يا ربنا.. نجنا في هذا الوقت العصيب، لا تدع أطفالي يموتون، ولا أصدقائي، ولا زوجتي، نجِ أولئك الذين يحبونك ويؤمنون بك، وأولئك الذين لا يؤمنون بك نجهم لأنهم عميان، وأولئك الذين لم يفكروا بك، أولئك الذين فقدوا أملهم ومستقبلهم وحيواتهم وفرصة الاستسلام لإرادتك، أولئك المملوئين بالرعب، الذين يشعرون بقرب النهاية، ويخافون على أنفسهم ومن يحبونهم، كل أولئك الذين لا أحد قادر على حمايتهم غيرك نجهم يا ربنا.





فيلم التضحية 1986 (The Sacrifice)، للمخرج أندريه تاركوفسكي.

دائمًا ما يسيطر الخوف والشعور بالضعف والتفكير في النهاية على نفسية العالم عند وقوع حدث جلل، حدث يفضي إلى نهاية العالم أو يشعر البشر بقرب نهايتهم. من حسن حظ صناع السينما امتلاكهم القدرة على تقديم صور مقربة لخوف البشر في ظروف كتلك، من داخل المعايشات البشرية للحروب والأوبئة التي ضربت العالم عبر التاريخ. نجحت بعض تلك الصور في جذب أنظار الأكاديميين الذين استعرضوها من وجهة نظر علمية ومجتمعية ونفسية.

فكيف
نجحت الدراما والأكاديميا في توصيف حياة
البشر قرب نهاية العالم؟


أنا أسطورة: آخر رجل في العالم

لم تكن المخيلة الهوليوودية التي أنتجت كل السيناريوهات المحتملة لنهاية العالم، وصورت اقتراب البشر من نهايتهم المحتومة، أو حتى حياتهم بعد فناء العالم، لم تكن لتخرج سيناريو أكثر ألماً وقوة من سيناريو فيلم «أنا أسطورة» (I Am Legend) الذي لعب دور البطولة فيه النجم العالمي ويل سميث.

فيلم I Am Legend
الملصق الدعائي لفيلم «I Am Legend»

صور الفيلم حالة استثنائية اكتسبت قدراً لا بأس به من الواقعية. فيروس خفي بدأ يصيب سكان الولايات المختلفة، لتنتشر قوات الجيش بكثافة وتغلق الولايات لمنع خروج سكانها وازدياد العدوى، لكن الأمور ستأخذ في الانهيار أكثر فأكثر، حتى نصل إلى نقطة يبقى فيها بطل القصة وحيداً في تلك الولاية، بل في العالم بأجمعه، كما ستظن في معظم أحداث الفيلم. يطلق البطل كل يوم بثاً إذاعياً عبر كافة المحطات، في محاولة للعثور على من تبقى حياً في أي مكان في العالم.

في

ورقته

البحثية الصادرة عام 2007 عن جامعة كاليفورنيا، قدم الباحث كريستوفر مورمان، صورة فلسفية مختلفة عن سياق الفيلم وأحداثه، والرمزيات التي حاول صناعه تقديمها من البداية وحتى النهاية. كشف مورمان أن الفيلم هو المحاولة السينمائية الثالثة لتجسيد الرواية الشهيرة «آخر رجل على وجه الأرض» المكتوبة عام 1954 بقلم الروائي ريتشارد ماتيسون، والتي حملت الكثير من الرمزيات، تلاعب الفيلم بها أحيانًا، لكنه لم يبتعد عنها كثيرًا.

بين مورمان في دراسته أن الرواية ومن بعدها الفيلم يقومان على فرضية دينية قديمة في الغرب المسيحي، هي فرضية «المسيح المخلص» التي تفترض أن عيسى، عليه السلام، وبقدرته على شفاء المرضى وبهباته التي منحه إياها الله، سيكون هو العائد في النهاية لتخليص العالم من كل شروره، ولتبدأ حقبة جديدة ينعم فيها الخيرون بالملكوت الآبدي.

يتحدث مورمان عن أن الفيلم، على الرغم من تقديمه البطل «نيفيل» بصفته ملحداً لا يؤمن أن الإله سينقذ البشرية، مثلما ظهر في حواراته مع المرأة الناجية، إلا أن الفرضية التي قدمتها الرواية ظلت حاضرة برمزيتها، والتي تتحدث عن التضحية من أجل إنقاذ العالم والبشرية، وقد قدم ذلك الفيلم في صورة اكتشاف روبرت إصابة ابنته بالفيروس المنتشر، وأن العلاج الذي جربه عليه هو المصل الذي سيخلص بقية البشرية مما هم فيه.


أطفال الرجال: جنين واحد يحمي

المستقبل

في واحدة من أكثر السرديات الدرامية رعبًا عن المستقبل الأوروبي بشكل عام، تأتي في «أطفال الرجال» (Children of Men) حكاية عصر لا تستطيع فيه النساء إنجاب مزيد من الأطفال، ويفقد فيه الرجال قدرتهم على الإخصاب، لتصبح الشوارع خالية والمدن فارغة والمنازل بلا سكان تدريجيًا، كل ذلك دون قذيفة بيولوجية أو طلقة رصاص واحدة، فقط لأن وباء مجهولاً بلا علاج ضرب البشرية هناك.

فيلم Children of Men
فيلم «Children of Men»

حملت السردية الدرامية هذه المرة طابعاً دينياً أيديولوجياً، ارتبط بشكل كبير بالمآلات المستقبلية المتوقعة، وهي – على سوداويتها – تحمل الكثير من الواقعية، حيث تبدأ بوصف عالم أوروبي، يصل به احتقار المهاجرين واللاجئين إلى درجة وضعهم في أقفاص، ومن ثم نقلهم في مجموعات إلى مستعمرات صغيرة مقفلة على أصحابها بأبواب حديدية، لتصبح الصورة من الداخل مستنسخة بالكامل من شوارع المدن النامية الفقيرة المزدحمة.

في

دراسته

المنشورة عام 2015 بجامعة سيراكيوز، تحدث الباحث جايل هامنر عن الرمزية الدينية التي حوتها السردية الدرامية تلك. والفيلم – بحسب ما ذكرت الدراسة – مستوحى من رواية تحمل الاسم نفسه صادرة عام 1992، كانت تتصور في الأساس في عودة القوى الدينية للحكم في أوروبا، ولو بصورة متخفية، وكيف يمكن لذلك أن يؤثر على الجموع البشرية، حتى تلك التي تدعي التحرر من وجهة نظر الدراسة.

ترسم الورقة البحثية نموذجًا للصورة الكابوسية التي تهيأت لها أوروبا على مدار السنوات الماضية، مع بدايات تصاعد اليمين المتطرف في الاستحقاقات الانتخابية، وكيف يمكن أن يخلق ذلك توابع كارثية، لكن الرمزية الدينية مختلفة في القصة هذه المرة، فرجوع أوروبا إلى العصر الديني الراديكالي لم يستجلب رضا الرب، ولم ينقذهم من العقم الذي أصابهم 18 عاماً، بل كان سبباً في تفشي الكراهية. إلا أن الأمل سيأتي هنا عن طريق واحدة من أولئك الذين عمدت الرمزية الدينية في أوروبا إلى تدميرهم وسجنهم في أقفاص، عن طريق امرأة سوداء البشرة، يكتشف أنها الحامل الوحيدة في أوروبا آنذاك.


التضحية: قبل نهاية العالم بلحظات

لم يتوقف تاركوفسكي في كل مرة عن الاقتراب من رمزية النهاية، لم يتوقف عن تقديم مشاعر الإنسان قرب نهاية العالم في أكثر من عمل درامي، لكنه على عكس كثير من صناع السينما الذين يقدمون الأحداث من زاوية التغير المحيط، وتتابع الأحداث المؤدية إلى النهاية، يعتمد تاركوفسكي على تقديم نفسية الإنسان وهو جالس يترقب نهايته.

فيلم The Sacrifice
الملصق الدعائي لفيلم «The Sacrifice»

في فيلم «التضحية» (The Sacrifice)، قدم تاركوفسكي طرحه حول الحرب، العدو اللدود الذي اعتاد تاركوفسكي تقديمه باعتباره المفتاح الأول والأسهل نحو طريق نهاية العالم بالنسبة للبشر، وفي هذه المرة استخدم الصورة والنص والمونولوج الفردي والخطاب الوجودي واللقطات الهادئة.

استخدم تاركوفسكي مزيجًا متميزًا تغير فيه لون الصورة فجأة نحو لون رمادي غريب، أشعر كل من يشاهد أن كارثة على وشك الحدوث، ودفع بعدها بمشاهد هوس البشر بالركض والخوف والهرب، حتى تمثلت في تلك السردية من تاركوفسكي كل مشاعر الهلع التي تسبق النهاية.

كانت الرمزية الدينية الفلسفية حاضرة هذه المرة أيضاً، مثل انتظار «المخلص» في النهاية، وجلسة بطل الحكاية يوم عيد ميلاده على الأرض، مقدماً واحداً من أبرع مشاهد التضرع البشري للخالق، الذي حوى كل كلمات ودعوات وتضحيات البشر التي يستعدون لتقديمها، فقط حتى يحميهم الله من النهاية المخيفة الكارثية.. من الحرب وتبعاتها.

في

دراسة

الباحث جابرييل جيرالت عن فيلم تاركوفسكي، تحدث عن تعامله مع التاريخ باعتباره البطل المحرك لمجرى الحكاية، وأن ما يحدث بمرور الزمن وانعكاساته على البشر، لهو كاف لتقديم قصة تقف أمامها الأبصار محاولة الحصول على تفسير.

تحدث جابرييل عن كيف كانت الحرب ورمزيتها في سردية تاركوفسكي هي مؤشر التوجه نحو النهاية، عبر البيان المعلن في التلفاز، الذي توقف كل شيء بعده.. الكهرباء وخطوط الاتصال، لم يعد هناك شيء يعمل، وبدأت النساء تنهار وتبكي وتفكر في كل الكوارث التي ستحدث تالياً، وقد اختار تاركوفسكي الحرب النووية باعتبارها الكارثة الأكبر في القرن الماضي.

مالت الصورة دائماً في سينما تاركوفسكي إلى تلك النزعة السوداوية، التي تحمل في كثير منها جانباً غاية في الواقعية، وهو جانب لا يمكن إهماله، ذلك أن سوداوية تاركوفسكي جاءت بسبب الحروب العديد التي عايشها تاركوفسكي طوال حياته، والتي فرضتها عليه الجغرافيا بحكم وجوده في نطاقات السوفيت، وكذلك التاريخ، إذ عاصر كل أنواع الحروب والانهيارات العسكرية، وسقوط القومية الصينية وصعود الاشتراكية بديلاً عنها، وكذلك الكوارث النووية التي شكلت مفاجأة للعالم وقتها، فكل ما أحاط بتاركوفسكي أخبره أن النهاية قريبة.

كشفت الرمزية المذكورة في الفيلم كذلك عن التمسك القديم بحلم الطفل الصغير الذي يشكل أمل المستقبل، وكيف يمكن أن ينهار الجميع ويبكي خوفاً عليه وأملاً في الحفاظ على حياته للمستقبل، وقد ظهرت تلك الرمزية وارتباطها بالبعد الديني في فلسفة تاركوفسكي وتفكيره بوضوح، حيث ارتبطت بمعنى «المسيح المخلص» أو المنقذ، والذي يمثل بداية عهد جديد، بعد نهاية عهد مليء بالدمار، ظهر ذلك في مشهد احتراق المنزل الضخم، والذي قدمه تاركوفسكي ليدعم فكرته.


ثلاثية المصفوفة: فقدان الإرادة واقتراب النهاية

إن تصور فيلسوف العدمية الألماني شوبنهاور عن البشر ووجودهم في الكون لهو واحد من أكثر التصورات الفلسفية تشاؤمًا، إذ دارت الفرضية بأكملها حول افتقاد البشر لحرية الإرادة، وأن جميعهم جاءوا إلى الحياة كقطيع من الأغنام، ينتظر دوره في الذبح، ولا يمكنه أن يغير شيئاً من هذا كله.

فيلم The Matrix
الملصق الدعائي لفيلم «The Matrix»

عبر تبني هذه الافتراضية طرحت ثلاثية أفلام ماتريكس الشهيرة (The Matrix Trilogy) فكرتها الأساسية، لتقدم واحدًا من أكثر السيناريوهات تشاؤمًا حول الإنسان، وضحها الباحث هاري داهمس في

دراسته

المنشورة بجامعة تينسي. تدور الثلاثية حول مراقبة الإله للبشر طوال الوقت، لا لحمايتهم أو لأنه خالقهم ومالك أسباب وجودهم، بل لحرمانهم من حرية الاختيار، وهي فرضية نفسية في المقام الأول لا يمكن القول باستنداها إلى منطق صحيح.

واحدة من الفرضيات التي قدمتها الأطروحة، تشتبك بشكل كبير مع فرضية شوبنهاور السابق ذكرها، فرواد مدرسة فرانكفورت قدموا الفكرة المطروحة باعتبارها تجسيداً لفكرة سجن الإنسان داخل جسده، والتي هي جزء من شعور الاغتراب نفسه، الذي تقدمه كل من القصة والفيلم. تسير الأحداث مجموعة ترى الحقيقة كاملة – من منظورها – وتبدأ في العمل على هذه الفكرة في دائرة مغلقة بعيداً عن التصورات المجتمعية السائدة، إذ افترضت النظرية جهل الجميع بحقيقة الوجود المؤامراتية، كما تربط القصة بين البقاء البشري في الوجود، وديمومة ذلك السجن السالف ذكره، وهو ما يدعم بقوة فرضية الاغتراب وعلاقتها بفلسفة التفكير في التحرر البشري.

لكن يلاحظ أن أزمة الاغتراب المذكورة في الدراسة والفيلم، قد ارتبطت بالتغيرات السياسية والتطورات الثقافية والإيديولوجية المتصلة بها، فأزمة الاغتراب طرحت كفكرة مناوئة للحداثة الأمريكية وأفكارها المعاصرة الجديدة، وكيف أنها كانت جزءاً من تحول ضخم عصف بحياة البشر في الغرب.

كما أن الجزء الفلسفي من الأطروحة، يتعلق بمفهوم نظرية شوبنهاور القديمة، والتي تربط سجن البشر في الدنيا بخضوعهم للمراقبة طوال حياتهم، وهي من أكثر الأفكار التي أسست الفكر العدمي عبر التاريخ.

لذا
يبدو لنا من متابعة تلك القصص وفهم نظرياتها
الفلسفية، أنها عايشت الكثير من الأفكار
المتعلقة بنهاية العالم ومخاوف البشر من
الأوبئة، وكيف يظهر ذلك دوافع وتفسيرات
نفسية كثيرة لا تخرج إلا إذا استشعر البشر
قرب النهاية.