي إليه، ولا حدثًا ندرك علاماته… فكانط يعرّف الأنوار، بطريقة تكاد تكون سلبيّة تمامًا، (كخروج)، (كمنفذ).

إنّ نصّ كانط «قد لا يكون مهمًّا» بحسب فوكو، لكن «يبدو لي أنّ التفكير في (الآن) كاختلاف داخل التاريخ وكدافعٍ نحو مهمّة فلسفيّة خاصة هو الجديد الذي يحمله هذا النصّ. كما يبدو لي أنّ التعامل معه بهذا الشكل يمكن أن نجد فيه نقطة انطلاق أو إرهاصًا لما يمكن تسميته بموقف الحداثة». لذلك، يرى فوكو أنّ كانط هو الفيلسوف الأوّل الذي أولى لسؤال الرّاهن منزلة خاصّة، ومن ثمّ يتساءل فوكو مستنكرًا على التأريخ الشائع للحداثة باعتباره حقبة، من خلال العودة لنصّ كانط هذا، متسائلًا: «لماذا لا يمكن أن نعتبر الحداثة كموقفٍ عوض اعتبارها حقبة من حقب التاريخ، وأعني بالموقف شكلًا من العلاقة مع ما يحدث في الوضع الراّهن، واختيارًا واعيًا يقوم به البعض، وأخيرًا نمطًا من التفكير والإحساس وطريقة في السلوك والاستجابة التي تدلّ على انتماءٍ معيّن وتظهر كمهمة يجب فعلها».

لكن بدورنا نتساءل، ما هو «الرّاهن» الذي يلحظه فوكو في نصّ كانط؟ وماذا يكون؟ هل هو الحاضر؟ يميّز فوكو «راهن» كانط عن أنماط الرّاهن الأخرى الشائعة التي يمكن أن نجدها في أفق الفلسفة. وبالتالي، يعيّن فوكو هذا «الرّاهن» بمعزلٍ عن ثلاث معانٍ: أولًا يختلف عن الحاضر باعتباره انتماءً لعصر ما يختلف عن غيره بسمات مميّزة (أفلاطون في الجمهوريّة)؛ وثانيًا يختلف عن كونه علامات تبشّر بوقوع حدثٍ ما في المستقبل (كما لدى القدّيس أوغسطين)؛ وثالثًا يختلف عن تحليل الحاضر باعتباره نقطة تحوّل نحو فجر جديد (كما لدى فيكو في مبادئ فلسفة التاريخ). إنّ كانط، عوضًا عن ذلك، وذلك بحسب فوكو، يطرح الرّاهن بصورة مختلفة؛ إذ ليست الأنوار «عصرًا للعالم ننتمي إليه، ولا حدثًا ندرك علاماته، ولا حتى بداية لإنجاز. فكانط يعرّف الأنوار بطريقة تكاد تكون سلبيّة تمامًا، يعرفه (كخروج)، (كمنفذ)».

ويتسنّى للمرء في سياقٍ كهذا أن يتوقّف عند مفهوم فوكو للرّاهن، اعتمادًا على جيل دولوز. في كتابه المشترك «ما هي الفلسفة؟»، يساعدنا جيل دولوز، مع فيلكس غتاري، على إدراك مفهوم «الرّاهن» لدى فوكو. إذ حسب دولوز، «ما يهمّ بالنسبة إلى فوكو هو الفارق بين الرّاهن والحاضر. إنّ الجديد والمهمّ هو الرّاهن. فلا يتحدّد الرّاهن بما نحن عليه، وإنّما بما نصيره، أو نحن بصدد صيرورته، أي الآخر […] أما الحاضر فهو، على عكس ذلك، ما نحن بصدد تجاوزه». إنّ هذه تبصرة مهمّة من دولوز لإدراك مفهوم فوكو حول الرّاهن، حتى لا نخلط بينه وبين الحاضر الذي هو محلّ تجاوز دائمًا. إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّ الرّاهن يعبّر عن طوباويّة ما، بقدر ما يعني الصيرورة والتأمّل فيها بدلًا من التفكير في الأبديّ.



يتعلق نقد فوكو بالتفكير في الذات كتشكل تاريخي، يتشكل ضمن بنى، وخطابات، وأفعال، تنتج الذات في نهاية المطاف.

إنّ كانط في هذا الجواب لا يفكّر في الحاضر من كُليّةٍ ما أو من خلال الاكتمال المستقبليّ لشيءٍ ما، إنّما عبر الاختلاف؛ أي «ما هو الشيء المختلف الذي يضيفه الوضع الراهن بالمقارنة مع ما أتى به الأمسُ؟». بيد أنّ فوكو يعترف بأنّ كانط في كتاباته الأخرى حول التاريخ يطرح أسئلة حول الأصل أو يحدّد الغاية الأصليّة لصيرورةٍ ما، ولذلك يقترح فوكو، من منطلق كونه ناقد القرن العشرين بامتياز، أن يقيم نقدًا آخر غير النّقد الكانطيّ، نقدًا لن تكون مهمّته جعْل «ميتافيزيقا ما ممكنة» (هو عنوان لكتابٍ لكانط)، ولن يكون نقدًا متعاليًا. يقترح فوكو بالأصحّ نقدًا جينالوجيًّا أركيولوجيًّا؛ نقدًا جينالوجيّ الغاية (لا يهتمّ بالأصل، وإنّما بالتشكّلات)، وأركيولوجيّ المنهج.

يوضّح فوكو نقدَه المقترَح البديل بأنّه أركيولوجيّ بمعنى أنّه سيتعامل مع الخطابات التي تمزج ما نقوله مع ما نفعله، وليس يستخرج البنيات الكونيّة لكلّ معرفة. وهو نقد جينالوجيّ بمعنى أنّه «لن يستنبط من الشكل الذي انوجد عليه الشيء الذي يستحيل فعله أو معرفته، ولكن سيستخرج من الحالة العابرة التي جعلتنا نكون ما نحن عليه، إمكانيّة أن لا نكون ولا نفعل ولا نفكّر ما نكونه وما نفعله وما نفكّر فيه». ومن ثم، فهو نقد لا يتعلق بجعل الميتافيزيقا ممكنة، وإنما بالتفكير في الذات كتشكل تاريخي، يتشكل ضمن بنى، وخطابات، وأفعال، تنتج الذات في نهاية المطاف.

يحاول فوكو أن يقرأ في نصّ كانط أن يرى عمق نمط التساؤل الفلسفيّ الذي ربط الحاضر بنمط الوجود التاريخيّ، ومن ثمّ بناء الذات الإنسانيّة كذات مستقلّة عن القوى، وغير خاضعة وهي تمارس فعل النّقد الذي يحدّد سِمة الأنوار في المقام الأوّل. بيد أنّ فوكو لا يتّخذ موقفًا تبحيليًّا من الأنوار بـ «إنقاذ» نزعتها من براثن التاريخ، ففوكو أصلًا لا يفكّر بموقف مع-ضدّ، بل حتى لا يفكّر بصورةٍ جدليّة بتحديد ما هو حسن وما هو قبيح في الأنوار. إنّ فوكو بالأحرى لا يقترح علينا أن نتخذ موقفًا «مع» أو «ضدّ» الأنوار، إذ إنّ هذه الطريقة هي «طريقة ابتزازيّة» بتعبير رشيق له. إنّه يحاول أن يحلّل الذوات الحديثة باعتبارها ذواتًَا شُكلّ جزءٌ منها بواسطة الأنوار نفسها، ومن ثمّ يدعو إلى إجراء بحوث تاريخيّة مكثّفة عليها. ومن ثمّ، فإنّ ما يعلّمنا إيّاه نصّ كانط بحسب فوكو أن نخرج من هذه «الابتزازيّة» مع الأنوار، وأن نقف على الحدود، بما أنّ النّقد هو موقف حدوديّ في نهاية المطاف.



يحاول فوكو أن يرى عمق نمط التساؤل الفلسفيّ الذي ربط الحاضر بنمط الوجود التاريخيّ، ومن ثمّ بناء الذات الإنسانيّة كذات مستقلّة عن القوى، وغير خاضعة.

ويلفت فوكو نظرنا إلى أنّ ثمّة غموضًا يعتري نصّ كانط من حيث تحديد مَن هو المسؤول عن الأنوار؟ هل هو الفرد أم الإنسانيّة المفكّرة؟ ويبدو أنّ الأمر بالنسبة إلى كانط يتمثّل في موقفٍ مزدوج؛ فهو من جهة «سيرورة ينخرط فيها البشرُ بشكلٍ جماعيّ»، وأيضًا فعل يجب إنجازه بشكلٍ فرديّ. يجنّنا فوكو أيضًا هذا الخلط الشائع، والمتكرّر في واقع الأمر، بين الأنوار والإنسانويّة. وهذه الإلماحة من أكثر إلمحات فوكو ذكاءً في هذه الورقة التي كتبها حول الأنوار تعليقًا على كانط. إذ يقول فوكو بأنّ الأنوار بما هي مجموعة من الصيرورات التاريخيّة المعقّدة والتي وقعت في لحظة معينة للمجتمع الأوروبيّ تختلف تمامًا عن الإنسانويّة التي هي بالأحرى مواضيع لا تفتأ تظهر عبر الزّمن، هذه المواضيع التي ارتبطت بأحكام قيميّة. إضافة إلى أنّه لا توجد إنسانويّة واحدة، فهناك إنسانويّة مسيحيّة، وإنسانويّة تنقد الدين المسيحيّ، بل الماركسيّة كانت إنسانويّة حسب فوكو والوجوديّة كذلك، بل هناك من الستالنيين من كانوا يعدّون أنفسهم ذوي إنسانويّة… لذلك هناك «توتّر» بين الإنسانويّة والأنوار، كما ينبّهنا فوكو؛ إذ «الأنوار قلّما اعتبرت نفسها مذهبًا إنسانيًّا».

وبالأخير، تساعدنا إجابة كانط على بناء ما أسماه فوكو «أنطولوجيا تاريخيّة» لذواتنا، وهي أنطولوجيا نقديّة لا تتعلّق بثنائيّة الخارج والدّاخل، إنّما بالحدود، والحدود وحدها، وكانط هو نفسه فيلسوف الحدود، ومن ثمّ سيكون النّقد لا يبحث عن بنيات صوريّة لها قيمة كونيّة، بقدر ما سيعتني بالبحوث التاريخيّة. وعلينا أن نتذكّر أن فوكو بطريقة أو بأخرى هو جينالوجيّ ومؤرّخ أفكار لنفهم طبيعة تفكيره في إجابة كانط من ناحية، واقتراحه لأنطولوجيا نقديّة للذوات الحديثة التي تشكّلت في وضعيّة تاريخيّة محكومة بها وإليها.


المراجع



  1. كانط، ما هي الأنوار؟، ترجمة إسماعيل المصدق، مجلة فكر ونقد، عدد 4، 1997.
  2. فوكو، ما هي الأنوار؟، ترجمة حميد طاس، مجلّة فكر ونقد، عدد 5، 1998.
  3. صالح مصباح، مباحث في التنوير، دار جداول.
  4. جيل دولوز وفليكس غتاري، ما هي الفلسفة؟، ترجمة مطاع صفدي، مركز الإنماء القوميّ.