يقول لاجئ سوري:

تنقلت من بيت القدس لبيت الشام، ومن بيت الشام لبيت بيروت، فقدت بهجة الرجوع للبيت.

في فيلمها الوثائقي الأول «مسكون»، تستعرض المخرجة السورية «لواء يازجي» في 118 دقيقة علاقة تسعة سوريين ببيوتهم، منهم زوجان عالقان في بيتهما لا يبرحانه بسبب الحرب الدائرة بالخارج، وتتحدث إليهما لواء عبر تطبيق «سكايب».

في مشروع «منامات السوريين» وهو مشروع لتسجيل أحلام السوريين بعد الثورة، لمعرفة إلى أي مدي يؤثر الوضع الحالي في اللاوعي الجمعي، يقول أحد السوريين؛ «حلِمت بمدينة جديدة تبتلع كل الأحجار والفتات المهدمة، وسياخ الحديد والرمل والتراب، لتبني بيوتاً جديدة استطعت أن أتسلقها»، من هنا نستطيع البدء لنفهم علاقة السوري ببيته الذي يسكن كل منهما الآخر.

في «مسكون» من الفعل «سَكَنَ» أي استقرّ، تستكشف «لواء» علاقة السوريين بالمكان بعد الحرب/ الثورة، ببيوتهم، التي خرجوا منها مضطرين، ومواجهتهم لصحراء العالم، للمرة الأولى بلا سماء ولا جدران، يواجهون العزلة وحدهم. فإذا لم يتركوا هذه البيوت سيكونون عرضة للحبس فيها لشهور، لا يقوون علي الخروج حتي يموتون جوعا، أو قصفا، كل سبل الموت متاحة.

اقرأ أيضا:

حكايات اللاجئين: قوارب نجاة بين ضفتي هلاك

بكاميرا مهزوزة صورت لواء آثار الدمار نتيجة القصف العشوائي من طائرات النظام والطائرات الروسية، والذي بدت آثاره في كل مكان، تبعًا لقانون الحرب المعروف؛ «الأرض التي لا تستطيع الحصول عليها، احرقها»، تحول كل شيء لركام.

ركوة القهوة التي ظل الزوجان يصنعان فيها القهوة لمدة أربعين عاما، صورهما القديمة، الحوائط التي شهدت على حياتهما، كان عليهما أن يتدربا سريعًا لنسيانها.

إذا قُدّر له النجاة، سيضع السوري حياته كلها بحقائب ينقلها من مكان لمكان، لا يعرف هل هو لاجئ أم مهاجر أم مُشرَد أم مَنفي، تغيّرت هويّاتهم بمجرد أن تركوا بيوتهم.

الإنسان الذي ينزح لا نستطيع أن نقول إنه نازح إنه ليس فاعلاً، هناك من دفعه للنزوح. النازح عليه أن ينسلخ كالقشريات من جلده أو بيته، الذي تهدم معه ذكرياته، وكل دليل على أنه كان هنا في وقت من الأوقات، ثم يعيش في نوستالجيا أبديّة للفردوس المفقود، يبحث عن البيت، الذي يقول عنه يقول «ماكس بيكار» إنه مثل الأنبوب الذي يشفط البشر بداخله، بواسطة تفريغ الهواء.

يمكن القول إن للسوري ذاكرتين، واحدة قبل الثورة، وواحدة بعدها، يقول أحد المهاجرين بيأس «شو ممكن يعطي دلالة إني كنت عايش هاداك الوقت». وما هو مفهوم البيت بالنسبة للاجئ، هل يَعتبر المخيّم بيتاً، أم يعتبر البحر الذي يسافر عبره بيتاً، أم إنه يعيش في بيوت الذاكرة.

في كتاب «جماليات المكان» يقول جاستون باشلار:

إن ماضينا يأتي كاملاً ليسكن البيت الجديد، الأماكن التي مارسنا فيها أحلام اليقظة، تعيد تكوين نفسها في حلم يقظة جديد.

البيت بعد وقوع المجزرة لم يعد هو نفسه، أصبح بيتاً مليئاً بالخسارة، جمعوا في الحقائب ما استطاعوا حمله، وتركوا خلفهم أشياءهم التي لن يستطيعوا نسيانها للأبد.

اقرأ أيضا:

كيف يرانا الآخر: 8 أفلام ألمانية تتحدث عن المهاجرين

من مخيمات لبنان يقول أحدهم بسخرية: «خرجنا من بيوتنا بمساعدة القانون الدولي»، ويستعجب كيف يأتي فرد ويأخذ مكانه، يشعر أنه مستباح، كان يظن أن حياته في هذا البيت كانت ستستمر للأبد، ويقول آخر؛ «هذه أقذر حرب عرفها التاريخ، يدّعون حماية المدنيين، ويقتلون الجميع».

بصورة سيئة عبر تطبيق «سكايب» يتحدث الزوجان عن الحرب التي لا يستطيعان فيها سماع صوتهما بوضوح بسبب دوي المتفجرات الدائر ليل نهار، يرفعان أصواتهما لتطغى على صوت العَجلات، كما يقول «أمل دنقل».

تقول السيدة: «عندما أري بيتا قد تهدم أحس بأنه مات، فللبيوت أيضا أرواح وأجساد»، لكنه بالطبع سيظل في ذاكرة أصحابه للأبد كما يقول باشلار:

نظرًا لأن ذكرياتنا عن البيوت التي سكناها نعيشها مرة أخرى كحلم يقظة، فإن هذه البيوت تعيش معنا طيلة الحياة.

يذكر أن لواء يازجي، شاعرة وكاتبة، من مواليد دمشق 1977، بدأت عملها في السينما في عام 2011 كمساعد مخرج في فيلم «نوافذ الروح»، وكتبت مسرحيتها الأولى في عام 2012 بعنوان «هنا في الحديقة». فكرة «البيت»، و«السكن» كانت حاضرة في أعمال لواء، فقد حمل ديوانها الأول عنوان «بسلام من البيت نخرج».

وعن هذا الفيلم تقول لواء، إن التصوير في سوريا أمر صعب للغاية، خاصة في الأماكن التي يُسيطر عليها النظام، التصوير وعبور نقط التفيش كان مخاطرة، بالإضافة إلى أن التصوير في منطقة حرب يَفرض وجود شريط صوتي من القنابل، ويسبب صعوبة في تسجيل الأصوات بوضوح، لم تستطع إدخال معدّات كبيرة للتصوير، فقط أدوات قليلة جداً، بعض الوقت كانت تصوّر بنفسها بدون مدير تصوير، حتى لا تسبب أزمات للأشخاص الذين يتم تصويرهم.