إيش تاخد من تفليسى يا برديسى!





الثوار المصريون في هتافهم المناوئ للبرديسي!

لم يكن خروج الحملة الفرنسية من مصر عام 1801م ليعيد الأوضاع إلى سابق عهدها، ولم تكن السلطة لتستقر من جديد بعد أن فقدت كل مراكز القوى أماكنها وقوتها، فالمماليك الذين كانت الخلافة العثمانية تبقيهم في موقعهم من القيادة على أن تحتفظ بمنصب الوالي لعاملها وذلك لقوة شوكتهم قد صاروا بلا قيادة، وضعفت شوكتهم بعد أن منعوا جلب مزيد من الجند ولم يعد في البيوت المملوكية قائد يعيد تنظيم أمورهم، والألبان والجند المرتزقة قد حلوا على البلاد على متن السفن العثمانية ليكوّنوا الجيش العثماني الذي سيتحد مع الإنجليز لإخراج الفرنسيين، وها هم يستقرون في مصر ويشكلون مركزًا جديدًا للقوة، أما الولاة فما زالت الدولة العثمانية ترسل الوالي تلو الآخر فما يلبث أن يأتيها خبره مقتولاً أو تقوم ثورة عليه مع فراغ خزانة الدولة، ولم يعد هناك ما يسد رواتب الجند.

في ظل تلك الأوضاع عاش المصريون في الفترة ما بين عامي 1801 إلى 1805م وتحملوا سائر ما وقع عليهم من معاناة، فتارة تُرفع عليهم الضرائب ليجد الوالي ما يسدد به رواتب الجند، وأخرى يفرض عليهم الجند المرتزقة الإتاوات، ومن بين هذه الثورات والانفلاتات التي قامت في البلاد خلال تلكم الفترة، ظهرت بوادر ثورة المصريين على عثمان بك البرديسي آخر مبرزي البيوت المملوكية في عام 1804 م، لذلك يمكن أن نعد أهمية هذه الثورة في أنها كلمة النهاية في الوجود المملوكي في مصر على رأس أي سلطة فعلية، ونقطة البداية لحكم محمد علي الألباني وما عناه هذا الحكم من بداية تاريخ جديد لمصر.


الصراع على السلطة قبل البرديسي

في تلك الفترة برزت ثلاث قوى تسيطر على المشهد في مصر؛ هذه القوى هي: المماليك الذين طالما سعوا للسيطرة على البلاد وكان تمركزهم في الصعيد بشكل لافت، والعثمانيون وواليهم الجديد خسرو باشا، والجند الألبان وقادتهم طاهر باشا ومحمد علي. والحق أن صراعات المماليك في صعيد مصر للسيطرة عليه بالكامل كانت تؤتي نتائجها، ففي عام 1803م تمكن المماليك من فرض سيطرتهم على الصعيد وفصله عن العاصمة، وصارت البلاد منقسمة إلى قسمين؛ الأمر الذي ترتب عليه توقف نقل الغلال ووصول المال من جنوب البلاد لشمالها، وشكّل هذا ضغطًا كبيرًا على خزانة الدولة، في الوقت الذي اشتدّت فيه مطالبات الجُند الألبان برواتبهم، فلم يصبر الألبان كثيرًا على هذا الوضع فثاروا على الباشا العثماني، وأمام هذه الثورة طالب خسرو المصريين بحمل السلاح والوقوف معه كوالٍ شرعي أمام تمرد الجند، لكن الشعب لم يكن ليستجيب لهذه المطالبات وهو يدرك أنه طرف غير مستفيد من المعركة وأن الصراع صراع على السلطة والمال دون التفات لمصلحة الشعب المثقل بالضرائب أصلاً، ولما لم يجد خسروا آذانًا مصغية له هرب إلى دمياط، وخلا منصب الوالي ممن يشغله، فنصّب طاهر باشا قائد الجند الألبان «الأرناؤوط» نفسه «قائم مقام»، ولم تمر إلا أشهر قليلة إلا وقد قُتل، وألقيت رأسه من نافذة غرفته بالقلعة، بعدما أثقل كاهل المصريين بالضرائب الباهظة لسد أطماع جنده الألبانية.

وبمقتل طاهر باشا تغيّر توزيع القوى بالمشهد السياسى المصري آنذاك، فقد ارتقى محمد علي إلى زعامة الجند الألبان، والسلطان العثماني أرسل من قبله حسن بك الجزائرلي واليًا جديدًا على مصر، بالإضافة إلى قوة عسكرية لقتال المماليك. أما المماليك فانقسموا إلى فئتين؛ فئة تزعّمها عثمان بك البرديسي المعروف بولائه للفرنسيين، وأخرى كانت تستعد للانضمام إلى الألفي بك العائد لتوه من إنجلترا، والمدين بالولاء لهم، مع وعود منهم بأنه قاب قوسين أو أدنى من الحكم.


حلف محمد علي والبرديسي

أمام عداء وتنافس البرديسي لنظيره الألفي بك، رأى أنه بحاجة إلى حليف يدعّم موقفه، في المقابل كان محمد علي بحاجة إلى من يتستر خلفه لضرب المماليك ببعضهم والقفز على ساحة المشهد، فتخير البرديسي لأداء هذا الدور، رغم كون مشهد الاتحاد بين الجند المماليك والألبان مشهدًا غريبًا؛ فهو اتحاد الأعداء المتصارعين على السلطة في الحقيقة، إلا أن تحالفات السياسة لا تتوقف على الجوانب الأخلاقية كثيرًا، وقد اتفق محمد علي والبرديسي على تسيير الجند لقتل الوالي العثماني الجديد الجزائرلي، وحينما فرغوا من هزيمته تم تنصيب البرديسي حاكمًا للقاهرة، أما محمد علي فقاد جنده لمقاتلة الألفي بك في الجيزة، وقد تمكن من هزيمته، ولم يجد الألفي ملجأ إلا الصعيد.

ثورة شعبية بحماية الجند!

عاد البرديسي ومحمد علي إلى القاهرة، وقد تلقاهم المصريون رافعين أيديهم من أثر الفاقة وقلة الغلال، وفي مشهد استعراضي أمر البرديسي محمد علي بفتح أبواب خزانة الغلال وتوزيع ما فيها على المصريين، لكن عقب أيام قليلة ازدادت الأزمة المالية تأزمًا، فقد كانت الطريق التجارية غير آمنة بسبب القلاقل التي تعيشها البلاد والبضائع لم تكن تصل لوجهتها، وأخذت الأسعار في الارتفاع مع شحّ المعروض، حتى ندرَ وجودُ القمح وزاد سعره للضعف، تزامن ذلك مع مطالبة الجند برواتبهم، أمام هذه الأوضاع لجأ البرديسي لزيادة الضرائب من جديد ليفي برواتب الجند ويحوز رضاهم، وقد بدأ بفرض ضرائب على فئات المسيحيين والأجانب، ثم أطلق يد الجند في مصادرة البضائع القادمة من اليمن وغيرها وفض أكياسها وبيعها ونهبها، فزادت هذه الأعمال من تأزم الوضع الاقتصادي وقلة الأقوات والبضائع، حتى كانت القشة الأخيرة حين فرض البرديسي ضريبة جديدة على المصريين؛ لذا وفي صباح أحد أيام شهر مارس 1804م لم يجد المصريون بدًّا من ثورة كانت تغلي بها الشوارع قبل ذلك بأعوام، فشهدت القاهرة قتالاً بين المماليك والمصريين، وأغلقت الحوانيت، وسار الناس للأزهر وعلمائه، ورفعت المآذن الهتافات بالنداء التاريخي المشهور: «إش تاخد من تفليسي يا برديسي»، وقد وجد محمد علي المجال مفتوحًا ليلعب لعبته، ويظهر بمظهر حامي الشعب؛ إذ نشر جنده بالشوارع وأمرهم بحماية الثوّار وعدم التعرّض لهم مهما فعلوا، والوقوف أمام أي معتدٍ عليهم، وفي خلفية المشهد يذكر الجبرتي أن محمد علي قد أثار الجند الألبان للمطالبة العنيفة برواتبهم، فثار الجندُ، وخرجوا على بيوت المماليك وحاصروها، ومنها بيت البرديسي الذي لم يجد بدًا أمام هذه الثورة إلا الفرار من فوره إلى الصحراء عندما جن الليل.


محمد علي يحكم قبضته!

هكذا أدار محمد علي أحداث الثورة على البرديسي من بعيد، وهو يظهر أمام الشعب في مظهر الحارس الأمين غير الطامع في الحكم والمناصب، ويعقب الجبرتي على هذا الحدث قائلاً: «ستتوالى كل هذه الأحداث بإرادة الله، وبحسابات محمد علي». عند هذا الحد وجد الجند الألبان أنفسهم سادة العاصمة، لكن محمد علي لم يغامر بتنصيب نفسه زعيمًا مفروضًا، فقد لعب لعبته حين ظهر في صورة الحامي للبلاد في أشد أوضاعها اضطرامًا واضطرابًا؛ ومن ثم فقد أخرج خسرو باشا الوالي العثماني السابق من محبسه، وقلّده زعامة البلاد من جديد؛ الأمر الذي رفضه العلماء والعوام على السواء، وأمام هذا الرفض الجماهيري «اضطر» محمد علي إلى القبض على خسرو وإرساله إلى الأستانة مع رسالة يطلب فيها إرسال والٍ جديد للبلاد هو خورشيد باشا، وقد استجاب السلطان العثماني لمشورته بالفعل، أرسل خورشد باشا واليًا ليبدو محمد علي «قائد الجند المتجرد الذي حمى البلاد دون أن يطمع بالحكم»، وبهذه الصورة من التدبير شديد الحنكة ظهر محمد علي بمظهر الزعيم الشعبي الجديد الذي وازن علاقته بين الجماهير والعثمانيين، وممهدًا لنفسه طريق الحكم بعد أقل من عام على تلك الثورة، وذلك بمطالبة من الزعامات الشعبية ذاتها!


المراجع



  1. عبد الرحمن الجبرتى : عجائب الآثار فى التراجم والأخبار ، الجزء الثالث ، دار الجيل ، بيروت ،د.ت .
  2. خالد فهمى : كل رجال الباشا ، دار الشروق ، القاهرة ، الطبعة السادسة ، 2016 .
  3. جيلبرت سينويه : الفرعون الأخير محمد على ، منشورات الجمل ، بغداد ، الطبعة الأولى ، 2012 .
  4. موقع مكتبة الاسكندرية : السيرة الذاتية لمحمد على باشا .