لا تزال الرمال السياسية المتحركة في المشهد العربي شديد السيولة، تبتلع المزيد من المواقف والتحليلات والتوقعات، وتلقي بها إلى خانة اللاشيء، لتنشأ بدائل لها غير مستقرة على مدار الساعة.

رغم أن طين الواقع العربي لم يكن يحتاج إلى مزيد من البلل، فإن تربُّع ترامب على كرسي الرئاسة الأمريكية، زاده سيولا وليس بللا عاديا!

فالرجل لم يألُ جهدا في الشهر الأول من حكمه في إرباك المشهد، في تتابع متسارع لا يترك للساسة والمحللين والمهتمين مساحة لالتقاط الأنفاس.

فبعد عقودٍ من السياسة الأمريكية المستقرة على اعتماد حل قيام الدولتين كأساس للدور الأمريكي في حل أزمة الشرق الأوسط، فإن ترامب

أعلن

في أول لقاءٍ له مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أنه لا يرى جدوى من حل الدولتين، ويراه لا يحقق السلام المنشود.

كان لتصريحات ترامب وقع الصدمة على الكثيرين، خاصة أنه لم يقدم بديلا منطقيا. حتى أن قيادية فلسطينية كحنان عشراوي وصفتها بلهجة حادة بأنها تصريحات غير مسئولة، خاصة أنها حملت انحيازا مطلقا للجانب الإسرائيلي، إذ أكدت التصريحات أن على الفلسطينيين الاعتراف بيهودية الدولة الواحدة، وسيادة إسرائيل على كامل حوض نهر الأردن – والذي يمثل العمود الفقري للضفة الغربية – كأساس لأي حل قادم.

لكن لم تكن تصريحات ترامب وحدها ما حمل الدهشة والاضطراب إلى المشهد السياسي العربي في الأيام الماضية، بل إن تغريدة تويترية صدرت من مسئول آخر أقل شأنا بكثير من رئيس أكبر دول العالم، قد أحدثت ضجة لا تقل عما أحدثه ترامب، ونشرت موجة من الحيرة والتخبط والقلق لدى الجميع، ولعل التزامن بين الواقعتيْن قد ضاعف من هذا الأثر.

وزير بلا وزارة يرسم شرقا أوسط جديدا

في منتصف فبراير/شباط الحالي،

فاجأ

الوزير الدُرزي أيوب قرا، والذي يشغل منصبا شرفيا في حكومة نتنياهو، الجميع بتغريدة غريبة زعم فيها أن ترامب ونتنياهو سيُقران حلا قريبا هو بالأصل اقتراح من الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.

يقضي الحل بمنح أجزاء من سيناء للفلسطينيين تعويضا عن الضفة الغربية التي ستعطى لإسرائيل بالكامل. وبذلك تتكون الدولة الفلسطينية من قطاع غزة مضافاً إليه أجزاءً من سيناء، بينما باقي فلسطين التاريخية من النهر – نهر الأردن – إلى البحر الأبيض المتوسط، يئول إلى الدولة الصهيونية.

وأضاف أيوب أن هذا هو ما سيصنع السلام الحقيقي في المنطقة، ويمهد السبيل لعقد تحالف موسع بين إسرائيل والدول العربية السنية.

ولأنه لا رماد بدون نار، فإن التصريحات رغم غرابتها، وبعدها النظري عن الواقع والمنطق، فإنها

أحدثت

طوفانا من التحليلات، وبدأ الكثيرون يبنون عليها تصوراتٍ ووقائع ومواقف. ولعل السبب في هذا الاتجاه لأخذها على محمل الجد يرجع إلى أنها تلاقت مع تسريبات إسرائيلية سابقة منذ أشهر، تحدثت عن أن السيسي برضا إسرائيلي قد

اقترح

على أبو مازن اقتراحا شبيها العام الماضي، يقضي بضم 1600 كم مربع من مساحة سيناء وشريطها الساحلي إلى قطاع غزة، لتزداد مساحته خمسة أمثال، فيستوعب دولة فلسطينية جديدة تضم اللاجئين الفلسطينيين من جميع الدول العربية، وتكون منزوعة السلاح. وبالنسبة للضفة الغربية فإن المدن الفلسطينية فيها تُمنح حكماً ذاتياً تحت السيطرة الإسرائيلية. وبذلك تنتهي المطالبة الفلسطينية بحق العودة، وبحدود يونيو/حزيران 1967، ويكون هذا هو صيغة الحل النهائي.

ذُكر في حينها أن أبو مازن رفض المقترح ورآه غير واقعي ولا يمكن تسويقه، خاصة لدى الفصائل الفلسطينية المسلحة في غزة، وعلى رأسها حركة حماس.

تقارب حمساوي-مصري مفاجئ

شهدت الأيام الماضية اتصالات مكثفة بين النظام المصري وحركة حماس، بعد سنوات مما يشبه القطيعة، تزامنت مع حملات مكثفة من الإعلام المصري والسياسيين المحسوبين على نظام 30 يونيو/حزيران لشيطنة حركة حماس، واتهامها بدعم الإرهاب في سيناء، انتقاما من عزل الرئيس الإخواني محمد مرسي القريب أيديولوجيا من حركة حماس.

توجت الاتصالات

بزيارة


موسى


أبو


مرزوق

نائب رئيس المكتب السياسي لحماس للقاهرة أواخر ديسمبر/كانون الأول الماضي، وهي أول زيارة لمسئول حمساوي كبير للقاهرة منذ أشهر، يتخللها تصريحات مشجعة.

كما سمح النظام المصري بفتح معبر رفح بشكل أكبر، وأعلن عن البدء في تسهيل دخول البضائع الحيوية التي يحتاجها القطاع المحاصر من مصر، خاصة مواد البناء التي يحتاجها القطاع لإعادة الإعمار بعد الحرب الماضية المدمرة في صيف 2014.

فسر الكثيرون هذا التقارب بالحاجة البراجماتية لكل طرف من الآخر. حماس لا مفر لها من قهر الجغرافيا، التي تجعل القطاع جيبا صغيرا في الجوار المصري لا مفر له من التعامل مع من يقبض على زمام السلطة في القاهرة أيا كان. خاصة مع تطاول الحصار لأكثر من تسع سنوات، والحاجة الماسة لقطاع غزة لتسهيلات مصرية في السفر والتجارة.

وفي المقابل تحتاج مصر من حماس دورا فعالا في مساعدة جهودها لضبط الأمن في شمال سيناء في مواجهة الهجمات الإرهابية المتواصلة. لكن بعد التصريحات الإسرائيلية الأخيرة، بدأ البعض يعتبرون التقارب المصري الحالي مع حماس تمهيدا أوليا لإقناعها تدريجيا بالخطة الجديدة، والتي بالطبع لن يمكن تنفيذها دون موافقة الفصائل في غزة.

ترامب وإسرائيل: لا صوت يعلو فوق صوت مواجهة إيران

سنحاول أن نضع التقارب المصري الحمساوي في إطار الترتيب الأكبر الذي بدأ التمهيد له في المنطقة الآن منذ أن بدأ العهد الترامبي.

لم تتوقف حملة ترامب على إيران وتوعده لها، خاصة مع

اتهامه

لها بأنها الراعي الأكبر للإرهاب في العالم، حتى بدا كأن المهمة الأساسية الخارجية لترامب هي مواجهة إيران، وإلغاء كل ما توصلت له إدارة أوباما السابقة معها من تفاهمات، خاصة الاتفاق النووي الذي انتقده ترامب كثيرا.


الترتيب

المفترض – والذي أشار له أيوب قرا في تصريحاته – يقضي بعقد تحالف موسع بين إسرائيل والدول العربية السنية «المعتدلة» كمصر والسعودية والأردن، وذلك لدعم إسرائيل في مواجهة إيران تحت غطاءٍ من إدارة ترامب. ولا شك أن تحالفا كهذا لا يمكن إمراره بسهولة على الشارع العربي، إذا لم يصحبه جديد في الملف الفلسطيني الشائك.

هل رفعت جرائم بشار الأسد والثورة المضادة من سقف الإجرام الإسرائيلي؟

بالرجوع إلى حصاد الحروب الإسرائيلية الثلاث الكبرى ضد قطاع غزة 2008، و2012، و2014، منذ الحسم العسكري لحماس في صيف 2007. سنجد أقصرها وأقلها خسائر حرب 2012، والتي تزامنت مع قمة موجة الربيع العربي المعادي لإسرائيل، والذي صاحبه تضامنا كبيرا شعبيا ورسميا مع القطاع خاصة في مصر.

في المقابل سنجد أن أشدها عنفا وإجراما وخسائر بشرية ومادية على القطاع وأهله كانت

حرب


2014

التي استشهد من جرائها أكثر من 1700 فلسطيني، والتي جاءت في خريف الثورة المضادة ضد الربيع العربي. إذ جاءت بعد أقل من عام من مجزرة الكيماوي في غوطة دمشق أغسطس/آب 2013 والتي راح ضحيتها 1400 سوري في مناطق المعارضة. وكذلك مذبحة فض ميدان رابعة في قلب القاهرة والتي راح ضحيتها المئات من مؤيدي الرئيس المصري المعزول محمد مرسي. والآن بعد أن صال وجال بشار الأسد وحلفاؤه في دماء السوريين، وكذلك داعش في دمائهم ودماء العراقيين وغيرهم لسنوات، دون حساب يتناسب مع حجم الجرائم. فإن إسرائيل التي كانت دائما فوق الحساب والمراجعة أجدر بألا يسائلها أحد إن أرادت أن تطور أساليبها الإجرامية لتحسم مسائلها العالقة خاصة مسألة غزة.

بين حلب وغزة: هل تقدر إسرائيل على مجاراة ما فعله بشار وحلفاؤه؟

تمكن النظام السوري وحلفاؤه في النصف الثاني من 2016 من حسم معركة حلب الكبرى والاستيلاء على حلب الشرقية بالكامل، والتي كانت تعد النطاق السكاني الأكبر في أراضي المعارضة. استخدم الروس والإيرانيون والسوريون طريقة جروزني – عاصمة الشيشان – في سياسة الأرض المحروقة مع حلب، وبذلك تمكنوا من الاستيلاء على حلب كاملة والتي تعد أكبر مدن سوريا.

قطاع غزة الذي يسكنه الآن أكثر من مليونيْ فلسطيني، بينهم عشرات آلاف المسلحين المقاومين لإسرائيل، والذي يمثل واحدة من أعلى الكثافات السكانية في العالم، هو صداع مزمن في خاصرة إسرائيل. خاصة منذ الانتفاضة، والتي اضطرت إسرائيل بعدها للانسحاب الأحادي من القطاع في 2005 تجنبا للمزيد من الخسائر لدى جنودها ومستوطنيها.

فشلت إسرائيل على مدى أكثر من عقد من الزمان – بالحصار وبالحروب المتتابعة – أن تعيد احتلال القطاع، وتكسر شوكة الفصائل فيه. كان السبب الرئيسي في هذا الفشل بعد صمود أهل القطاع ومقاوميه، هو عدم قدرة إسرائيل والمحيط العربي والرأي العام الدولي على تحمل الخسائر البشرية الهائلة التي قد تنجم عن إصرار إسرائيلي عنيف على احتلال القطاع بأي ثمن، إذ لن تقل فاتورة الخسائر عن عشرات الآلاف من القتلى الفلسطينيين ومئات أو آلاف الإسرائيليين، وكذلك مئات الآلاف من اللاجئين.

لكن الآن مع أخبار مئات القتلى يوميا في اليمن والعراق وسوريا، فإن هذه العوائق الإنسانية لن تجد نفس الصدى السابق، إذا حسمت إسرائيل ترددها وحصلت على الضوء الأخضر الأمريكي الفعال، والضوء الأخضر العربي الصامت.

السيناريو الأسوأ

سننطلق من افتراض صحة تصريحات الوزير الإسرائيلي. بالطبع سيأتي الرفض المؤكد لهذه الخطة من فصائل غزة بالأساس حتى لو وافقت القيادة الفلسطينية السياسية رغبا أو رهبا. وبعد أن تفشل كل وسائل الضغط السياسي من مصر وغيرها، ينتقل السيناريو إلى الحسم العسكري لفتح المجال لتنفيذ مخطط غزة-سيناء.

تستغل إسرائيل أي ذريعة وتقوم بعملية عسكرية واسعة لاحتلال كامل الضفة الغربية شبه منزوعة السلاح الآن. تندلع الأوضاع في القطاع، فتشن إسرائيل الحرب الأوسع والأعنف ضد القطاع، وبالطبع تمتلك إسرائيل وسائل للأرض المحروقة أقوى كثيرا مما امتلك النظام السوري، يضطر آلاف الفلسطينيين للجوء، وتفتح لهم مصر الحدود بالتنسيق سريا مع إسرائيل، ويتحقق السيناريو بحكم الأمر الواقع.

يبدو السيناريو صعب التحقق، لكن علّمنا الواقع العربي في السنوات الأخيرة أنه لا شيءَ مستبعد أبدا. لكن سيظل صمود الفلسطينيين على ثوابتهم العامل الأقوى في مواجهة مثل هذه السيناريوهات، وأيضا أي استفاقة لإيران من غي التمدد وجنون القوة قد يسهم في نزع فتيل جنون رد الفعل العربي والخليجي، فيُفشِل محاولات التجييش الإسرائيلية.