يهيمن على الخطاب التداولي بخصوص المفكر الإنساني «إدوارد سعيد» التضخيم الاحتفائي: فهو المفكر الإنسانوي، الأخلاقي، الكوني، ومن أبرز منظري ما بعد الاستعمار، وهو الفلسطيني المتحرر من انحيازاته القومية الضيقة، المضطهَد الساعي إلى تحرير مضطهِده اليهودي الإسرائيلي الصهيوني، وهو مفكر «سوبر أخلاقي» يطبق حرفيًا المأثور المسيحي: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر». ويسعى إلى تقرير المصير «للشعبين» الفلسطيني و «اليهودي الإسرائيلي». ويؤمن سعيد بأنه من غير الممكن إبعاد الفلسطينيين و«الإسرائيليين» عن بعضهم البعض، وأن «اليهود الإسرائيليين» وُجدوا في فلسطين ليبقوا فيها إلى الأبد، ومن الوهم الاعتقاد بعكس ذلك. ولذا فهو يرى أن تحرير «اليهود الإسرائيليين» المغلوبين على أمرهم من الصهيونية التي لوثت طهارة اليهود «المساكين» إلى حد البراءة، يقع على الفلسطينيين حيث العبء الأخلاقي يتمثل في نهاية المطاف «في النقلة من التعرض للانتهاك إلى المسؤولية عمن يمارس الاضطهاد، من المعاناة إلى التكفير عن الآخر».

وهو مفكر ناقد جذري للخط السياسي الذي اختطته منظمة التحرير بعد أن اختطفها الراحل ياسر عرفات، فانحرفت عن جادة الصواب؛ لأنها بحسب سعيد، رمت إلى الانفصال عن «اليهود الإسرائيليين» الشرفاء، فلا يمكن تحرير الفلسطينيين دون إشراك «اليهود الإسرائيليين» كما فعلت حركات التحرر الوطني كافة في تأويلات سعيد المبتذلة والمبتورة. ولكن في هذا السياق، ليس النقد هو المهم بل إن الأهم من ذلك هو من داخل أي أفق يتحرك هذا النقد ذهابًا وإيابًا؟ ولئن كانت ظاهرة التنافر بين السلطة والمثقف تشكل إحدى مشكلات مجتمعات ما بعد الاستعمار بحيث يجري دائمًا شجب السلطة بوصفها أبوية ومغلقة ومتعارضة بنيويًا مع المثقف والثقافة، ويجري في المقابل تمثيل المثقف كذات شفافة محايدة طاهرة وبريئة ومتعالية ومحايدة لا تخترقه ألعاب القوة، ومنهج الخصوصية – فإن حالة سعيد/ عرفات على الرغم من ذلك جعلت من الثقافة بالنسبة للسياسي ليست أكثر من استيهامات لإرضاء نزوات، أو لوحة سريالية في متحف، ومجرد تصورات هزلية لسياسي برجماتي قرر أن ينفصل وجماعته عن المشروع الاستيطاني الصهيوني متوهمًا أنه بذلك يؤسس كيانية سياسية ذات سيادة مادية ورمزية. غير أن السياسي (عرفات) والمثقف (سعيد) ارتطما بـ «حائط حديدي»، هو أن كليهما انطلقا من موقع وهمي في لحظة هذيان واسترخاء عقلي، أو قل إن شئت الدقة، في لحظة هزيمة نكراء تكبدتها الحركة الوطنية الفلسطينية. لذا ليس هناك فارق نوعي بين سعيد المثقف الأخلاقي وعرفات السياسي «الواقعي»، إذ أن كليهما لم يوفق في فَهْم عدوهما المشترك. فأحدهما انطلق من فائض أخلاقي إنسانوي (سعيد) والآخر انطلق من واقعية مبتذلة (عرفات). بيد أن المفارقة اللافتة أن لحظة صعود سعيد السياسية هي لحظة اتكأت على العرفاتية الأوسلوية. وهي اللحظة التاريخية التي غطت على عيوب فكر سعيد السياسي، حيث «الكل» انتبه لنقده لسياسات المنظمة وانحرافاتها بينما لم ينتبهوا لأفق هذا النقد عدا عن مخاتلاته الواضحة.

المثقف سعيد يمثل حالة نموذجية لمسار نخبوي فلسطيني ينطلق من مواجهة الاستعمار الصهيوني من موقع عالمي يجترح منهجًا إنسانويًا؛ غير أن لهذا الموقف تكلفته المحجوبة غالبًا عن حدقة المثقف الملتزم بهموم جماعته الوطنية. وبدون قصد منه، حتى لا نظن السوء، فإن الموقع العالمي يهمش، أو إن شئنا الدقة: يستبعد ويحذف، جوانب أساسية من الصراع كتكلفة للعبور به إلى منصة العالمية، ويُثَّبِت في المقابل جوانب أخرى غير أصيلة فيه. بيد أن النخبة المعولمة والكونية تعبُر إلى العالمية بينما تبقى حقائق الصراع عصية على التهميش والاستبعاد، لتطل برأسها من جديد بعد أن ترتطم تلك النخبة رَطْماً في الطين، وتبدأ تلك الحقائق في الانتقام ممن همشها واستبعدها، ومما فعلته تلك النخبة بذريعة عولمة فلسطين، لتقذف بهم في غياهب التاريخ.


أشكلة الهوية: من تفكيك الهوية الفلسطينية إلى استبطان الهوية اليهودية

ثمة فرضية مهيمنة على منظري ما بعد الاستعمار الذين يعتبر سعيد أبرزهم وممن وضعوا الإطار النظري لذلك التوجه. تنطلق الفرضية من فكرة أن الاستعمار أعاد تشكيل الجماعات المستعمَرة. لذا تبقى من المهمات الأولى للمقاومات المحلية أن تتمثَّل منطقًا لا يعيد المجتمع إلى الحِقبة السابقة على الاستعمار، إلى مرحلة النقاوة ما قبل التاريخية، بل عليها أن تشتق فعاليتها من حرمانات الحاضر الراهن، وأن تجترح لمجتمعها طبيعة ثالثة تتجاوز الحِقبة الاستعمارية وما قبلها. فالعالم الاستعماري وما بعده باتا شديد التداخل، وأنّ البحث عن موقع يحرر الثاني من الأول فعالية مستحيلة.

وهكذا يقترح صاحب «نهاية عملية السلام» التخفيف من مكانة فلسطين الخاصة، ومن ثم التخلي عنها في نهاية المطاف. ويطالب الفلسطينيين بـ «التخلي عن فكرة فلسطين باعتبارها أرضًا عربية لا يمكن أن تُعزل عن الوطن العربي». وأن عليهم السعي نحو «إشراك فاعل للإسرائيليين في كفاحهم». المفارقة أن سعيدًا في الوقت الذي يسعى فيه إلى تكسير الهوية القومية لفلسطين ليدمج فيها الآخر اليهودي بعد فصلها عن عروبتها، يدين المثقفين المصريين لعزوفهم عن اليهود الإسرائيليين «الشرفاء»، لأنهم لم يتعاونوا معهم ولا مع «المجتمع المدني الإسرائيلي» الطاهر، والجامعات ومراكز البحوث «الإسرائيلية» كذوات شفافة محايدة مفصولة عن علاقات القوة الاستعمارية. ويعتبر سعيد أن هذا الموقف للمثقفين المصريين نقيصة لها وقعها السلبي، إذ تحرم إخوانهم الفلسطينيين من مصدر إسناد قوي يأتيهم من شقيقهم والجار القريب. فهو لم يتوان عن إدانتهم بسبب تشددهم هذا غير المبرر بالنسبة لسعيد، طالما أن أشقاءهم الفلسطينيين في الداخل ينتظرون زيارتهم للشد من أزرهم. لم تنطلِ هذه المحاولة التطبيعة لسعيد على المثقف المصري الذي، والحق يقال، كان من أشد الممانعين للتطبيع، إذا استثنينا اللحظة العابرة للجنرال السيسي وما كشفته عن وجود تيار عربي متصهين كامن بيننا.

تتجلى غربة سعيد أكثر في كتابه «فرويد وغير الأوربيين». يدافع في هذا الكتاب عن هويات متكسرة، من خلال بناء الهوية اليهودية على ماضٍ غير أوروبي، فيرى أصولها ترتكز إلى ماضٍ مصري توحيدي.

وهكذا، يحاول سعيد أن يؤِّمن لليهود «الإسرائيليين» أوراق اعتماد محلية غير أوروبية، ليبني الهوية اليهودية على أساس أصلي متجذر محليًا، ومن أجل تحقيق هذا الغرض، يجند الماضي غير الأوروبي ليعيد اليهودية إلى جذورها المحلية الشرقية التوحدية حيث أصولها في الحضارة المصرية القديمة.

ولكن، أليس سعيد عوض تشقيق الهوية وفصلها عن مسألة الأصل الواضح والبسيط يقع في تناقض مع مسعاه هذا؟ فكيف نفهم خِطاطته هذه التي تعيد الهوية اليهودية إلى الانغلاق بدلًا من فتحها، وخاصة أنها تعزز قناعة «المواطنين الإسرائيليين» بدولتهم البازغة وتمسي «إسرائيل» مجرد عودة تاريخية بحد ذاتها، عودة على بدء، إلى جذورها التاريخية غير الأوروبية. فيجعل من «إسرائيل» الراهنة، بوصفها مشروعًا استيطانيًا استعماريًا، امتدادًا للجماعة اليهودية القديمة: بني إسرائيل. وهذا ما يجعله أسير الدعاية اليهودية الصهيونية التي تدافع عن الفكر الجوهري الذي يرى الجماعة اليهودية تبدو عبر تاريخية أُنشئت منذ ألاف السنين. وبالرغم من «الشتات» في أمكنة وأزمنة مختلفة، إلا أن جوهرها لم يتأثر وما زال قائما، وأن التوطين الاستعماري اليهودي في فلسطين هو تحقيق لحقيقة يهودية أولى ومطلقة لا تتأثر بعوامل الزمان والمكان تبدأ من لحظة النبي الأول إبراهيم مرورًا بموسى وليس انتهاءً بـ «دافيد بن غوريون» و«موشيه دايان».

في المقابل، يعمد سعيد إلى إحداث الشقوق في الهوية الفلسطينية؛ غير أن الفارق وبينما أُوصل اليهود المستعمرين بأصول محلية وهم يمتلكون دولة قوية والطرف المسيطر في الصراع، ويمسكون بكل الأرض، ولهم كل القوة العسكرية، وبالتالي إمكانية توظيف هذه الأطروحة لسعيد، في الدفع بمشروعهم لمداه الأقصى؛ نرى الطرف الفلسطيني في المقابل الطرف المنفعل، والأضعف في الصراع، ما يزال يلملم قواه بصعوبة، ويبحث عن مصادر قوة هنا وهناك حتى وإن كانت تتضمن جوانبًا وهمية تمكنه من مقاومة ما يعمل سعيد على توطيده دون قصد منه -فليس القصد هو المهم-. فالسؤال هو عن وقع هذه الأطروحة وما تُحدثه من ثقوب في تضاعيف الجماعة الوطنية الفلسطينية حيث ما تزال تتشكل ببطء في مواجهة قوة استعمارية مدعومة عالميًا.

فضلًا عن ذلك، لمْ يخش سعيد «الألمعي» من أن يخدم بأطروحته هذه الدعاية الصهيونية كونها تمدها بمزيد من الزاد توصِل يهود أوروبا أو «الشتات» بـ «جذورهم» المبنية والمتخيلة: أرض فلسطين، ويوفر تأويلًا للصهيونية يمَّكنها من طرد الفلسطينيين. والغريب أن الأصول اليهودية غير الأوربية التي يبنيها سعيد على مستوى التأويل الخطابي هي أصول مصرية موصولة بفكرة التوحيد في الديانة المصرية القديمة، بينما عودة اليهود كانت وما تزال لفلسطين لا لمصر حيث الأصول التأسيسية لليهودية، إلا إذا كان سعيد يرى أن غير الأوروبي (أي الشرقي) عبارة عن كتلة واحدة، وفي هذه الحالة كيف نفهم مسعاه الرامي إلى فصل فلسطين عن عروبتها!

زد على ذلك، أن سعيدًا يحاول أن يعالج مشكلة اليهودية من داخلها دون أن يحدث فيها أية تشققات داخلية، بحيث تبدو ذات وحدة متماسكة وأكثر فاعلية في مواجه المسألة الفلسطينية. بينما يفلق سعيد الهوية الفلسطينية، ويجعلها أكثر تمزقًا وأقل فاعلية في مواجهة قوة استعمارية استيطانية صهيونية، ليستدخل المكون اليهودي «الإسرائيلي» كمكون استعماري في الأساس في هوية فلسطين، في خلط غير مبرر بين اليهود عامة وبين اليهود المستعمِرين في فلسطين. وهكذا لا مشاحة أن سعيدا قد وقع في استبطان اليهودية من جهة، ومنطق القوة الاستعمارية من جهة أخرى، دون أن يتقصد ذلك، بل مجرد أثر غير مقصود لأطروحته. فسعيد، المفكر الألمعي، وقع في فخ الفكر الإنسانوي، وجعل فكره تجاه فلسطين ومسألة الهوية اليهودية ليسا أكثر من تحوير على التراث اليهودي المسيحي. وهذه مسألة أخرى سيجري تناولها في مقال آخر. ويكفي الإشارة إلى أن المتابع للفكر النقدي المعاصر يجده يصل بين الخطاب الإنساني والخطاب الاستعماري، فوفقًا لـ «طلال أسد» فإن الأول (الخطاب الإنساني) كان مبررًا للآخر (الخطاب الاستعماري).

تأسيسًا على ما تقدم، إن أهم ما تجاهله سعيد -أكرر بدون وعي، فليس الوعي هو المهم بقدر وقع الفكر- هو أن مسألة الهوية ليست مجرد بناء تخيلي شفاف منفصل عن علاقات القوة، بل هي فاعلية ترتهن قيمتها بمدى قدرتها على منح المضطهَدين القدرة على العمل لا مجرد تأويل فارغ من أية محتوى كفاحي. ففي السياق الاستعماري في فلسطين، الهوية هي استمرار للحرب وامتداد للمعركة بوسائل أخرى، تمنح المستعمَرين الفلسطينيين موقعًا يعينهم على اختراق عدوهم لا أن يتحولوا إلى مجسم يوجه إليه سهامه.