لطالما كانت «الحارة الشعبية» مصدرًا هامًا ومعينًا أساسيًا يعتمد عليه كبار كتّاب الدراما في مصر والعالم العربي، ليس أدل على ذلك من أن أشهر وأهم الأعمال الدرامية ارتبط بأماكن تمثّل الحارة الشعبية، وإذا عدنا بالذاكرة للأعمال التي حفرت عميقًا في الوجدان سنجد مسلسلات مثل «الشهد والدموع»، أو «ليالي الحلمية» وغيرها.

انطلقت هذه الأعمال أساسًا من تصوير الحارة الشعبية المصرية وأبناءها، واستطاعت من خلالها أن تعكس روح المجتمع المصري، ليس ذلك فحسب بل إن وجدنا أن الدراما العربية كلها تدور حول مفهوم الحارة وعالمها لتبني من خلالها صورة المجتمع كما نجد مثلاً في «باب الحارة» بأجزائها المختلفة.

وبدا أنه من المعتاد أن يشهد كل عملٍ درامي يتناول «الحارة» بأجوائها الشعبية وعوالمها البسيطة الفقيرة صراعًا رئيسيًا بين الفقراء والأغنياء على مستويات مختلفة، وبطرقٍ متعددة، تبعًا لأجواء وأحداث كل مسلسل، وهنا نحاول أن نرصد كيف تم تصوير «الحارة المصرية» بشكلٍ خاص في عددٍ من مسلسلات رمضان هذا العام التي كان تركيزها الأساسي على عالم الحارة وشخصياتها وأبطالها.

«رمضان كريم»: الحارة الشعبية بتفاصيلها البسيطة

ربما لم يعد غريبًا على الثنائي الكاتب «أحمد عبد الله»، والمخرج «سامح عبد العزيز»، تقديم عمل فني يتناول حياة وعالم «الحارة الشعبية» بشكل مفصّل، فقد سبق أن قدموا ذلك في أعمال سينمائية كان أنجحها «الفرح»، بل وانتقلوا بعد ذلك إلى أعمال درامية كان أبرزها «الحارة» عام 2010، وكذلك «بين السرايات» عام 2015.

وهاهما يقدمان هذا العام مسلسل «رمضان كريم» بنفس التوليفة تقريبًا، ونفس الحرص على جمع أكبر عدد من الأبطال، مع التركيز هذه المرة على أن تكون الأحداث خلال شهر رمضان، في محاولة من المخرج والمؤلف لرصد أحوال الحارة في تلك الفترة الخاصة جدًا من العام، ومن خلال ذلك يرصدون أيضًا عددًا من فئات وطوائف المجتمع على اختلاف أشكالها داخل الحارة، والتي يجمع بينها الفقر والبساطة وقلة ذات اليد بشكل عام.

ولكن يختلف كل واحدٍ منهم في تعامله مع حالهم ذلك، بين متمرد على الحال الذي هو فيه ومتطلع للوصول لحالٍ أفضل من الغنى والثراء ولو بطرقٍ غير مشروعة، وبين من يسعى لتوفيق أوضاعه داخل ذلك المجتمع ويكون صاحب شأن وخصوصية ومقدرة على التعامل والتكيف مع حاله البسيط، وبين الراضي بما هو فيه القانع بحاله الذي يراقب كل هؤلاء من حوله ويتعجب لما يفعله الناس لكي يغيروا من أحوالهم.

يدور المسلسل بشكل رئيسي حول عائلتي «رمضان/سيد رجب» وأبناؤه «سناء /روبي» و«رضا/ريهام عبد الغفور» وأخوهم الصغير «وليد»، وعائلة «كريم/محمود الجندي» وأبناؤه ««يوسف/شريف سلامة» و«جمال/كريم عفيفي» وابنته «صباح/سهر الصايغ» التي تبحث لها والدتها عن عريس وتجده في شاب يعمل بالكويت.

إلى جانب العائلتين نجد في الحارة شخصيات أخرى مثل المعلم «حناوي» صاحب القهوة، والراقصة المعتزلة التي تفرغت لتربية ابنتها وتخصصت في خياطة بدل الرقص، و«خميس» الموظف الوصولي الذي يخطب «رضا» ابنة «رمضان» الذي يعمل في إدارة المرور ويتربح من الرشاوي، وغيرها من شخصيات الحارة، وتدور أحداث المسلسل بين أبطاله بالتساوي تقريبًا، فلا يشعر المشاهد أن ثمة بطل رئيسي تتمحور حوله الأحداث، ويتعرضون لمشكلات ومواقف طبيعية وعابرة، منها ما يكون مشكلة كبيرة ومؤثرة (مثل قتل المعلم حناوي للطباخ) ومنها ما يمر مرورًا عاديًا (مثل الخلافات والمشاجرات بين أهل الحي) وغيرها.

ويعكس المسلسل تلك الحالة البسيطة التي يشاهدها الجميع داخل الحارات الشعبية، دون أن يعتمد على تشويقٍ أو إثارة أو صراع حاد بين طرفي المسلسل كما اعتدنا في مسلسلات أخرى، وهو في الوقت نفسه قادر على صنع عدد من المفارقات والمواقف الحقيقية التي تعكس واقع الحارة بصدق، وما قد يكون موجودًا بين أبناءها من حالات حب أو محاولات للخروج من ذلك المكان الفقير.

«الحساب يجمع»: صراع خفي بين البسطاء والأغنياء

يقدّم الكاتب “«محمد رجاء» مع المخرج المتميّز «هاني خليفة» صورة حيّة واقعية لأحد الأحياء الشعبية في منطقة «الورّاق» بالقاهرة، حيث تتوزّع أدوار المسلسل بين العائلات الفقيرة داخل ذلك الحي فتأتي في المقدمة العائلة الرئيسية التي تمثلها «نعيمة/يسرا» وبناتها، وعائلات الجيران التي يبرز منهم عائلة «عبير/ندى موسى» التي تخرج للعمل كخادمة لكي تتمكن من إعالة أسرتها.

على الجانب الآخر تظهر عائلة «الحاج فتحي» الذي يمثل شريحة مختلفة أكثر ثراءً وسطوة الذي يقتله ابنه الأصغر فيتولى الابن الأكبر «الحاج نور» زمام الأمور من بعده ويبدو مظاهر جشعه ورغبته في الاستيلاء على بيوت أهل تلك الحارة من خلال وصولات الأمانة التي أخذها عليهم والده، ونرى كيف تتعامل «نعيمة» الخادمة بشرف وأمانة، وكيف تحرص على الحلال في تعاملها مع الناس، خاصة وأنها تقدم خادمات للأشخاص المقتدرين أو الأغنياء فتوصيهم دومًا بالأمانة والإخلاص في العمل.

ولكن الأمور لا تستقيم وتجد نفسها مضطرة لدفع قيمة وصولات الأمانة في وقت قصير ولمّا كانت لا تملك أي أموال تعينها حاولت أن تستدين من السيدات التي عملت عندهن، إلا أن «سماح/بوسي» تعرض عليها سرقة امرأة كانت تضايقهم وتعاملهم بطريقة سيئة، وهكذا تتعاون «نعيمة» مع «سماح» في سرقة تلك السيدة لكي تخرج من مشكلتها.

لا يقتصر الأمر على «نعيمة» ولكنه يتشعب ليشمل أبناء تلك الحارة كلهم، ومن يتمكن «الحاج نور» من ضمه إلى رجاله لكي يسيطر على منازلهم، التي ينوي أن يهدمها لكي يقيم مشروعًا كبيرًا يدر عليه الأرباح الوفيرة، وبين البسطاء الفقراء الذين لا يملكون إلا منازلهم وأعمالهم البسيطة وقوت يومهم، فيتمسكون ببيوتهم..

يبدو إخراج «هاني خليفة» شديد الدقة حريصًا على رصد كل تفاصيل تلك الحارة، وتوزيع الأدوار على أبطال المسلسل بالتساوي، ويبدو السيناريو الذي كتبه «محمد رجاء» قادرًا على لم تفاصيل أجواء الحارة الشعبية والتعبير عن سكانها بدقة وبساطة، كما دخل إلى عالم الأثرياء أيضًا مرة من خلال العائلة التي سرقت منها «سماح»، ومرة من خلال عائلات أخرى مثل الطفلتان اللتان تعملان عند عائلة «دكتور رأفت» وغيرها من عائلات تحتك بعوالم الحارة الشعبية وتعكس طريقة تعاملهم معهم وتعاليهم عليهم، وما يلاقيه أبناؤها من صعوبات ومشكلات في التعليم وسوق العمل، وغير ذلك.

«هذا المساء» الصراع الداخلي

توليفة أخرى يصنعها المخرج المتميّز «تامر محسن» بفريق كتابه من إشراف «محمد فريد» تجمع بين أهل الحارة الشعبية التي يمثلها السائق «سمير/أحمد داود» وصديقه «سوني/محمد فرّاج» وجارته «عبلة/حنان مطاوع» صاحبة المطعم الشعبي، وبين عالم الأثرياء الذي يمثله «أكرم/إياد نصّار» وزوجته «نائلة/أروى جودة» وأصدقائهم.

نلحظ منذ البداية علاقة جيدة تجمع بين السائق و «مستر أكرم» ـ كما يناديه ـ فهو لا يتعامل معه بمنطق التعالي وأنه مجرد سائق/خادم عنده، بل يعامله بود، ويشاركه لعب الكرة مع أصدقائه ويشاركه الطعام في المطعم الشعبي، مما يجعله يتعرّف على «عبلة» ويتقرّب منها.

من ناحية أخرى يكشف لنا عالم الحارة البسيطة الحديثة التي يبرز فيها دور «سوني/محمد فرّاج» الذي يمثل الشاب العصري «الروش» الذي يستغل معرفته بأمور التكنولوجيا والمحل الذي يعمل فيه لتصليح الموبايلات ليتلصص ويتجسس على زبوناته ويبتزهن لمصلحته.

ويكشف لنا المسلسل هذا العالم الخفي الذي تدور كواليسه في الخفاء، ولكننا نلاحظ أن الصراع بين «الخير» و«الشر» هنا ليس حكرّا على الأغنياء والفقراء، وإنما نجد داخل كل شخصية منهم سواءً كان غنيًا أو فقيرًا يكمن الخير والشر، وينشأ الصراع الداخلي في البداية تبعًا للمواقف والأحداث التي تمر بها كل شخصية، ونرى هنا كيف يتعامل كل واحدٍ منهم مع ما يتعرض عليه من مواقف.

لا تبدو شخصيات المسلسل واضحة وبسيطة، بل يبدو أن كل شخصية منهم تخفي عالمًا آخر وأسرارًا لا تحب أن تطلع الآخرين عليها، تتكشف بعض تلك الأسرار أمامنا تدريجيًا، مما يحمِّل المسلسل قدرًا من الإثارة والتشويق، وهكذا لا تقتصر فكرة مسلسل «هذا المساء» على عكس العلاقات بين طبقتي المجتمع وتفاصيلها الدقيقة، ولكنها تتعرض من ناحية أخرى لعالم الاتصالات وما تفعله فينا «التكنولوجيا الحديثة» وما يمكن أن يفعله بنا الناس من خلالها، ويبدو أن حلقاته القادمة تعد بالكثير.

يجيد «تامر محسن» عبر كاميرته الذكية التقاط تفاصيل الحارة الشعبية، ووضعها في بعض الأحيان وجهًا لوجه أمام العالم الموازي عالم الأثرياء اللامع البراق وذلك من خلال لقطات عشوائية مع الموسيقى التصويرية التي تنقل حالة هذه العوالم بشكل واضح،وليست هذه المرة الأولى التي يقدّم فيها ذلك العالم باحتراف، بل إنه يذكرنا باستمرار بمسلسل «بدون ذكر أسماء» الذي تناول هذا العالم بدقة وتفاصيل كثيرة وإن كان في زمنٍ مختلف.

هكذا ترسم هذه المسلسلات ـ وغيرها بالتأكيد ـ صورة حيّة لعوالم الحارة الشعبية المصرية التي يبدو دومًا أنها تعد بالمزيد.