في الرابع من أغسطس الجاري بدأ عرض فيلم «الإنس والنمس» من بطولة النجم الكبير محمد هنيدي، ولم تمر سوى أيام قليلة قبل أن تسود وسائل الإعلام أخبار تصدر الفيلم لشباك التذاكر في ظل منافسة قوية مع أفلام مثل «العارف» من بطولة أحمد عز وأحمد فهمي وعدد من النجوم، و«البعض لا يذهب للمأذون مرتين» من بطولة النجم كريم عبد العزيز، و«مش أنا» من بطولة المطرب الشهير تامر حسني.

لا شك أن هذه الأرقام تؤكد عودة قوية للنجم محمد هنيدي بعد غياب عن السينما لأكثر من 4 سنوات، لا سيما وأن آخر أفلامه لم تقترب من هذا النجاح الكبير طوال فترة عرضها، فلم تتجاوز

إيرادات فيلم

«عنتر ابن ابن ابن ابن شداد» 7 ملايين جنيه، و

إيرادات فيلم

«يوم مالوش لازمة» 10 ملايين جنيه، في حين أن فيلم «الإنس والنمس» قد

حقق في أسبوعه

الأول فقط ما يقارب 17 مليون جنيه.

قد لا تكذب الأرقام، ولكنها بالتأكيد تتجمل وفقًا لتأويلاتها المختلفة. تخبرنا هذه الأرقام أن فيلم هنيدي الأخير يكتسح الموسم السينمائي الأكبر في مصر، وهي حقيقة لا جدال فيها، ولكنها تريد أن تقنعنا أيضًا أن هذا النجاح التجاري يعدنا بفيلم جيد، فهل تصدق ذلك أم أنها تتجمل؟

تحذير: الفقرات التالية من المقال تتناول قصة الفيلم وأحداثه.

قصة شريف عرفة


يخبرنا الملصق الدعائي للفيلم أنه قصة وإخراج شريف عرفة، ولكن هل حقًّا هناك قصة للفيلم؟

تدور أحداث الفيلم حول البطل تحسين (محمد هنيدي) الذي يقع في حب نارمين (منة شلبي) دون أن يعرف أنها جنية. يتعرف تحسين على أسرة نارمين، عائلة النمس، وتقع بينهم العديد من المواقف الغريبة دون أن يفطن تحسين إلى حقيقتهم، وتنتهي القصة بتعوذية يجلبها تحسين من شيخ غريب ويلقي بها في بيت عائلة النمس ويتخلص منهم إلى الأبد.

لا يمكن القول إن هناك قصة يرويها الفيلم بالمعنى التقليدي، ولا غير التقليدي، ليس هناك سوى هذه الفرضية القديمة والمستهلكة، والتي ينتج عنها عدد من المواقف الغرائبية التي لا تمتلك منطقًا ذاتيًّا، فقط مجموعة من الاسكتشات والنكات المكررة والساذجة تحوم حول هذه الفرضية. قد يقول قائل إن الفيلم ينتمي إلى نوع الفانتازيا، والتي يختلف منطقها بالتأكيد عن منطق الواقع، وهي حقيقة بالفعل، غير أن أكثر القصص إغراقًا في الفانتازيا والخيال تستبدل بالمنطق الواقعي منطقها الخاص وقواعدها الخاصة التي تؤسس لعالمها، وهو ما يغيب بالكلية عن فيلم «الإنس والنمس».

في بداية الفيلم يتعرض تحسين إلى حادث سير يتعرف من خلاله على نارمين، ثم نعرف أن هذا الحادث لم يكن مصادفة، وإنما من تدبير عائلة النمس التي اختارت تحسين بشكل محدد ليقوم بالتزاوج مع ابنتهم وإنجاب طفل جديد من نسل العائلة. تستمر أحداث الفيلم وتنتهي دون أن نعرف السبب وراء اختيار تحسين، أو حتى السر في سعي عائلة من الجن إلى التزاوج مع الإنس، لا سيما وأن عائلة النمس تشمئز من جنس البشر ولا يتوقفون عن نعتهم بالغباء والقذارة طوال الفيلم، كما يفتخرون بكونهم جنسًا أرقى، فلمَ إذن هذه الرغبة المسيطرة في التزاوج مع بني الإنسان والتي تدفع أحداث الفيلم بالكامل؟ ينتهي الفيلم قبل أن يجيبنا عن هذا السؤال.

سعيًا لإضفاء المزيد من الغرائبية على عالم الفيلم، يطالعنا صنَّاعه بالكثير من التفاصيل المبتورة وغير المفهومة، منها على سبيل المثال تفصيلة أن عائلة النمس هي عائلة ذات نفوذ وسطوة في عالم الجن، وتسيطر على العديد من العائلات الأخرى وتفرض عليها نوعًا من الجباية. هذه المعلومة المجانية تقوم بوظيفة وحيدة هي التأسيس للصراع بين شهاوي النمس (عمرو عبد الجليل) وغريمه أشموح (بيومي فؤاد) الذي يرفض دفع الجباية لعائلة النمس.

من التفاصيل الغامضة أيضًا إصرار عائلة النمس على إبرام عقد الزواج بين تحسين ونارمين، وهو ما يبرره شهاوي بقوله: «طول ما عقد الدم معاك، تقدر تخلف هنا وهناك». ما هو الـ«هنا»؟ وأين يقع الـ«هناك»؟ لا يخبرنا شهاوي أو شريف عرفة أو الفيلم نفسه، وأغلب الظن أن المسوغ الوحيد لوجود هذه الجملة الغريبة هو في كونها جملة مسجوعة ظن كاتبها أنها ستجلب مزيدًا من ضحك المشاهدين. من الجمل الغريبة والمسجوعة أيضًا شعار عائلة النمس: «لا جن ولا إنس، نمس نمس نمس»، هكذا بكل بساطة يخبرنا شعار عائلة النمس أنهم ليسوا من الجن!

أما أكثر تفاصيل الفيلم لا منطقية فتتمثل في النهاية. بعد الحصول على التعوذية من الشيخ جعفر (صلاح عبد الله)، يذهب تحسين لبيت النمس للقضاء على شهاوي وأسرته، ولكنه يفشل في التفوق على الجن بعد مواجهة كارتونية الطابع فقيرة التصميم، ثم يظهر الحل السحري في مساندة كل من أشموح ونارمين وقنديل لتحسين، ومساعدته على التخلص من العائلة. لا نعرف ما الدافع وراء موقف نارمين وتخلصها من أمها بهذا الشكل، أما قنديل فيقرر التخلص من أبيه لأنه لا يشاركه اللعب مثل تحسين.

ولكن إذا كانت التعويذة ستقضي على عائلة النمس، ألا يعني ذلك أن قرار نارمين وقنديل بمثابة الانتحار؟ يخبرنا الفيلم أن بني الجن عندما يقومون بمساعدة إنسان يصبحون من خدامه ولا تصيبهم التعويذة بأي شر. وبهذه الالتواءة الساذجة ينتصر تحسين ويتخلص من شهاوي النمس وأخته، ويتبقى من الجن خدام تحسين بعد أن تخلصوا من عائلتهم.

الشخصية الكوميدية

يطالعنا الملصق الدعائي للفيلم بعدد كبير من الشخصيات، إذ يضم 12 ممثلًا وشخصية كرتونية. الشخصية هي أحد المنابع الرئيسية للكوميديا، حتى إنها قد تكون نوعًا كوميديًّا قائمًا بذاته. تقوم كوميديا الشخصية على شخصية أو أكثر ويقدم الخط القصصي ذريعة يمكن من خلالها للفنان الكوميدي أن يقدم لوازمه الكوميدية، وحركاته المميزة أو تنويعات عليها، وهو ما يؤسس لصورته السينمائية على الشاشة.[1] لا ينتمي فيلم «الإنس والنمس» لنوع كوميديا الشخصية، بيد أن الأعمال الكوميدية الحديثة تميل إلى الجمع بين صنوف مختلفة ومتنوعة من الكوميديا، كما أنها تركز بشكل كبير على رسم شخصيات العمل وتفاصيلهم الكوميدية المميزة.

يضم فيلم «الإنس والنمس» عددًا كبيرًا من الشخصيات. عائلة تحسين التي تجمع الأم والأب والأخت وزوجها، وعائلة النمس التي تجمع نارمين، والخال، والأم، وابن الخال، بالإضافة إلى شخصيات أخرى مثل أشموح، وخزاعة خادم عائلة النمس، والشيخ جعفر، وصديقي تحسين. عدد ضخم من الشخصيات والممثلين بلا أي قيمة مضافة لكوميديا الفيلم.

على مستوى الحبكة يفتقد الكثير من الشخصيات إلى أهمية تبرر وجودها إلى حد أن انتفاءها تمامًا من الفيلم لا يؤثر على أحداثه بأي شكل، بل إن واحدة من هذه الشخصيات، أم تحسين، يتم إغفالها تمامًا في النهاية، لا نعرف على وجه التحديد إن كان هذا الإغفال في مرحلة الكتابة والتصوير، أم أن مونتير الفيلم أسقط مشاهدها قرب النهاية.

قبيل المواجهة الأخيرة بين تحسين والشهاوي نعرف أن أسرة النمس قامت باستدعاء عائلة تحسين إلى منزلها، وخلال المواجهة لا نشاهد سوى الأخت في مشهد وحيد، وينتهي الفيلم قبل أن نعرف أين ذهبت الأم. الأمر نفسه ينطبق على شخصية أشموح، الذي من المفترض أن يلعب دورًا في الفصل الأخير عندما استعان به تحسين لمواجهة الشهاوي، غير أن أشموح يجبن في اللحظة الأخيرة ويهرب من المواجهة، فما الدور الذي تلعبه هذه الشخصية على مستوى الحبكة؟ الإجابة لا شيء.

الخط السردي الخاص بالأب لا يخلو أيضًا من التناقض غير المفهوم. بعد هروب الأب من أم نارمين يبحث عن وسيلة للقضاء على عائلة النمس، ويعرف أن هناك شيخًا يدعى «جعفر» على معرفة كبيرة بعالم الجن، لكن كيف يعثر الأب على جعفر؟ أثناء جلوسه بأحد المقاهي يسمع النادل يخاطب أحد الحاضرين بقوله: «أحلى شاي للشيخ جعفر». هكذا بكل بساطة وسذاجة يعثر الأب على ضالته. أما شخصية الشيخ جعفر فهي أحد أسوأ تجليات شخصية المعلم أو المرشد في السينما على الإطلاق، إذ يتمحور دوره في تعليم الأب استخدام خدعة القنابل الدخانية لتضليل الجن، وبالطبع تحضير التعويذة السحرية القادرة على إفنائهم.

إذا ما تجاوزنا الشخصيات الثانوية فسنجد أن الشخصية الرئيسية ليست أفضل حالًا. باستثناء كونه البطل، ما هو دور تحسين في القصة؟ في الحقيقة لا شيء، تحسين هو شخصية سلبية للغاية، لا يدفع الحدث بأي شكل من الأشكال، كما أنه شخصية ساذجة لحد البلاهة، فرغم كل ما يدور حوله من أحداث غير طبيعية لا يشك تحسين للحظة في حقيقة نارمين وعائلتها، وحتى بعد إدراكه للحقيقة في النهاية لا يؤثر تحسين على الأحداث بأي شكل. يفشل في الهروب من نارمين، ويفشل في مواجهة الشهاوي، بل إنه حتى يفشل في إلقاء التعويذة في البير ويقع بداخله بعد مطاردة آسيا له.

أما على مستوى الأداء التمثيلي، فلا جديد تحت الشمس. يقوم محمد هنيدي بأداء شخصية محمد هنيدي، يستخدم أسلوب الكلام نفسه، واللزمات نفسها بلا أي خصوصية مميزة للشخصية، فقط استنساخ جديد لأدائه في الكثير من أعماله السابقة، بل حتى استنساخ لنفس النكات اللفظية والمواقف التقليدية كأن يقول في أحد المشاهد: «أنا خدت سنتين طب بطري قسم نموسة»، ويقصد بـ«نموسة» جمع كلمة نمس. في مشهد آخر يصيح شهاوي في أفراد أسرته، فيرد عليه تحسين: «الكلام ده تقوله لعيلتك مش ليا»، ليصيح شهاوي مرة أخرى فيرضخ تحسين على الفور.

لا يختلف أداء الممثلين كثيرًا عن البطل، الجميع يقدمون نسخًا أردأ من أداءات سابقة، فيقوم عمرو عبد الجليل بدور عمرو عبد الجليل، وبيومي فؤاد بدور بيومي فؤاد، وعارفة عبد الرسول بنفس الشخصية التي سبق أن قدمتها في الكثير من الأعمال، حتى محمود حافظ يقوم بالأداء نفسه الذي يعتمد عليه في كل أعماله سواء كانت كوميدية أو ميلودرامية، مشددًا على لكنة مميزة لا تتغير على الإطلاق سواء كانت الشخصية قاهرية أو بحراوية أو صعيدية. أما شريف دسوقي فكان الاستثناء الوحيد من بين طاقم الفيلم إذ قدم أداءً متزنًا إلى حد كبير، وكانت لزمته في نطق تحسين بالطاء وليس بالتاء هي أحد مسببات الضحك القليلة في الفيلم.

كم من الجرائم ترتكب باسم الكوميديا

المخرج شريف عرفة هو بلا شك أحد أهم الأسماء في تاريخ السينما المصرية، وتضم مسيرته عددًا كبيرًا من الأعمال المهمة، والتي انتقل فيها بين الأنواع المختلفة التي كان للكوميديا نصيب كبير منها، على رأسها أفلام مثل «عبود ع الحدود»، و«الناظر»، و«فول الصين العظيم». قائمة طويلة من الأعمال المميزة التي بالطبع لن ينضم إليها «الإنس والنمس».

كل ما أشرنا إليه في الفقرات السابقة من أزمات عميقة تضرب بجذورها في الحبكة ورسم الشخصيات والأداء التمثيلي، بل حتى تمتد إلى مرحلة ما بعد الإنتاج عبر المونتاج السيئ لا سيما في مونتاج تطور العلاقة بين تحسين ونارمين. كل هذه الأزمات بالتأكيد تقع مسئوليتها على عاتق مخرج العمل ومؤلفه.

تمتد مظاهر التساهل والرداءة إلى عناصر أخرى مثل الجرافيك الذي يعتبر عنصرًا محوريًّا في مثل هذا النوع من الأفلام، والذي جاء بشكل فقير للغاية لا يمكن مقارنته بمستوى التقدم التكنولوجي الهائل الذي شهده هذا الفن في الفترة الأخيرة، ولن نقول في السينما العالمية، وإنما في السينما المصرية نفسها. نلمس هذا الضعف في تقليدية الخدع لا سيما في مشاهد الحركة، ويبلغ مداه من السوء مع التفاصيل الأوضح مثل ذيل أشموح، أو الطائر الذي يتحول إليه خزاعة، وأخيرًا مع الشخصية الكرتونية للنمس المستأنس في بيت الشهاوي، ليس فقط لأن تصميم الشخصية على قدر كبير من الرداءة والافتعال، ولكن أيضًا لأن الشخصية نفسها ليست ذات أهمية على الإطلاق، وكان من الممكن الاستغناء عنها بسهولة.

الأزياء والمكياج أيضًا من المفاتيح المهمة في خلق هذا العالم الغرائبي، ونراها هنا بلا أي بصمة أو خصوصية، حتى إنها تصلح تمامًا لفيلم واقعي. في مشهد الحفلة، يصادف تحسين رجلًا لطخ وجهه بالكامل باللون الأحمر فيبدي إعجابه بالقناع الذي يرتديه هذا الرجل. هكذا بكل بساطة يحاول فنان المكياج أن يقنعنا أن هذا الرجل من الجن لأن وجهه ملطخ بالدماء، ويحاول كاتب السيناريو أن يقعنا أن تحسين أبله إلى الحد الذي يظن معه أن هذا الرجل يرتدي قناعًا.

في

تقرير سابق

للزميل محمد حسين، نشر بموقع إضاءات، رصد قائمة بأعلى 10 أفلام تحقيقًا للإيرادات في السينما المصرية بعد معادلة مستوى التضخم. تصدر محمد هنيدي القائمة بفليميه «صعيدي في الجامعة الأمريكية»، و«همام في أمستردام»، وحل في مركزين آخرين بالقائمة نفسها بأفلام «جاءنا البيان التالي»، و«إسماعيلية رايح جاي».

أحدث هذه الأفلام الأربعة جاء في عام 2001، أي قبل عقدين كاملين. في هذا الوقت لم يهتم هنيدي كثيرًا بالإعلان عن إيرادات أفلامه أو تصدرها لشباك التذاكر. لم يكن لهنيدي حسابات رسمية على مواقع التواصل الاجتماعي يستقبل من خلالها تهنئة الجمهور بنجاح فيلمه، أو يشاركهم عبرها الألعاب الإلكترونية مثل «بابجي».

في مثل هذا الوقت لم يهتم هنيدي إلا بالسينما التي ركز طاقته الإبداعية فيها، قبل أن يستنزفها بالكامل في تعليقاته الساخرة على منشورات نجيب ساويرس، أو معالجة صور أمير كرارة بعضلاته المفتولة باستخدام برنامج «فوتوشوب». هذه النسخة القديمة من هنيدي لم يبقَ منها سوى حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، واستنساخ المزيد من الأعمال الرديئة التي على ما يبدو لن يكون «الإنس والنمس» آخرها.