لا تزال حرب أكتوبر 1973 ماثلةً وحاضرةً في أذهان الكثير من العرب والمصريين كانتصارٍ أساسي ووحيد على القوة الغاشمة الإسرائيلية، ولا تزال تداعيات ذلك الانتصار وآثاره تلقي بظلالها على الكثير من السياسات الدولية لا سيما فيما يتعلق بالسلام مع إسرائيل الذي كان نتاجًا مباشرًا لهذه الحرب، ولكن ذكرى أكتوبر لا تمر في الوقت نفسه إلا ويتذكّر المصريون معها ذكريات الحروب الطويلة التي خاضوها حتى وصلوا إلى ذلك الانتصار، وهو ما يمتد في الزمن حتى تاريخ إعلان دولة إسرائيل عام 1948 مرورًا بالعدوان الثلاثي على مصر عام 1956 وحتى نكسة يوليو 1965 التي لا تزال آثارها باقية في أذهان الكثيرين ممن عاشوا تلك الحروب لحظةً بلحظة.

منذ ذلك الوقت، وبشكلٍ مبكر كانت الرواية المصرية مواكبة لتطورات الأحداث السياسية والحربية، قادرة على رصد العديد من مظاهر الحروب وأثرها داخل المجتمع المصري من جهة، بل وعلى الجبهة الحربية من جهة أخرى، وما نتج عن تلك الحرب من آثار بعد ذلك على المستوى الاجتماعي والنفسي وما ترتب عليها من تبعات، لذلك وجدنا بعض الروايات تتناول الحرب وما جرى فيها من خلال تصوير أبطال المعارك أنفسهم، الذين تحولوا إلى أبطال في الروايات أيضًا، كما وجدنا من جهةٍ أخرى روايات تتناول الحياة في وقت الحرب، وكيف تعامل المجتمع المصري مع فتراتٍ هامة مثل العدوان والهزيمة ثم الانتصار.


روايات صوّرت الأزمة

لم يكن الانتصار سهلاً، هذا ما يعرفه الجميع، ولا شك أن التضحيات التي بذلها جنود الجيش المصري كانت كثيرة، بدأ ذلك قبل أكتوبر/تشرين الأول 1973، فقد عاشت مصر والمصريون سنوات الحرب منذ نكسة 1967 وما تلاها من حرب الاستنزاف، وقدّم فيها المصريون الكثير من صور البطولة والفداء.

من الروايات التي اهتمت بشكلٍ خاص برصد ما جرى في كواليس وخلفيات تلك الحروب رواية «خطوات على الأرض المحبوسة» لمحمد حسن يونس الذي كان جنديًا في الجيش المصري المحارب في «إسرائيل» آنذاك، والتي حكى فيها بالتفصيل مأساة الجنود المصريين الذين اعتقلوا وبقوا أسرى في معتقل عتليت الإسرائيلي بعد نكسة 1967، وكيف كان تعامل أفراد الجيش الإسرائيلي معهم بكل قسوة. ولعله من المفيد الإشارة إلى أن رواية محمد حسن يونس لا تكتفي بنقد الهزيمة وتصويرها، بل تتجاوز ذلك للتعبير عن مأساة جيل كامل من المصريين الذين آمنوا بالثورة وظنوا أنها ستحررهم من المستعمر الأجنبي، وكانت الحرب فرصة لهم لإثبات ولائهم وانتمائهم لتراب بلادهم، فإذا بهم يفاجئون بهزيمة نكراء، ثم أن ما تلى هذه الهزيمة لم يكن إلا تواليًا للهزائم، حتى مع استعادة سيناء في أكتوبر 73 فإن الجندي المصري لا يزال يشعر بألم الهزيمة.

في روايته «الأسرى يقيمون المتاريس» يعرض الأديب فؤاد حجازي لمأساة الأسرى المصريين في أرض إسرائيل مرة أخرى، بشكلٍ مأساوي وواقعي شديد التأثير، وذلك من خلال تسجيل وقائع المعارك الحربية واحدة بعد الأخرى، كما اهتم بتصوير نفسيات أبطاله المشاركين في الحرب وما كان يمور داخلهم من شعور بالهزيمة منذ بداية الحرب عام 1967، حتى يصل إلى مأساة الأسر التي تمثل ذروة الأحداث والهدف الذي بنيت من أجله الرواية، وما تعرضوا له في السجون الإسرائيلية من قسوة وجفاء وشعور بالهيمنة والسيطرة.

عن هذه الرواية يكتب الناقد «علاء الديب» فيقول:

نحن أمام نص روائي قصير، بديع ومؤثر: عن الحرب الهاربة التي لم تكن الحرب التي كانت فيها الهزيمة قبل الحرب، حلت الفوضى بدل القتال، هُزمت القيادات وانتصر الناس حتى وهم فى الأسر. يقول الراوي في الرواية وهو يرى رمال سيناء: «ما سر هذه الرمال البيضاء الناعمة؟ إنها لم تهدأ منذ الأزل، دائماً ترتوي بدماء غزاة وادي النيل ودماء شعبنا وهو يقاتلهم ويتبع فلولهم.. ترى هل شبقت وبها حنين للارتواء لن يغنيك عن دماء البشر غير ماء النيل يطفئ لهيبك ويجعلك جنات ورفات لا يأتي الناس هنا للحرب بل للزرع والحب». بهذا النص الرومانسي يقدم لك شخصية الراوي وخصوصية المكان ويمهد للموضوع الذي هو مصر. أُصيب من أول لحظة ووقع هو وكل من معه في الأسر بعد أن عمت الفوضى وانتهت الحرب قبل أن تبدأ.


روايات الأبطال داخل الحرب

لعل أبرز الروايات التي تعاملت مع حرب أكتوبر بشكلٍ خاص هي رواية «الرفاعي» للأديب الكبير جمال الغيطاني الذي بدأ حياته مراسلاً حربيًا، واستطاع أن يحكي ويسرد وقائع وتفاصيل خاصة بالمعارك وعلاقات الجنود الأبطال ببعضهم من داخل معسكراتهم، ربما بما لم يتمكن روائي آخر من أن يصفه ويحكيه، لا سيما وهو يتحدث عن العميد الشهيد «إبراهيم الرفاعي» أحد مقاتلي المجموعة 39 في حرب أكتوبر، والذي شارك في أكثر من عملية وخاض أكثر من معركة ضد العدو الصهيوني، تتحدث الرواية عنه وعن رفاقه الذين ذاقوا مرارة الهزيمة وسعوا جاهدين إلى تحويل تلك الهزيمة النكراء القاسية إلى انتصارٍ عسكري واستراتيجي كبير، كما تحقق في أكتوبر 1973. في هذه الرواية يركز الغيطاني أكثر على وصف المعارك ونفسيات الأبطال.

للحرب هنا ملامح وتجاعيد، يقفز الرفاعي رصد نظرة حادة في عيني العقيد علاء، القتال عند علاء يعني الالتحام والمباغتة ثم إطفاء البريق في العيون. كل منهم ادخر كثيرًا من الصرخات داخله طوال الأعوام الثلاثة الماضية، قال الرفاعي لعلاء بعد العودة من لسان التمساح أود أن تصغي إلى نفسك يومًا. من يراك أثناء الاشتباك لا يتخيّل أنك طبيب وطبيب أعصاب بالذات، قال علاء، إن الطبيب يداوي الجراح المحدودة، أما نحن فنعالج جراح التاريخ، أثناء القتال يشتبك بالواقع والمصير واللحظة ويسدد الطعنة قبل أن تناله الطعنة المقابلة. يتلاشى تمامًا، يعيش في الوعي واللاوعي.. قال علاء، إن القتال الحقيقي هو الالتحام بالسلاح الأبيض ليس القصف بالطيران أو المعارك التصادمية بالدبابات.





الرفاعي ـ جمال الغيطاني

كما كتب الغيطاني رواية «حكايات الغريب» التي تحكي عن الجندي المصري «عبدالرحمن» الذي اختفى في الفترة بين نكسة 1967 وأكتوبر 1973، ومن خلال محاولات أهله للبحث عنه يستعرض أثر الحرب على عدد من المدن المصرية وأهلها من السويس حتى بورسعيد، والذي استطاع من خلاله أن يرمز لشخصية البطل الفدائي المصري ويعرض عددًا من بطولات الجيش المصري وأبنائه في الدفاع عن وطنهم بشتى السبل. واستخدم الغيطاني في الرواية أسلوب المراسلات بين الجنود، واستطاع من خلاله أن يكشف عن نفسية أبطال روايته والذين كان أكثرهم من الجنود المشاركين في عمليات قتالية سواء على الجبهة أو الفدائيين داخل المدن، بالإضافة إلى استخدامه أسلوب التحقيق الصحفي للكشف عن ملابسات اختفاء ذلك الغريب والمكان الذي يمكن أن يتواجد فيه.

رسائل من أرض المعركة

تجدر الإشارة إلى أن هناك عددًا آخر من الروايات تناولت الحرب، ربما لم تحظ بنفس شهرة الروايات السابقة، ولم يلق عليها الضوء، نذكر من ذلك رواية «نوبة رجوع» للكاتب الكبير محمود الورداني، والتي تناول فيها ما بقي لأسر شهداء أكتوبر واستفاد فيها من شهادات ضباط وجنود شاركوا في هذه الحرب، وتركوا لأهلهم وذويهم عددًا من الرسائل والخطابات يتحدثون فيها عن مشاهداتهم في الحرب.

كذلك كتب فؤاد قنديل رواية «موسم العنف الجميل» التي تناول فيها الحرب من خلال قراءته لعدد من الوثائق التاريخية والأفلام الحربية التي تحدثت عن الحرب وتفاصيلها، كما كتب مجيد طوبيا روايته «أبناء الصمت» التي تناولت توثيق ذلك الصراع مع إسرائيل وأثرها داخل كل بيت مصري خاصة من فقدوا عددًا من الشهداء في حروب الاستنزاف وغيرها.