عرفت تركيا في تاريخها الكثير من الحكومات الائتلافية بين الأحزاب السياسية أو التحالفات الانتخابية غير المعلنة، لكن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستكون المرة الأولى التي تخوضها الأحزاب السياسية وفق مبدأ التحالفات المتاح تبعًا للدستور والقانون.


العتبة الانتخابية

باستثناء انتخابات 1965 وانتخابات 1966 الجزئية، تطبق تركيا منذ عام 1961 وحتى يومنا هذا طريقة هوندت في الانتخابات البرلمانية، وهي طريقة التمثيل النسبي التي عرّفها المحامي والرياضي البلجيكي فيكتور هوندت عام 1878. وتعتمد الطريقة على قسمة عدد المصوتين في الدائرة الانتخابية على الأرقام بشكل تصاعدي ابتداءً من 1 وحتى الوصول لعدد النواب المحدد لتلك الدائرة، ثم توزيع المقاعد على الأحزاب حسب نسبة التصويت لها.

بيد أن هذا النظام طرأ عليه تغيير مهم عام 1983، قبيل الانتخابات البرلمانية الأولى بعد الانقلاب العسكري في 1980. فقد رأت المجموعة العسكرية التي نفذت الانقلاب بقيادة كنعان أفرين أن النظام الانتخابي أدى لتعثر الحكومات بسبب فشل الأحزاب الكبيرة في الفوز بالأغلبية البرلمانية. ولذلك، فقد أجرى مجلس الأمن القومي – المكوّن من أفرين وقيادات القوات المسلحة – تعديلين مهمين على النظام الانتخابي، من خلال المجلس الاستشاري الذي كان هو من يعيّن أعضاءه أو يقرهم. التعديل الأول كان تضييق الدوائر الانتخابية ليخرج من كل منها 7 نواب كحد أقصى، لتعزيز فرص الأحزاب الكبيرة وخنق هامش الأحزاب الصغيرة.

وأما الثاني والأهم فكان فرض عتبة أو حاجز انتخابي مطلوب من كل حزب تخطيه لدخول البرلمان، هو نسبة 10% من أصوات الناخبين، بدافع ضمان الاستقرار السياسي أو دوام عمل الحكومات واستقرارها. لكن محاضر المجلس الاستشاري كانت تشير إلى دافع آخر، وهو منع الأحزاب المناطقية من دخول البرلمان، ما يعزز ضمنًا الانطباع السائد في تركيا بأن الطرفـَيْن المستهدفـَيْن بشكل رئيسي من هذا التعديل كانا الأحزاب الإسلامية بقيادة نجم الدين أربكان والأحزاب الكردية اليسارية.

رجب طيب أردوغان، نجم الدين أربكان، تركيا

الرئيس التركي «رجب طيب أردوغان» (يمين) ورئيس الوزراء الأسبق الراحل «نجم الدين أربكان»

وقد صدر هذان التعديلان في نص القانون رقم 2839، المؤرخ في 10 حزيران/ يونيو 1983، والذي طبق لأول مرة في الانتخابات البرلمانية في السادس من تشرين الثاني/نوفمبر 1983، والتي حاز فيها حزب الوطن الأم بقيادة تورغوت أوزال الأغلبية البرلمانية وشكل الحكومة بمفرده.

اقرأ أيضًا:

انتخابات رئاسية مبكرة في تركيا: ماذا يريد أردوغان؟

كان تأثير العتبة الانتخابية كبيرًا ومباشرًا في نتائج الاقتراع وخريطة البرلمان في عدة منافسات انتخابية، باعتبار أن عددًا كبيرًا من الأحزاب الصغيرة لم يكن قادرًا على تخطيها، وبالتالي كان يُحرم من دخول البرلمان وتتوزع أصواته على الأحزاب الفائزة حسب نسبة التصويت لها. ولعل في انتخابات عام 2002 مثالًا جيدًا على ذلك، حيث فاز حزبان فقط فيها، هما العدالة والتنمية بنسبة 34.4% والشعب الجمهوري بنسبة 19.4%، ورغم ذلك فقد تقاسما الـ 550 مقعدًا في البرلمان بواقع 365 (%66.3) و 177 (%32.2) على التوالي، بعد توزيع أصوات الأحزاب الخاسرة (حوالي %46.2 من الأصوات) عليهما.


التحالفات الانتخابية

طالبت معظم الأحزاب بخفض العتبة الانتخابية التي تُعتبر الأعلى في أوروبا، حيث تتراوح نسبتها هناك بين 1 – 5%، وقد كان ذلك على جدول العدالة والتنمية لسنوات، لكنه لم يُقر لعدم اتفاقه مع أحزاب المعارضة على حزمة التعديلات المطلوبة إثر اعتراض الأخيرة على مواد أخرى.

ومع إقرار النظام الرئاسي في الاستفتاء الشعبي في نيسان/ أبريل 2017، والذي يضمن استقرار الحكومات وعدم تأثرها بنسبة الأحزاب في البرلمان، عاد النقاش حول تخفيض العتبة الانتخابية للساحة السياسية التركية من جديد. نادى رئيس حزب الحركة القومية دولت بهجلي العام الماضي بتخفيضها، وأبدى العدالة والتنمية استعداده لذلك. لكن يبدو أن قناعة سادت بضرورة عدم التسرع في الأمر، باعتبار أن النظام الرئاسي جديد على البلاد، وأن تخفيض العتبة وزيادة عدد الأحزاب في البرلمان قد يحمل مخاطرة أو خطورة على استقرار النظام، ويبدو أن البديل كان تشريع التحالفات الانتخابية.

عرفت تركيا سابقًا تحالفات غير معلنة بين الأحزاب، وترشيح أعضاء من أحزاب على قوائم أحزاب أخرى، واستقالة نواب من أحزابهم للانضمام للأحزاب الفائزة كما حدث في واقعة «فندق غونيش» الشهيرة عام 1977 حين استقال بعض النواب من حزب العدالة وانضموا لحزب الشعب الجمهوري لقاء وعود بمناصب وزارية، لكنها المرة الأولى التي يتاح فيها للأحزاب تشكيل تحالفات انتخابية وفق القانون.

في آذار/مارس الفائت، أصدر البرلمان التركي قانونًا يتيح للأحزاب السياسية تشكيل تحالف انتخابي وفق بروتوكول رسمي تخطر به اللجنة العليا للانتخابات، وبحيث تشمل ورقة التصويت أسماء وشعارات (اللوغو) الأحزاب المنضوية في التحالف، فيقترع الناخب لمن يريد من الأحزاب، الأمر الذي يصب في خانة التحالف بشكل غير مباشر. الأهم أن يتخطى التحالف، أي مجموع كل الأحزاب، عتبة الـ %10 وسيكون هذا كافيًا لدخولها جميعًا البرلمان (وليس شرطًا لكل منها على حدة كما السابق)، ثم يقسَّم عدد النواب بينها تبعًا لنسبة تصويت كل منها.

بهذا المعنى، رغم أن العتبة الانتخابية لم تخفض رسميًا، إلا أن الأحزاب الصغيرة ستجد طريقها عمليًا إلى البرلمان لكن عن طريق التحالف مع الأحزاب الكبيرة.


الحزب الحاكم والمعارضة

شكَّل التعاون الوثيق بين حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية، خصوصًا ما بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة، أساسًا لتحالف انتخابي اتفقا عليه منذ أشهر، وقد قدَّما معًا مشروع القرار الخاص بالتحالفات للبرلمان. التحالف الذي أسمياه «تحالف الشعب» ضم أيضًا مؤخرًا حزب الاتحاد الكبير (القومي التركي) بحيث يقدم مرشحيه على قوائم العدالة والتنمية، وربما يشمل ذلك بعض مرشحي حزب الدعوة الحرة (الإسلامي الكردي) الذي بدا قريبًا من التحالف واجتمعت قيادته عدة مرات بأردوغان وقيادات العدالة والتنمية دون إعلان انضمامه رسميًا.

ورغم المعارضة الشديدة لهذا القانون من قبل حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي على وجه التحديد، باعتباره تحايلًا على النظام الانتخابي لضمان دخول الحركة القومية البرلمان بعد انشقاق الحزب الجيد عنه وتراجع شعبيته ولو نسبيًا، إلا أن أكبر أحزاب المعارضة سار على ذات الدرب قبل أيام.

فبعد فشل المعارضة في دعم مرشح توافقي للانتخابات الرئاسية، ما يعني حسم النتيجة لصالح أردوغان إلى حد كبير، اتجه تركيزها نحو الانتخابات البرلمانية لتجميع الأحزاب المعارضة لأردوغان و/أو النظام الرئاسي ومحاولة الحصول على أغلبية البرلمان لموازنة مؤسسة الرئاسة والعمل على «فرملة» أردوغان حال انتخابه رئيسًا كما هو متوقع على نطاق واسع.

اقرأ ايضًا:

الصراع المؤجل بين السلطان والدكتور

.

«كمال قليتش دار أوغلو» زعيم حزب الشعب الجمهوري

الفكرة الرئيسة للمعارضة هي الدفع بأكبر عدد ممكن من نواب الأحزاب المعارضة ومنع الأصوات المهدورة بسبب العتبة الانتخابية، والتي كان العدالة والتنمية أكثر الأحزاب استفادة منها باعتبار تقدمه في كل المنافسات الانتخابية منذ 2002.

وهكذا، شكَّل الشعب الجمهوري (اليساري الكمالي) تحالفًا مقابلًا للعدالة والتنمية أسماه «تحالف الأمة» أو الشعب

[1]

، ويضم إلى جانبه أحزاب السعادة (الإسلامي) والجيد (القومي التركي) والديمقراطي (الليبرالي المحافظ). أما حزب الشعوب الديمقراطي (القومي الكردي) فبقي بعيدًا عن التحالفيْن، بسبب المشاكل القانونية التي يواجهها من جهة، وعدم رغبته في التحالف مع أحزاب قومية تركية من جهة أخرى.


الانعكاسات

كمال قليتش دار أوغلو، حزب الشعب الجمهوري

كمال قليتش دار أوغلو، حزب الشعب الجمهوري

منذ إقرار النظام الرئاسي قبل عام، توقعنا أن يؤدي تطبيقه إلى تراجع أهمية الأحزاب في الحياة السياسية التركية لصالح تشكــُّل تيارات أوسع، لعلها تتركز في تيار يميني من الأحزاب الإسلامية والمحافظة والقومية التركية مقابل تيار يساري من الأحزاب اليسارية والعلمانية والقومية الكردية.

لكن ذلك بدأ سريعًا، أي قبل إجراء الانتخابات، وإن كان مختلفًا نسبيًا عما توقعناه. ذلك أن تمحور الاستقطاب في المشهد الداخلي التركي حوْل النظام الرئاسي نفسه وشخصية أردوغان أحدث اختراقات في هذا التصور، حيث تواجد حزبا السعادة والجيد اليمينيان في التحالف الذي يقوده حزب الشعب الجمهوري اليساري، لأسباب مفهومة ومتعلقة بخلفيات تاريخية وسياسية معقدة بين الأحزاب، حيث انشق الثاني عن الحركة القومية بينما انشق العدالة والتنمية في الأصل عن حزب الفضيلة؛ النسخة السابقة عن السعادة.

اقرأ أيضًا:

ميرال أكشنار: المرأة القوية القادرة على منافسة أردوغان

.

بهذا المعنى، يبدو تحالف الشعب أكثر تجانسًا، حيث يتكون من أحزاب يمينية، محافظة وقومية، بينما يكتنف التنوع الذي يضمه تحالف الأمة تناقضات واضحة بين اليساري العلماني والقومي والإسلامي، وقد تكون لهذه التناقضات انعكاساتها على نتائج الانتخابات بلا شك.

من الصعوبة بمكان توقع الخريطة الحزبية للبرلمان القادم بشكل دقيق لأسباب تتعلق بالأوضاع المضطربة للأحزاب نفسها. فحزب الحركة القومية تعرض لانشقاق كبير مؤخرًا لم تُعرف حدوده بعد، والحزب الجيد – المنشق عنه – ما زال حديثًا بل في طور التأسيس ما يصعّب من إمكانية معرفة وزنه الحقيقي في الشارع التركي، فضلًا عن عدم تعود الناخب على فكرة التحالفات وغموض كيفية تقبله لفكرة الانتخابات المبكرة أصلًا.

ورغم ذلك، يمكن القول بثقة إن برلمان ما بعد الـ 24 من حزيران/ يونيو سيضم بالحد الأدنى سبعة أحزاب (مقابل أربعة الآن)، وربما ثمانية أو أكثر إذا ما استطاع حزب الشعوب الديمقراطي تخطي العتبة الانتخابية بمفرده، وهو ما تشير إليه بعض استطلاعات الرأي رغم المشاكل التي يعاني منها.

ولعل أحد أهم العوامل التي ستحسم التنافس بين التحالفين في البرلمان القادم هو مدى نجاح الأخير في دخول البرلمان. فرغم أن حظوظ تحالف الشعب بقيادة العدالة والتنمية أفضل من التحالف المقابل لعدة أسباب، إلا أن دخول الحزب القومي الكردي للبرلمان وتنسيقه مع تحالف المعارضة (وهو المتوقع منه إن دخل البرلمان) قد يعطي للمعارضة التركية ولأول مرة منذ 2002 إمكانية كسب أغلبية – ولو بسيطة – في البرلمان، الذي سيغيب عنه في هذه الحالة توزع أصوات الأحزاب الصغيرة.

إذن، ثمة مستجد مهم في الحياة السياسية التركية – هو التحالفات الانتخابية – سينعكس بأشكال مباشرة وغير مباشرة على تركيبة البرلمان المقبل، وتوازن القوى بين مختلف الأحزاب والتيارات السياسية في البلاد، وبالتالي على العلاقة بين الرئاسة والبرلمان (ليس من مجال للتفصيل في ذلك هنا)، ومسار الحياة السياسية التركية ككل.

من جهة أخرى، لا ينبغي التقليل من أهمية التنوع في البرلمان على ثراء الأخير بالأفكار والبرامج والمشاريع إن تعاملت الأحزاب مع الوضع الجديد بمسؤولية. فضلًا عن ترسيخ ثقافة التعاون والتنسيق والتحالف مع الآخر وبالتالي تعزيز الخطاب الوحدوي المركز على الشراكات والمشتركات، الأمر الذي سيكون له آثاره الإيجابية بالضرورة على الثقافة السياسية التركية على المديين المتوسط والبعيد.

على المدى البعيد أيضًا، ستساهم هذه التحالفات جنبًا إلى جنب مع النظام الرئاسي في تحول الحالة الحزبية في البلاد إلى حالة تيارات أكثر وضوحًا في نفسها وتباينًا فيما بينما، بناء على البرامج والأفكار والخلفيات وربما الأيديولوجيات وليس بالضرورة بناء على الأسماء والأشخاص كما هو الحال اليوم، خصوصًا مع ممارسة النظام الرئاسي بشكل عملي وما ستفرضه على الحياة السياسية من متغيرات.



[1]

تحتمل الترجمة للتحالف (Millet İttfakı) المعنيين: الأمة والشعب، مع أرجحية للثاني. لكنني فضّلت استخدام الأول للتفريق بينه وبين تحالف الشعب (Cumhur İttifakı) الذي يقوده العدالة والتنمية.